تملكه شعور غريب، وهو يقتعد كرسيا قبالة البحر، ومئات من الأجساد العارية المبتلة، تنسحب هاربة من حطام الأمواج، متعبة ومتهالكة، وكأنها تخلصت من جميع أشكال ذنوبها دفعة واحدة.. وكانت بجانبه الأيسر على كرسي آخر، غضة طرية، تنظر إليه بعيون أشبه بغيمتين غارقتين في وهم المطر، ولكن من يراها يظن أنها كمن تبحث عن أجوبة شافية، لأسئلة قديمة علقت سهوا، بمسامير صدئة، على أكتاف نجم تائه في فضاء منسي.. لم تشح بعينيها عن وجهه.. ربما أدركت بروحها العفوية، عمق أسراره، ولمست أول خيط يقود إلى دخيلته المسكونة بالضوء الخافت، والاحتراق البطيء.. لذا باعثته بسؤال خاطف، في محاولة منها لاستدراجه إلى فك العزلة عن صمته: فيم تفكر؟ لا شك أن المكان بعث في نفسك ذكريات جريحة؟ تنهد بحرقة شديدة.. ثم بلع ريقه، وخفض عينيه، وراح يقلب في أرشيف ذاكرته، عن مصدر شعوره الغريب.. تسابقت عشرات من الجراحات اليقظة، تمخر في استعجال، فضاء ذاكرته، وتوقظ في أجزائها المختلفة، ألوانا من اللهب الأحمر، والضربات الأليمة، وأسئلة محشوة بالظل، وأسئلة أخرى تعاند في الانتصاب، بحثا عن معنى الصرخة، التي اندلقت من جوفه في ذلك اليوم، وهو يشاهد ببلاهة واندهاش، عملية انتحارها، أو كما كانت تبشره بذلك وتقول له، كلما امتد بينهما موج من صفاء الذات "سأنجو يوما من هذه الحياة التي ترفض الاعتراف ببهاء الموت، وتقبل بخنوع، ابتلاع المكان والزمان والخيانة ورذيلة الليل والحانات والطرقات المملوءة بالعيون المتلصصة والمتربصة".. قال في نفسه: "متى أستطيع الانفلات من أشباح الماضي التي تمتص بشراهة عظامي المسحوقة، وأمسك بيدي المرتعشتين هاتين، تلابيب حاضر تمكن من الهروب بنجاح خارق، من دمها الطري الذي ما زال يلمع فوق جدران كآبتي المليئة بالشقوق، ومن لهفتي المشنوقة على طيف مغاراتها الحزينة" زادت عيناها البلوريتان لمعانا، وهي تصوب نحو وجهه المثقل بوجع الذكريات نظرات استفسار حادة.. وعادت بلهجة ساخرة، تحاول نسف دورانه حول مركز صمته: لو كنت اعرف أن البحر نقطة ضعفك، لدعوتك منذ وقت طويل إلى موائده الرملية، وملأت جوفك بكؤوس مترعة من خمرته الزرقاء، وحرضت أمعاءك ومعدتك على القيء، لعلها بذلك تفيض لنا مع قيئك الحامض، سر شرودك وتعلقك بين السماء والأرض. تحركت شفتاه بهمس غير مفهوم، وبدا كراهب يقرأ في خشوع قدسي، تراتيل سماوية، انزلها الرب في التو واللحظة.. رفع عينيه، وصلب حاجبيه، وأوقف شفتيه عن هتك شرف التراتيل المبهمة، ثم استدار نحوها، وأجابها بصدق تحاصره الحسرة من كل جانب: صحيح أن البحر يهزمني بسحره وروعة زرقته، لكنه أيضا يوجع ذاكراتي بسياط أحداث ماضية، لم أكن أبدا مسؤولا عنها.. ثم وضع رأسه بين كفيه، وتاه يبحث عن مبررات وثيرة، يمكن لضميره أن يرتاح فوقها، دون وخز أو ألم، إلا أنه انتفض فجأة، كمن مسه تيار كهربائي وقال بانفعال وتوتر: هي التي انطلقت تجري نحو الموج، وتغيب في لجته، أملا في الانتقام مني بدفعي إلى الشعور بالذنب والمسؤولية.. انتفضت دمعتان في غفلة منه، وانسابتا فوق خديه، وران صمت قصير ثم أضاف "بحثنا عنها كثيرا، وسبحنا في كل الاتجاهات، فلم نعثر عليها إلى الآن!" توقف.. وداهمه انهيار مألوف، وخراب معتاد.. فاسترجع شيئا من أنفاسه، بعد أن ترك للانهيار فرصته الأخيرة للاكتمال، وللخراب حق نشر رائحة غباره القديمة، ثم علق دون إدراك منه: لم تهرب.. ولم تستسلم لأي قدر مجهول.. بل اختارت لعبة دفن ماضيها، بإيقاظ آلامي، وبعث صور مبتورة من تاريخها المشحون بآلاف الأطياف التي لا لون لها.. هل كانت تستحق منك كل هذا الوجع؟ كانت أشبه بقصيدة حزن، تضخ فيمن يقرأها، رغبة نادرة في مواصلة الحياة وأملا صادقا في الحصول على الغفران الإلهي، كما كانت من حين لآخر، أشبه بعصفورة تنشر السلام واللوعة والوجوم الأبدي.. وكنت أنا بجانب جسدها المرمري، وعينيها المشتعلتين، ورائحتها القادمة من أزمنة المدن العتيقة، أشعر بالفرح والخلاص والاحتراق، فأسرع لضمها إلى صدري، والإلتصاق بنهديها وشفتيها، وشبك أصابعي بأصابعها الرخوتين، طمعا في التوحد والنجاة.. أحببتها بكل هذه الحرارة؟ تنهد من جديد، واعتق من صدره زفرة عميقة، وراح مرة أخرى، ينقب عن أثر غير دام، في ذاكرته المجروحة بالثقوب اليابسة: أحببتها بدرجة تجاوزت قوة العجز.. وأشفقت عليها بدرجة تماثل ذروة الحنو، وتفوق حدة الندم.. سكنته رعشة صوفية،وهو يتذكر كيف ثارت أمامه وامتلأت غضبا ونارا وشموخا، حين صارحها، بأنه يحبها ويشفق عليها في آن واحد، وكيف هددته في تلك الليلة الغامضة، بحرمانه من النظر في وجهها العصفوري المتسلل إلى رحاب الرهبة والبراءة إلى الأبد.. كانت الرعشة قد اعتقلت أوصاله كاملة، فتمططت أوعية روحه، وانفجرت دماء باردة في عروق جسده المتهالك، وخيل إليه، أنه يطير بجناحين كبيرين، في سماء ذات أزقة ودروب وشوارع، لا تحمل أي عناوين أو أرقام.. ثم انتبه فإذا البحر، يسرع في تقليص مساحته، والشمس في جر أقدامها في انكسار و انهزام، إلى مثواها المسائي، فحدق بإمعان في وجهها الطفولي، تتملكه رغبة جائعة، في لف ذراعيه حول عنقها، وضم صدرها إلى صدره المرتعش.. حرك شفتيه، وهمس بصوت مسموع تميزه نبرة حارة دافقة: أحس بشعور غريب لم أعهده من قبل وأنا بجانبك! لم تشح بعينيها عن وجهه ،واعتلت شفتيها البنفسجيتين، بقايا ابتسامة رخامية، فتوسلت إليه في صمت روحي، موغل في العطف والرجاء، وقالت في نفسها، بعد أن عصرت صورة وجهه الهلامية داخل عينيها البلوريتين: كف عن تعذيب نفسك، وارحم ثقوبك الجريحة.. ولا تتردد في التقيؤ بحرارة، وإخراج كل حموضته من أمعائك، ومن معدتك، ومما تبقى من ذاكرتك.. ملأ عينيه إلى حد الشبع، من وجهها الشاهد على وحشية زمن العولمة والصخب المرعب، وزاد قائلا: ماذا فعلت بي.. أخاف أن يكون سحرك، قد تمكن من تسريب مفعوله القاتل إلى القطرات اليتيمة من دمائي الجارية في ثقوبي اليابسة.. انتفخت مزهوة بنفسها، وراحت تنظر في شرود و خجل، إلى حذائها ذي الواجهة المربعة، وهي تحركه يمنة ويسرة، فلمس كفها، وقلص من المسافة الفاصلة بينهما، ومد أنفاسه المرتبكة إلى أنفاسها العطرة، وغابا في ملاحقة عالم لا يعرف الجثث، ولا عظام الموتى، ولا صور الغرقى، ولا دمها اللامع على جدران دخيلته المسكونة بالألم والوهم والثقوب الواسعة ***