بدأ الليل يكتب لتوه وصيته الأخيرة للنهار، وأجنحة العصافير تطارده في سماء البلدة . وصل منهكا يستمع لخفقان قلبه ، نزع قبعة مشروخة من فوق رأسه و التقط أنفاسا للحظات ، انتبه لضياء الصبح من ورائه ، فزادت المروج الخضراء وموجات القمح المراقصة لنسمات الجنوب من حنقه ، مما جعل الكلمات تستعصم في لسانه. احتار في أي اتجاه يكمل رحلته ، لكنه أغمض عينيه وطرق أول باب على اليمين.... - ماذا تريد ؟ - ضيف الله.... - آسف ، والله يا صاحبي ، ما لنا مكان تنزل فيه ، فالدار عامرة بأهلها كما ترى. اتبعني لتنظر بأم عينيك..، هنا شباب تجاوز الصغير منهم العشرون سنة... ، هذه أغنام وأنعام وهذه خزائن قمح وشعير تكفي لإطعام سكان القرية بأكملها لحولين متتابعين ، وفي الجانب الآخر كلب شرس يحرس الدار من الغرباء ، إن رآك قطعا لن يرحمك....، ارحل من هنا إلى ما وراء الهضبة ، قد تجد هناك من يستضيفك. أكمل المشوار ، لكنه تردد قليلا ، قبل أن يطرق الباب طرقا خفيفا.... - ماذا تريد؟ - ضيافة... رفع رأسه وتفحصه... ، كانت حالته فعلا تدعو للشفقة ، والصمت يطبق على ما تبقى من سكون الليل . دارت عينان غائرتان في جمجمة رأسه ، لا نعيم ولا نعم ، ثم رحل بعيدا حيث لا يعرفه أحد. كانت الشمس قد تربعت في صدر سمائها ، ففضحت بهيبتها قبح وجهه. تمعن جيدا حقول القمح المترامية على الهضاب المجاورة ل (الدوار) ، قطعان الماشية وهي تدب في اتجاه المراعي ، الناس يتحدثون عن موسم فلاحي وفير هذه السنة ، فاطمأن إلى أن لا مكان له بعد اليوم في البلدة ، ألقى نظرته الأخيرة بأسى ، ثم غاب عن الأنظار. حط بحي راق من أحياء المدينة ، نزع القناع عن وجهه وتقدم بخطى وئيدة ، ثم قدم نفسه... - أنا..... كان صاحب (الفيلا) أسرع بداهة ...، - لقد عرفتك ...، أو تظن أن في مثل هذه الأحياء مكان لضيف من أمثالك ، عليك بالرحيل من هنا ، قبل أن تستفزك خيرات ونعم لا عهد لك بها ، أو تغرقك الخيرات من كل جانب. لا مجير لك هنا... لم يكن أمامه من خيار إلا أن يغادر...... حط بحي من الأحياء الهامشية بأطراف المدينة ، شباب متكئ على الأسوار، وبراريك مكدسة فوق بعضها البعض . هناك فقط... ، وقف باسما يختار بشماتة من يستضيفه....