آه ! كَمُتَخَمِّنِ للحْظَة الأكْثَر وَحْدَة للِطّبيعَة، يَتصاعَدُ لَحْني كامِلا وفَريدا، في المَساءِ ويَتَكَرّر ما وسِعَه ذاك، ويُسَمّي الشّيءَ شيئا، ويَتساقَط مِن جَديد، ومِن جَديد يَسْتَعيد، ويُؤلِمُه فيما يُؤْلِمُه، الانتِحابُ المُنْفَرِد. الشاعر الكئيب
"جول لافورڭ" شاعر فرنسي من مواليد سنة 1860 ب "مونتي فيديو –أورغواي". وحين عودته إلى فرنسا، وعمره آنذاك ست سنوات، التحق بمدرسة "تارب" الداخلية، ومنها انتقل إلى باريس حيث تابع دراسته، دونما حصوله على درجة "الباكالوريا". ومن اهتماماته الشخصية، أنه كان كثير المطالعة، خصوصا في ميداني، الشعر والفلسفة. ولقد اطلع وهو لم يتجاوز سن العشرين، على كل من "بودلير" وشعراء النزعة "البارناسية"، بالإضافة إلى كل من "شارل داروين" و"سبنسر" و"شوبنهاور" وهارتمان" خصوصا، في ميدانه اللاشعوري. ويعد "لافورڭ" من الشعراء الذين أطلقت عليهم تسمية" شعراء الانحلال أو الانحطاط والتمرد"، الذين كانوا كثيرا ما يجتمعون في مقاهي الحي اللاتيني. ولقد حصل للشاعر "لافورڭ" أن التقى في هذه الفترة بعدة وجوه أدبية وعلمية وفنية. وعمل سكرتيرا بجريدة " الفنون الجميلة" ثم أصبح "قارئا" للإمبراطورة الألمانية "أغوسطا". ومن هذه اللحظة أصبحت حياته عبارة عن حركة ذهاب وإياب بين فرنسا وألمانيا. ولقد تزوج الشاعر سنة 1886 بشابة إنجليزية تدعى "لِيا لي" في لندن. ومن جديد عاد الشاعر صحبة زوجته إلى فرنسا في حالة عوز وفقر يرثى لها، ليتوفى بعدها بأشهر معدودة، محمولا بمرض السل، سنة 1887، وهو يناهز آنذاك من العمر سبعة وعشرين سنة. بداية الحداثة الشعرية ولقد بدأت تظهر بعض أعماله الأدبية، ونقصد كل من القصيدة والقصة القصيرة وبعض المحاولات الفلسفية، تظهر على صفحات الجرائد والمجلات المحلية، خصوصا تلك التي كانت تميل إلى الحداثة، أو بتعبير أدق، إلى التعبير عن "الحياة الحديثة". ومن أهم أعماله الشعرية في هذه الفترة، مجموعته الشعرية "نحيب الأرض" التي سيضمها فيما بعد إلى ديوانه "أغاني شعبية حزينة"، والتي لم تتهيأ لها إمكانية النشر إلا من بعد وفاة الشاعر. والشاعر في تجربته هذه، كان قد دخل في حوار مع الموت والحزن والتهكم والأسى. وهذه الظاهرة كانت سمة لمجموعة من الشعراء الفرنسيين، كانوا يدعون بشعراء "الإنحلال أو الانحطاط". ولقد كان هؤلاء قد ورثوا عن أواخر القرن التاسع عشر طعم هزيمة الإمبراطورية الفرنسية من ناحية وقمع انتفاضة "الكمونة" من جهة أخرى. ولقد جاءت حركتهم الأدبية، كفعل تمرد، وكرد فعل عن ظاهرة الطبيعة المتمثلة في البورجوازية الحاكمة، وعن سلطتها الأخلاقية. وهنالك من يعتبر الشاعر "شارل بودلير" أول من مهد لهذا التيار. وعلى غرار ما سبق وذكرناه، جاءت تجربة لغة "لافورڭ" الشعرية، قياسا على صورة هذا الكون، المتداخلة رموزه التراجيدية. لغة تجمع في أسلوبها ما بين الصيغ اللفظية الدارجة، ومصطلحات مستحدثة. وبإمكاننا اعتبار ديوانه "أغاني شعبية حزينة" منطلقا لمدرسة شعرية جديدة. بالفعل لقد كان تأثير هذه المحاولة الشعرية الحداثية، بآفاقها الرمزية والانطباعية واضحا، وذلك بالرغم من أن ديوانه لم يطبع إلا