الوقت ظهرا والجو حار والهواء متجمد بلون القصدير الأبيض . الطريق غير ممهد مثقوب بعشرات الحفر ، تغطيه برك الماء الصغيرة ، وتعلو فيه أكوام من التراب والحجارة . مشي وهو يتفادى الحفر في طريقه إلي محطة القطار. على جنب كان ثمة ونش ضخم برافعة وسائق مختف في الأعلى داخل كابينة عالية يحرك جرافة الونش في الأرض . حاول أن يرى وجه ذلك السائق . عدة مرات من قبل كان يتوقف ويظلل عينيه بكفه ويرفع بصره لأعلى فلا يرى شيئا سوى كاسكتة فوق رأس السائق تتحرك يمينا ويسارا . يتجاوز الونش ويواصل سيره . يلهث . يفكر أن الحياة وقت للعب ، ووقت للحب ، وقت للعمل ، ووقت للتساؤل . وهو في السن التي يكون كل شيء عندها قد ضاع ، ولم تبق سوى قدرة العقل العجيبة على التفكير وإدامة النظر في المرآيا التي بداخله . أحيانا كان في غمرة الأسئلة الثقيلة يخاطب الله برجاء وحيد ، أن ينساه هنا ، في هذه الحياة ، يتركه على الأرض ، ويقسم لله أنه إذا تركه فإنه لن يفعل أي شيء ، لن يحب امرأة جديدة ، لن يضع أملا أو قلبا ما في هدف ، لن يصارع من أجل شيء ، أو ضد شيء ، لن يصادق مخلوقا ، لن يكلم أحدا ، بل ولن يغادر بيته أبدا . كل ما يتمناه أن ينساه الله هنا على الأرض بحالته التي هو عليها الآن ، لا أفضل ولا أسوأ ، ليجلس وراء نافذة يراقب مجرى الحياة ، كيف تتطور العلوم بسرعة مذهلة ، كيف يضخ الشباب الدماء في قصص حب جديدة ، وكيف تحمر وجنات الفتيات في أول الغرام . سيجلس هادئا ساكنا تماما يتأمل كيف تنمو الأشجار وكيف يغيب القمر وتهب الرياح وكيف يعلو موج البحر دافقا زبده الأبيض على الشاطيء. إذا نسيه الله هنا ، فإنه لن يتدخل في شيء ، أي شيء ، فقط سيظل يتنفس ويرى ويتابع دون أدني حركة ، مثل حجر ساكن مفكر وشاعر . واصل سيره في الشارع ، وفجأة جاءت من خلف ظهره دراجة عتيقة وتجاوزته فظهرت أمامه متحركة للأمام . كان عليها رجل بجلباب يتمايل على الناحيتين مع ضغطه على دواستي الدراجة فينتفخ جلبابه من أسفل بالهواء . خلف الرجل مربوط على مسند قفص صغير كالذي تباع فيه الفاكهة . في داخل القفص جلس طفل صغير لا يتجاوز الخامسة ، يهتز مع حركة الدراجة، شعر رأسه يتطاير في الهواء، وقد تشبثت قبضتاه الصغيرتان بحافة القفص . تابع القفص وظهر الطفل ببصره ، وفجأة استدار الصغير برأسه للخلف ناظرا إليه ، حينئذ رأى وجهه كاملا . شعر مهوش وجبين عريض بشكل لافت للنظر ، شفتاه منفرجتان عن بسمة واسعة وأسنان متفرقة . وفي لحظة سدد الطفل إليه نظرة سريعة سعيدة ساخرة ، حكيمة وآسية ، مشبعة ببهجة مريرة ، مثل إنسان في مأزق لكنه سعيد به يجد فيه معنى مفرحا و ساحرا . صفت روحه كأنه لم يعش كل تلك الأعوام المرتبكة . وسرعان ما أدار الطفل رأسه للأمام وعاد يتطلع إلي بعيد متشبثا بقوة بحافة القفص . أرسل بصره للحظات خلف الدراجة وهي تبتعد ، وهو يحاول أن يدرك معنى نظرة الطفل . أهو فرح بركوب دراجة تجري في الهواء ؟ لكن من أين جاءت تلك النظرة المنتشية بحب الحياة بحكمة وأسى ؟ واصل سيره ببطء . وتجنب تلا صغيرا من الأتربة ، وحين رفع عينيه رأى الدراجة البعيدة على الطريق وهي ترتد راجعة نحوه . الجلباب الذي ينتفخ من أسفل يمينا فيسارا ، والطفل داخل القفص . وأمام عينيه مباشرة مرق وجه الطفل .. استدار الطفل برأسه للخلف. صغير ضئيل قليل مثل نقطة من حياة داخل قفص يبتسم له بحنو ومرارة وسرور غامر . تجمد مكانه ، وأحس أن قلبه ينخلع من مكانه ، وغمره ذهول مثل سماء صافية ، وتعلق بصره بالدراجة التي تنأى ، وجاشت كل نفسه بحب ودموع ، ومد ذراعا في الهواء نحو الدراجة البعيدة هاتفا في الصغير : يا إبني .. يا إبني . ودارات صيحته مثل دوامة صغيرة في الهواء . ***