كان الشيطان و ابنه يلبسان أبهى حلتين ، و يتجولان في سوق أسبوعي ، كانت تفوح من جسديهما رائحة الخزامى . لم تكن بادية عليهما وعثاء السفر ، كأنهما نزلا على التو من السماء . في الوقت الذي كان فيه الأب هادئا ، كان الاضطراب باديا على الابن الصغير ، فكان يحتمي بوالده ويمسك بتلابيبه . كان الناس يفسحون لهما الطريق . و إذا دخلا إحدى المقاهي الشعبية فرّش لهما صاحبها الفُرُش و بسط أمامهما السفرة و جاءهما بالشواء و الشاي . لم تكن أيديهما تمتد إلى الطعام . و كان الناس يتحلقون حولهما لتّملي بطلعتهما البهية . كان كل من رآهما يترك ما بيده من أمور التجارة و الصناعة و يتبعهما كالمسحور حتى تعطل السوق نهائيا . و سكت الناس عن الصياح . فقط ،كانت الحمير تنهق بقوة نهيقا غير عادي . و تعض و ترفس كل من اقترب منها ، حيوانا كان أو إنسانا . في غمرة هذا الاحتفال غير المعلن ، نطّت من وسط القوم عجوز شمطاء و اتجهت مباشرة إلى القاعدين أمام الجموع . كانا لا يكلمان و لا ينظران إلى أحد . لما رآها الشيطان نهض من مكانه و قبّل رأسها و أجلسها قربه . و بإشارة من يده أمر القوم بالانصراف . و دار حديث خافت بين الاثنين. حتى أولائك الذين كانوا وراء الخيمة يسترقون السمع لم يسمعوا شيئا . سمعوا وشوشات امتدت إلى الزوال.إلى وقت انفظاظ سوق البادية ذاك . خرجت العجوز من الخيمة و في أثرها الشيطان و ابنه . و شقوا طريقا جنوبيا عكس الطريق الذي يأتي منه " السوّاقة " . و أعين الناس مشدودة إليهم حتى اختفوا وراء التل. انتبه الناس إلى أنفسهم و تجارتهم فوجدوا أن الحيوانات في غفلة منهم أكلت الخضار و الفواكه و اللحوم و أتلفت بقية السلع الأخرى . لما عاد السواقة إلى دواويرهم كانت كل أحاديث سمرهم تدور حول ما وقع يوم السوق ، على الشخص الصافي البشرة الأزرق العينين الأحمر الوجنتين الفاحم الشعر . و ذلك الطفل الصغير الذي كان صورة مصغرة لأبيه . قال أحد القرويين : - عطسه من منخاريه . و من يوم السوق أصبحت للعجوز قيمة عند أهل الدواوير . هي من قام إليها القادم الغريب و قبّل رأسها و جالسها ساعات عدة . لعلها أخذت كل بركته و امتلأت بسره . فما أسعدها و أسعد الدواوير بها !! . كان القوم يولِمونَ و يستدعون العجوز، و يرجونها أن تحدثهم عن الغريب ، و هي ترفض و تغضب . كانت الدواوير على وفاق تام حول الماء و العشب . و سادت في المنطقة فترة جميلة من السلم و الأمن . أعقبها ازدهار في الحرف و التجارة و الفلاحة أغاض الشيطان. فقام بتلك الرحلة ، و كانت قد سقطت من يده كل الحيل للإيقاع بالقوم و العودة بهم إلى التطاحن . فما كان منه إلا المجيء إلى السوق في تلك الصورة البهية ، و اللجوء إلى تلك العجوز دون غيرها . كان يعلم بذلك الغل الذي كانت تحمله لسكان الدواوير بعد مقتل زوجها و أولادها الثلاثة في معركة مجنونة . امتدت من صباح يوم مشئوم حتى ليله . سالت فيها دماء غزيرة . زارها الشيطان ليلا في خربتها و طرح عليها أمر إعادة القوم إلى سالف عهدهم من التطاحن و الخسران . وجدت العجوز في الأمر غاية انتقامها و أقسمت للشيطان بأغلظ الأيمان أن تكون عند حسن ظنه بها لكن بشرط أن يعيد لها اعتبارها بين القوم . و ذلك ما فعل يوم السوق . سألها كالأبله كيف ستنفذ الأمر . نهرته بشدة و قالت له : - شوفْ و اسكتْ !! رد بخضوع : - سمعا و طاعة يا أمي . مرت العجوز إلى مرحلة التنفيذ . و اختارت لذلك زوجة أحد أبناء الأعيان . زارتها في منزلها و طلبت منها أن تصنع لها ك *** ا بالحمص و الزبيب . ففعلت . و أثناء تناول الطعام طلبت العجوز من السيدة أن تأتيها بملعقتين . و بدأت تأكل بهما من موضعين متباعدين في الصحن . و السيدة تأكل قبالتها مستغربة.دخل الزوج و سلم على العجوز و رحب بها . رفعت العجوز عينيها إلى الزوج و قالت لزوجته : - أهذا الذي كان يأكل معنا قبل قليل ؟ تحولت إجابات السؤال إلى دماء سالت غزيرة بين أهل الزوج و أهل الزوجة ، انخرطت فيها الأحلاف ، و عاد التطاحن بين الدواوير . و رقص الشيطان و أمر ابنه أن يرقص. وأهدى للعجوز منديلا من الحرير الخالص. عقده في طرف قصبة طويلة و مده إليها على بعد أمتار . ضحكت العجوز ملأ شدقيها و سألت الشيطان سؤالا استنكاريا : -أَكُلُ الشياطين تهدي الهدايا بهذه الطريقة ؟ رد مبتسما : - لا يا أمي ، لكن الاحتراس واجب . - الاحتراس مماذا ؟ - من القمقم . ذ. محمد مباركي