في سنة 1891م. وتتمحور تساؤلات الشاعر حول "التيمات" التالية: التساؤل عن الحياة، القلق الما ورائي، والتهكم والبحث عن الحب المفقود. ومن كل هذا، نسلط الضوء بشكل خاص على تجربته الشعرية الحداثية. فالشاعر يعد، بعد الشاعر "أرتور رانمبو" إلى جانب "غوستاف خان" من المؤسسين أو المبتكرين للشعر الحر في تجربته الفرنسية. أو بعبارة أخرى المبتدع للقصيدة المتحررة من وحدة القافية التقليدية. ولقد تأثر بكتاباته عدد كبير من الأدباء ذوي السمعة العالمية. وإذا نحن اقتصرنا على الأدباء "الأنجلو-سكسون" فبإمكاننا أن نسوق منهم مثلا: "لويس كارول" و"جيمس جويس" و"والت ويتمان" و"ت.إس.إليوت" المشهور بمطولته "الأرض اليباب" والذي كان، كثيرا ما يصرح، بأنه مسحور بشعر "لافورڭ". وفي الأدبيات الفرنسية نجد بصمات واضحة لكل من: "بول فرلين" و"أبولينير" و"مارسيل شورب" و"أندري جيد" و"جاك بريفير". ونسوق عنه في هذا السياق، شهادة الكاتبة الفرنسية "جان دوري"، التي قالت عنه، من كتابها "شعراء اليوم":وبيته الشعري يجري سلسا، متحررا من شكل محدد سلفا، وذلك في تنوع موسيقي مستمر... وكأني به قد أراد أن يمسك بما هو مؤقت بإحساس وحركة مستمرة. وإننا لنحس في مجموعته "الأبيات الأخيرة" بمحاولة الارتقاء إلى ما هو فوق الوصف، بإيقاع مستقل ومرونة تشبه رسوم نافورة". وأخيرا نقدم للقارئ الكريم هذه المقتطفات، التي نقلناها إلى العربية من أعماله الشعرية الشهيرة ونقصد: "أغاني شعبية حزينة" و"زهور ذات إرادة طيبة" و"أبيات أخيرة". من مجموعة [ نحيب الأرض ] فضول في غير محله -1- نعم، أَنا أُريدُ أَنْ أَعْرِف ! تكلموا لماذا هذه الأشياء؟ أين نجده ذاك الشاهد، من يعرف كل شيء؟ لأن الكون، يحتفظ بقلبه، في مكان ما .. منفرد بكل تحولاته ! ونحن ليس لنا، سوى ركن وحيد، من الصحاري الشاسعة ! -2- ركن ! وكل شيء هنالك، امتداد فصاءات إلى اللاّ متناهي ! شعوب إخوان أكثر سعادة ! أولائك من لن يجدوا، أبدا، يوما ما، آثارا لنا، حين بدورهم يسافرون، عبر هذه الأماكن ! -3- وما زلت أسائل وأسائل، بريبة وقلق جنوني ! لأنه ثمة لغز على الأقل، وأنا أنتظر وأنتظر، ولا شيء ! وأنا أصغي للساعات تتساقط ! قطرة، فقطرة. لكن بإمكاني أن أموت ! أنا ! وبإمكانه أن يصيره، حنينا، هذا الزمن. -4- أن تموت ! أن تصبح لا شيء ! وتدخل في السكون، أن تكون قد حكمت على السماوات، وانصرفت بهدوء، إلى الأبد ! دونما أن تعرف ! كل شيء إذن في جنون ! - ولكن من ذا الذي أخرسه، هذا الكون في غياهب الليالي؟ -------------- المستحيل -1- بإمكاني أن أموت هذا المساء ! مطر، رياح وشمس ! ستوزع في كل مكان، قلبي، أعصابي ونخاعي. كل شيء بشأني، سيكون انتهى، بلا حلم ولا يقظة. وكأني لم أكن قد كنت، هنالك في النجوم ! -2- وبكل المعاني، إنني أعرف، عن هذه العوالم البعيدة، حجاج قبلنا، وعزلة شاحبة، تمد نحونا الأيادي، في حنان الليالي، بشرية شقيقة، تحلم بوفرتها ! -3- نعم ! إخوان في كل مكان ! (أعلم هذا، أعلم هذا !) إنهم وحدهم مثلنا، يختلجون من شدة الحزن، في الليل ! يؤشرون نحونا، آه ! ألن نمضي أبدا؟ ويخفف بعضنا عن بعض، في هذه الاستغاثة الكبيرة !
