لا أغالي إذا قلت،أن العالم العربي ممزق ومستضعف ومهمش ويعاني قضايا شائكة ومختلفة، كالأزمة الاقتصادية الخانقة والفساد المستشري وتفشي البطالة والأمية والتخلف، إضافة إلى ذلك فإن المنطقة تعيش حالة تطبيع الأمركة والتهويد عبر هزيمة أنظمتها العسكرية والسياسية،ولم يبق سوى الجبهة الثقافية لإلحاق الهزيمة النهائية بالأمة، بينما نرى أمة "إقرأ" لا تقرأ ، وقد فقدت معاني النخوة والعزة القومية،فيما تشهد الحياة العربية المعاصرة غياب التضامن العربي وغياب العقلانية والوعي الجماعي وتقهقر القيم وانتفاء اعتمادها في السلوك الخاص والعام .عدا الهزيمة الشاملة التي انحدرت إلى الوطن العربي والإحساس بالعجز ودخول المثقفين والمبدعين نفق اليأس والإحباط بعد أن تمّ احتواء دورهم وتحجيمه من قبل الأنظمة السياسية القائمة ، هذا إلى جانب تراجع الفكر النقدي العلمي أمام الفكر الغيبي السلفي، ونكوص المعركة الفكرية الحضارية العميقة للتعددية السياسية والفكرية، ولفصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة، ناهيك عن ضعف واندثار القوى والأطر والتيارات اليسارية العلمانية الديمقراطية والثورية، في ظل عصر العولمة والحداثة وغياب النظام الاشتراكي العالمي والتحولات الاقتصادية والثقافية والانتكاسة اليسارية العالمية، ونتيجة فشل وإخفاق البدائل والطروحات والمشاريع النهضوية العربية ،كذلك القمع والتهميش الذي طال نخب الثقافة والفكر، يضاف إلى ذلك أن الشعوب العربية تتعرض للاحتلال المباشر، كما هو الحال في فلسطين والعراق، وتتعرض أيضاً للهجمة الإمبريالية الشرسة التي تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية الرامية للهيمنة المطلقة على الشرق الأوسط وعلى ثرواته النفطية والطبيعية. ولا نعرف بالضبط إلى متى ستظل هذه الشعوب مخنثة وصامتة وميتة بلا قبور وتغط في سبات عميق كأهل الكهف لا تتحرك ولا تثور ولا تحتج على ما يجري من انتهاك لحرمتها وعرضها؟! فأين مصر قلعة العرب وأم الدنيا وحاضنة القومية العربية والعمق القوي للقضية الفلسطينية ، وأين مدارسها الوطنية ، مدارس النهضة والتنوير التي أسسها عرابي وسعد زغلول وعبد الناصر، ووضع تراثها جيل من المثقفين والروّاد من رفاعة الطهطاوي ولطفي السيّد وسلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق إلى محمد مندور ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود ولويس عوض ومحمود أمين العالم ونصر حامد أبو زيد وكثيرون غيرهم ممن بذروا بذور الحداثة والتجديد والثقافة؟!!وأين سوريا قلعة التصدي والصمود ؟ فقد كان النصر الذي أحرزته وحققته المقاومة اللبنانية ضد العدوان الاسرائيلي الأمريكي ، وضد ثقافة الهزيمة في الوعي العربي، رافعة بارزة أحيت فينا الإحساس بالذات وتصاعدت فيها موجات الحراك ونبضات من حياة. في حقيقة الأمر، أن غياب الديمقراطية خلق شرخاً بين الأنظمة الاستبدادية وشعوبها، كما خلق مناخاً مريحاً للبيروقراطية والفساد وللتيارات الأصولية لاستغلال مشاكل الناس والمجتمع للطعن في صيغة الدولة العصرية الحضارية والمجتمع الأهلي المدني، وفي صيغة فصل الدين عن الدولة .كذلك فإن ما تبثه الفضائيات العربية ، التي غزت مجتمعاتنا في العقد الأخير ، وما تصدره من ثقافة استسلامية مهزومة ، ثقافة الخلاعة والتعرّي، وثقافة انحطاط الذوق الفني"شخبط شخابيط" و"بوس الواوا" و"بحبك يا حمار" هذه الثقافة لن تحرك المياه الراكدة في النهر العربي ولن تغيّر شيئاً في الواقع العربي المهترئ. إن التغيير والتحول الاجتماعي والثقافي لن يتحقق ما دامت الشعوب العربية غارقة حتى أذنيها في براثن الجهل والتخلف والأمية والتبعية، فلا تحرك ساكناً ولا تتصدى لمحاولات تدمير وتشويه الضمير القومي والوجدان الاجتماعي والمخزون النفسي والحضاري للإنسان العربي. وعليه فإن النخب الثقافية والفكرية وما تبقى من قوى يسارية وعلمانية في هذه المجتمعات ،مدعوة إلى الانتفاض ضد ثقافة الهزيمة والاستسلام لسياسة الأمر الواقع على نحو يرفض سحق التاريخ وانتهاك حرقة الحاضر واغتصاب المستقبل، وتعميم ثقافة المواجهة والمقاومة وتطويرها وترشيدها بما يؤسس لمستقبل أمة عربية تنتصر لدم أبنائها وحرمة ترابها وحماية مقدساتها ، وتنتصر لمن يحفرون فينا بصمت، أولئك الشهداء الذين سقطوا وجادوا بدمائهم ولا يستطيعون الكلام .كما ويتطلب من ذوي العقلية المتفتحة في هذه المجتمعات ، المعنية حقاً بالرقي الحضاري الشامل، المشاركة في معركة التغيير والتحديث ،وعليها بالمنطق العلمي الاجتماعي في تقديم الإجابات المتناسبة مع حاجات مجتمعاتنا الملموسة ومع روح الحضارة الإنسانية المعاصرة، سعياً نحو إنجاز نهضة جديدة وإحداث تغيير نهضوي وإنشاء مجتمعات مدنية حداثوية متطورة ومتقدمة تتمتع بالرفاهية والرخاء وتسودها التعددية والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي. وبرأيي المتواضع فإن ذلك لن يتحقق ولن يحدث بدون أن ننفض عن أرواحنا الخوف والخنوع، معلنين أن العروبة تبدأ بالديمقراطية والتعددية وأن المجتمع لم يعد يتحمل سفهاء القمع والعسكرتاريا، وبدون علمنة الفكر وتأكيد خصوصيتنا ومواجهة قوى البطش الغاشم وقوى الترهيب والتكفير الفكري والحضاري والفكر المتشدد، وخلق ثورة في الوعي العربي وتجاه الشعوب العربية المقهورة. وأخيراّ، ما أحوجنا إلى فكر نظري نقدي تأسيسي في هذه المرحلة المدلهمة والقاتمة من حياتنا، التي يتفاقم فيها التشتت والتفكك والتسطح والاغتراب والتخلف في الواقع والفكر على حد سواء، في حين يتفجر عصرنا بمنجزات معرفية وتكنولوجية باهرة تكاد تشكل نقلة جديدة ونوعية في حضارة الإنسان، ولا خروج مما آل إليه الواقع العربي، من عجزوانهزام متواصل على جميع الصعد إلا بالإبداع، لأنه الرهان والخلاص وجسد التلاقي الحي الخاص والعام وبين قيم التراث القديم ومستجدات الحياة، بين الأصالة والحداثة، وهو وحده يقودنا إلى درب الإنتاج والتجدد المتواصل خروجاً من الجهل والتخلف والسقوط والانهزام.