واستمعت باهتمام كبير لذلك القائل الذي قال : (لا تبصق على المستقبل يا ولدي ) وسألت لماذا، فقال لي: لأن المستقبل دائما بريء يا صاحبي.. بريء وطاهر ونقي .. المستقبل بريء؟ نعم، وسوف يبقى كذلك إلى أن يتحقق في الواقع، سواء في شكل أقوال أو في شكل أحداث ووقائع، سيبقى بريئا إلى أن تثبت إدانته إدانة صريحة. ألا ترى معي بأنه إنه لا يصح أن نخاصم الغائبين الأبرياء، ولا يحق لنا أن نحاكم الأبرياء، ونحن لا نعرفهم ولا نعرف عنهم أي شيء؟ نعم لا يصح.. ولكنه إذا حضر سيصبح حاضرا، ولن يظل اسمه المستقبل، وفي مثل هذا الحال يتغير كل شيء.. هذا إذا حضر طبعا، وهذا هو عين المحال طبعا يا صاحبي، واعلم بأن الحاضر لا يحضر أبدا.. قلت لا يحضر؟ نعم، ويمكنك أن تسأل نفسك: هل حضر المهدي المنتظر؟ لست أدري.. وهل حضر المستر غودو؟ قد يكون حضر ونحن لا ندري.. وإذا كان هذا الحاضر قد حضر ومضى، ألا يصبح اسمه الماضي؟ الماضي لا يمضي يا صاحبي.. والمستقبل. ما قولك فيه؟ هو أفق بعيد جدا، كلما اقتربنا نته ابتعد عنها، وهو لا يمكن أن ندركه أبدا، وإذا أدركناه فلن يكون اسمه المستقبل.. وماذا يمكن أن يكون اسمه؟ لست أدري.. يمكنك أن تسميه ما شئت من الأسماء.. ولكن، ألا ترى أنه و في المقابل يمكن أن نبصق في وجه ذلك الماضي، والذي نعرف أنه قد مضى، والذي له على أجسادنا وأرواحنا أكثر من وشم وأكثر من علامة؟ انظر إلى هذا الجرح الذي في ذراعي.. ماذا به هذا الجرح؟ إنه من فعل الماضي يا صاحبي، وأنظر إلى هذا الشيب أيضا.. أليس من فعل الماضي؟ لا، بل هو من فعل ذلك الحاضر.. أي حاضر؟ ذلك الذي مازال حاضرا على جسدك.. ليس الماضي كله يا صاحبي، لأنه أكبر من أن يكون له وجه واحد، أو أن تكون له حياة واحدة، فهو مراحل ومحطات، وهو أشياء ظاهرة وأخرى خفية. لقد رأيت أنه من حقي أن أخاصم الماضي، وذلك مادام أنه أحداث حدثت، وأنه وقائع وقعت، وأنه أسماء فعلت وانفعلت وتفاعلت، وأنه أخطاء وأغلاط وجرائم كبيرة ارتكبت في التاريخ..