-4- والأفلاك، يقينا أنها، ذات يوم ستتلامس ! وربما يلمع يومها، الفجر الكوني، هذا الذي ينشده هؤلاء المعدمين حين يمضون بفكرتهم على الجبهة، سيكون ضد الإله هذا الصخب الأخوي. -5- للأسف ! فقبل هذه الأزمنة، مطر، رياح وشمس، ستكون قد فقدت من بعيد، قلبي، أعصابي ونخاعي، كل شيء سيعمل بدوني ! لا حلم ولا يقظة ! وكأني لم أكن، في النجوم اللطيفة ! -------------------
من مجموعة [ أناشيد شعبية حزينة ] نشيد حزين للمرحومة الطيبة -1- كانت تسلل عبر الدرب، وكنت أتبعها ملهما، وكانت عيونها تقولك:" لقد توهمت، للأسف ! لقد تعرفت علي. -2- وتبعتها ملهما، لعبة آسفة، وفم بريء، لماذا تعرفت عليها، هي، المخلصة، حلم ولد ميتا؟ -3- لعبة شديدة النضج، ولكن فم بريء، قرنفلة بيضاء، معرّقة بالأفق ! آه ! نعم، لا شيء سوى حلم ولد ميتا، ولأنها مرحومة قد صارت. -4- طريحة، قرنفلة بيضاء معرّقة بالأفق، وحياة البشر تتابع سيرها، بدونك، مرحومة صارت، آه ! سأرجع بلا عشاء ! حقا، إني لم اعرفها أبدا. ------------------ من مجموعة [ زهور ذات إرادة طيبة ] رومانس -1- لي ألف طائر بحري بلون رماد شاحب، يعششون في أفق روحي الطيبة، يملئونها حجراتي الحزينة، بإيقاعات مأخوذة عن شفرات شديدة الحدة. -2- ولكنها تلطخ بالجيفة كل شيء، وكذلك المرجان والأصداف، ثم تحلق بدوائر مجنونة وتتصادم، بتسقيفات عائلتي الشريفة .. -3- طيور شاحبة، حين ستفتح الخطيبة الباب، إعملْ لها عقدا من صدف المحار، وان تكون رائحة الجيفة قوية ! -4- فلتقل:" هذه الروح قوية حقا، على أنفي الصغير ... - سأرتدي لباسي ولكن أآخذه معي، هذا العقد الجميل؟ فلن يفيدها في شيء، الفتاة الشقية .." ----------------- الكلمة ما قبل الأخيرة فضاء؟ - قلبي يموت فيه بلا أثر ... في الحقيقة، من أعلى السطوح، بلا قلب، كل شيء على ما يرام. المرأة؟ - منها أخرج والموت في الروح ... في الحقيقة، أن يغشى علينا معا، ذاك اقل ما نكون اتفاقا. الحلم؟ - إنه جميل حين نحن ننهيه ... في الحقيقة الحياة جد قصيرة والحلم أشد طولا. ما العمل إذن بالجسد الذي نخدم؟ في الحقيقة، آه يا عمري، ما العمل ! بهذا الجسد الغني؟ هذا ذاك من هنا من هناك ... في الحقيقة، في الحقيقة هو ذا، ومن أجل الباقي كل ما تبقى عالق به. -------------------
من مجموعة [ الأبيات الأخيرة ] رفيقتنا الصغيرة -1- إذا كان حالي يوحي لكم بشيء، فعار عليكم إذا تحرجتم، فأنا لا أفعل هذا بازدهاء أنا المرأة، الكل يعرفني. -2- ضفائر مسطحة أو عقائص مجنونة، قل لي، أي جبين يفتنك؟ لي فن لكل المدارس، ولي أرواح لكل الأذواق. -3- اقطفوا وردة وجوهي، واشربوا فمي وليس صوتي ولا تطلبوا أكثر من ذا وذاك ... فلا احد يراه بوضوح، ولا حتى أنا. -4- أسلحتنا ليست متساوية، كيما أمد لكم يدي، فلستم سوى ذكور ساذجة، وأنا الأنثى الخالدة ! -5- هدفي يضيع في النجوم ! أنا هي "إيزيس" العظيمة ! لا أحد قد رفع قناعي، لا تخمنوا إلا في واحاتي ... -6- إذا كان حالي يوحي لكم بشيء، فعار عليكم إذا تحرجتم، إني لا افعل هذا بازدهاء، أنا المرأة الكل يعرفني. ------------------- انتهى ------------------------------