( إلى كل من آمن بالطريق ، وهم نخبة من قلة وكأنهم فكرة على الرغم من أنهم خاضوا التجربة وذاقوا مرارة حلاوتها وعذاب عذوبتها... إلى محمّد أسد ، وفريد الدين العطار، وابن طفيل ، وإيف بونيفوا ، وبورجيس...على وجه الخصوص ) (1) أقفُ عارياً ، تراقبني عيونُ الليل السوداء ، وقد صبّ في بحر وحْدتي هذا الصمتُ المنسابُ على رمال الصحراءْ ، في قعر بئر بلا قرارْ... نزلتُ لأغتسلْ فلمستُ وجهَ القمرْ فرأيتُني بعيونه على مرآة الماءْ أرتجّ أهتزّ أمشي في الزمنْ متردّدًا متراجعًا متمايلاً من سؤال إلى سؤال ووجودي يمتدّ من هناك ، ممّا قبل الميلاد إلى هناكْ ، ممّا بعد المجهول من المكتوب ، من المعلوم ، إلى الغيب ، إلى الطريق... وجدٌ وجنوح عشقٌ وجنون بالحبّ بالحياة بالخلود... وقدري، خطوه تلو خطوه، آتْ عَبراتٌ تليها بسماتْ آهاتٌ تليها كلماتْ شذراتُ آلامٍ تُعصَرُ نوراً قطراتٍ ثمّ قطراتٍ تليها قطراتْ... ضحكاتٍ من الشمس همساتٍ من الورد قبلاتٍ من القلب... (2) بالأمس لم أكنْ واليوم لا أظنْ أنّي شيئا أزنْ في معنى الوجودْ... فأنا ما زال يستهويني استنجادُ الواحات ، وتجذبني ظلالُ الأشجارْ... فأنا ما زالت تعجبني ضفافُ الأنهارْ جوَلاتُ الشواطىءْ أمَواجُ السواحلْ وصولاتُ السائحين... أنا في السوق الحاميه ما زالت تخدعني أصواتُ البائعين ويستفزّني طنينُ الأواني وبريقُ السلع المزورّه... قد خفِضتْ طيوري جناحها حنيناً إلى الأوكارْ قد تبعتْ أناتي هواها تمشي الهويدى متمايله حول الكراسي والموائد والأطباق... لمَ هذا الرّنين ؟ وهذا الصدامُ بين الأقداح ؟ أ نحو الشهرةِ تقودني الغريزةُ في غرور ؟ أ نحو الغبطةِ يقيئني التفجيرُ في فجورْ ؟ أتُراني محلقا في دنيا الكلام مع سرب من أنامٍ في سراب ؟ إلى مَ يريدُ هذا اللغوُ في لغتي ؟ وهذا اللهوُ المتنقل بين أوراقي ؟ ينتهزني فتزلّ كلماتي وينعقدَ لساني... ؟ آهٍ ! آهٍ منّي ! آهٍ من سهْوي ! غرق الزمنُ الحيّ القلقْ في كأس الآن الملآنْ عشق عقربُ الساعة الشفقْ فوقفْ يتأمّلْ من تحت الجسورْ يتلذذ ْبسكون الغروبْ فتخلى عن فوقٍ ، عن العبورْ وابتُليتُ أنا بالنسيانْ ........................ فضلتْ ذاكرتي الطريقْ ! (3) هل أرمي بنفسي في جوف الأحداثْ ؟ فتمضغني بنواجدها وتطحنني بنواعرها ثم ترميني بسواعدها إلى أبعد مكانٍ في الطيش والمجونْ إلى أعمق مغارٍ في الحمق والجنونْ ؟ بأي حق تريدُ الرياح أن تشتّت بُذوري تبعدني عن جذوري تتركني أحملق حولي أحلم بالشمسِ أبحث عن الماءِ أجري لاهثا وراء الظلِ... ؟ (4) ما هذه الضحكات الحادّة المرتطمة ؟ أهي شلالٌ أم أقوالْ ذاك الفيلسوف الجوّالْ المحِبّ للجدالْ ؟ الساخرُ منشارٌ سكّينْ يقطعْ حبْلَ اليقينْ يرجمْ عقلَ أحلامي بالشوّاظ من الكلام النافي : أنت بهذه الحكمه الحكيمْ ! حذار ! خذها عبره ! ما أنت إلا لحظه النسيمْ فانية ٌهيَ نغمه النعيمْ كالكأس في نشوه تأخذه من يد النديمْ ضاحكا يكادُ ينسابُ وترجعه فارغا ترتابُ ! (5) كم من مرّه زهدتُ في نفسي تركت عتادي هاجرت بلادي عاديت أولادي تخليت عمّا عندي وخاصمت أهلي والجيرانْ وأطفأت فرْني والنيرانْ ....... وتلحّفتُ بالخروجْ وتحزّمت بخيط الشروقْ وتغطّيت بالخفاءْ وملئت عيني بالفضاءْ ومطيت صهوة السماءْ وكبحت شهوة الدماء نزواتِ الحيوان الجائع الخطير ومزجت أنفاسي بالاثير... وتمططت في المساحات... حشوتُ شرايين الجبال والصخور بذرّات بدني وسقيت بلايين العروق والجذور بميّاه أملي وشرّحت شآبيب الألوان وفتحت براعم الأغصان بنُوّار بصري وتوغّلت في الغابات والأدغال فغِبْتُ وتجليتْ وطِرتُ وتوحّشتْ وكانت ريحي قائدي فلبيت نداءها وصفّرتُ وذوّيتْ إلى الأمام دون نظرة دون خطوة إلى الوراء... (6) إلى أينْ ؟ أتعرفْ ؟ يافاقد العقلْ ؟ ياعاشق النحلْ والمرّ من العسلْ تمهّلْ ... تمهّلْ... ويشدّني يبعدني ويضمّني يطلقني صوتٌ خافت بعيد قريبْ يَفتِنني حنينٌ باهت قوي مريبْ يُرعِبني يرهبني يَصْعَد ُمن غياهب القِدَمْ يبوح بسرّ عميقٍ مخيفْ يُزَعْزعُني : " في البدء كان السؤالْ وكان الخروجُ وكانت الجراحُ والدموع والآهاتْ وكم هو اليومَ بعيدْ وقتُ الجوابِ موعدُ الرجوعْ ". (7) كم من مرّه وجدتُ نفسي على حافة الطريقْ واقفا أنتظرْ أرفض السيرْ أتجرجرْ دون المتر مساحتي أنا أتبخترْ دون الشبر فضائي أنا عاجزٌ عن المرور... يزهو عنقُ طاووسي على أنفي أتأبّطُ بطني أتأمّلُ رجلي أترنّم بعدوّتي الحبيبه أناتي الضيقه الرحيبه أتلذّذ بحكّ مؤخرتي أتتبّع بذكَرغريزتي نبَضَ الوعد الأنثوي الفاتن المتدفق الفتي شموخُ القمم العاليه الملوّنة المزهِره في عوالم الحَلمات الناضجه يَتحدّانى... وأنا ياوَيْحي من صَدَئي أنا الحفارُ وياويح أحلامي أنا الساطورُ الوائدُ العربي تمُرّ الشموسُ والأقمار والنجومْ ناشدة صادحه راقصة ضاحكه وأنا الطوّافُ بكعْبةِ أناتي لا سامعٌ أنا الأصمْ لا ناطقٌ أنا البَكمْ لا فاهمٌ أنا الغبي لا باصرٌ أنا العمي... فما كلمني أحدْ وما نظرَ إلي حيوانٌ أو بشرْ ....... (8) كم من مرّه عند المفترقاتْ أخذني الدوارْ فاحترتُ ولم أدر ما الخيارْ وما زلتُ إلى الآنْ مع نفسي في شجارْ : إلى أين الفرارْ ؟ " عديدةٌ هيَ قِبلات سفركْ ولا متناهيه وِجهات قدركْ " هكذا قال لي صوت الطريقْ لا رصيفٌ لا وقوفْ لا وصولٌ لا نزولْ... طريقك خلْقٌ وخلُقٌ وتحليقٌ في الأهواءْ طريقك شكٌ وعراكٌ واشتباكٌ بالأشواكْ طريقك غامظٌ كالغيبِ خاطف ٌ كالبرقِ طائرٌ كالشوق سائرٌ في العِرقِ غريبٌ في الغربِ بعيدٌ من الشرقِ وأنت الطارقُ في انتظارٍ لكل الأبوابْ... وأنت الخارقُ في احتراقٍ لكل حجابْ... (9) هناك فيما وراء الوديانِ والتلال والجبالْ في مكان سحيقٍ قلبَ الرؤوس العالية الواقفه تحت نعاس السحابْ انبثق نورٌ وفاضْ ما أحلاها وأجملها من سيمفونيّه فجرُها كصياح الديكْ... فطلعتْ صوره سناءً في ضياءْ معجزه باسِمه... ففزعْتُ وتمتمتْ : أنا !؟ مستحيلْ .. لستُ أنا ! فرجع الصدى يقول : نعم .. هو أنتَ !!.. هذا أنتْ !! (10) كنتَ البدايه سؤالَ الطريقْ وأنت النهاية جوابُ القرين : الآن ، وبعد أن رفعتَ الستارْ ستسبحُ في بحورٍ من أنوارْ وستفنى في الخلودْ في حياةٍ من سلامٍ في أبدْ في أبدٍ من حياةٍ في سلام... سلامٌ... سلامٌ... سلامْ...