فليعش المجنون في عز شمس الظهيرة، بأسماله الرثة لحق المجنون رفيقته المشردة. أمام مقهى الحديقة فار تنورهما. تعانقا، ثم تهاويا إلى مدارج التوغل. كان يموءان ويعويان. هب المارة إليهما، وسيّجوهما بأجسادهم اتقاء من عيون الدهماء. أطلت امرأة من شرفتها. انفلتت منها ضحكة كالصهيل. هتفت بأعلى صوتها: - فليعش المجنون ردد المارة: - يعيش.. يعيش.. ثم رددت الكلام نفسه الجدران وسارت به الركبان. اجتمع مجلس المدينة واصدر القرار الآتي: " يتم إحصاء وإخصاء كل مجانين المدينة" حب على شاكلة البعير زارتني خليلتي كعادتها في غرفتي نهاية هذا الأسبوع. وما طفقنا في عزف وصلة غرامية رائقة حتى بدأ كلبي المدلل يضايقني ويهش وينبح ويلح علي إلحاحا شديدا أن أكلم فتاتي في أمره. سرعان ما عربد التجهم على وجهها وساحتها فقالت: - ما به؟ - يريد أن تجلبي له كلبتك. له حاجياته الغريزية مثلنا، أليس كذلك.. - لكن الأمر لا يستقيم... - لا يستقيم!! ولم؟ - لو كان الأمر يتعلق بحيوانات أخرى ربما.. أما أن نتساوى مع الكلاب، فلا.. - ومع أي الحيوانات تريدين أن نتساوى؟ - ألم تسمع قول الشاعر: " وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري"؟ النزوح الأكبر انحسر البحر فجأة وامتدت اليابسة بين بلدين كان يربطهما من قبل بحر ملغوم. لم يشرق الصبح من غد حتى نزح قوم بكامله إلى ما بعد اليابسة. لم يبق في بلدتي إلا شيح، وريح، وروث حمير، وحاكمها الأبدي. بحث عن نسوانه، وعن المهرج، وعن السيّاف، وعن هامات كانت لا تكف عن الانحناء، وعن أصوات تلهج بالدعاء. لم يجد شيئا إلا الخواء وصرير أبواب تريد أن تنفك من عقالها علها تقتفي أثار أصحابها. امتطى صومعة ونادى فيما تبقى من شجر وحجر: - بمناسبة النزوح الأكبر، أعلن حضر اهتزاز الجذوع، ونمو الزروع، وتدحرج الأحجار في كل الربوع. وهل آفتنا إلا هذا التدحرج المروّع. حالة طوارئ جلس في المقهى، كانت ماثلة قبالته بشكل متحد كأنه القدر. تثاءب، فتثاءبت، ابتسم، فافتر تغرها عن ابتسامة. هم بها وهمت به. جلس أمام مقود سيارته وقبل أن يتم حركة فتح الباب لها، دوّت في المكان صفارات إنذار. توارتْ، وتوارى الكل في لمحة بصر. تحسس قميصه في ذهول فلم ير أنه قُدّ من قُبل ولا من دُبر، فتنفس الصعداء. سقوط تسلق الشجرة حتى وصل قمتها. جلس على حافة أعلى غصن فيها متدليا برجليه على هيأة ركوب حمار. أخذ منشارا وبدأ يقص الغصن ذاته، الذي بدأ بالتمايل مع كل حركات القص نحو الأسفل. قال له رجل مسن: - ويحك، إنك ساقط لا محالة من علوك. أجاب وهو منهمك في عمله وتمايله: - أحب أن يكون السقوط على يدي، فكل من علا وسما، إن لم يتهاو كالثمرة الناضجة، رشقوه وأسقطوه. لوحة زرت معرضا للفن التشكيلي، فجذبتني لوحة تتشابك فيها الخطوط والألوان، ويتخاصم على أديمها الغموض والفصاحة. قرأت فيها كل شيء ولم استوعب أي شيء. ثم ما برحت أن اكتشفت فيها الشيطان مختبئا، مع كل تحديق فيها يريك وجها من وجوهه المتناسلة.