قبل كربلاء ، كنا في النجف الأشرف ، عاصمة العلم والثقافة والأدب ، أرض العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء، أرض علي ومن رأى مثل علي رجلا ؟ فهو أول الأئمة عند البعض وخاتم الخلفاء عند البعض الآخر وغالى به البعض حتى صار عندهم إلها يُعبد ، شخصية فريدة لا يجود الزمان بمثله، كنا في حماه وقد حاصرت ضريحه الآمن الحمايات والحراسات ، وحتى العلماء الأجلاء صاروا بسبب الظالمين والمارقين وراء الحجب دونهم نقاط لا يمكن اختراقها وهم أحب الناس إلى قلوب الناس. لقد زرنا الكاظمية وزرنا النجف والكوفة والحلة ولكن هل تكتمل الرحلة بلا زيارة للحسين؟ وبلا التصاق بضريحه ، وبكاء عند أعتاب مرقده ، أو دعاء تحت قبته. لا أدري لماذا تذكرت حيرة الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري عندما سألت السائق عن المدة التي تستغرق للوصول إلى كربلاء، تذكرت جابرا وهو يسأل خادمه عطية عن السوادة المقبلة ، ويطلب منه أن ينطلق ليرى، فإن كانوا آل الرسول العائدون من الأسر فهو حر لوجه الله تعالى ، وقد ذكرت التواريخ بأنه عاد إلى سيده طالبا منه أن يتهيأ لاستقبال الإمام السجاد ومعه السبايا ، أخبرني السائق الذي كان سنيا من أهالي سامراء ، أقول سنيا لأني أريد أن أثبت بأن الطائفية البغيضة لا تعيش إلا في نفوس أصحابها وأما الشعب العراقي فإنه لا يؤمن بالطائفية ولا يتأثر بها رغم المحاولات التي بُذلت لترويجها وتقسيم الناس على أساسها، أخبرني السائق بأننا على وشك الوصول إلى كربلاء، فصرنا نعد الدقائق والثواني وأجدني لا أقوى على وصف المشاعر فالأمر فوق الوصف، فنحن في طريقنا إلى الحسين وما أدراك ما الحسين ،الحسين الذي أحببناه فأجنّنا حبه، وفجأة هتف السائق بنا لما لاحت له بعض المباني أن تلك كربلاء وتلك منازلها ، ترقرقت الدموع في العيون وتحشرجت الكلمات ، خنقتنا العبرات عندما شاهدنا المنائر الذهبية ثم العلم الأحمر الذي يرفرف فوق القبة الشريفة، إذن نحن في كربلاء ، نحن في مهوى الأفئدة وقبلة العشاق، نحن على مقربة من الحسين الخالد، لقد جاء بنا الحب الأزلي وجئنا إليه بالحب والتحية والسلام من أصدقائنا وأهلينا . ماذا نفعل بعد هذا العناء ؟ لا شئ سوى الاغتسال كما اغتسل جابر بماء الفرات ، إنه التاريخ يكرر مشاهده، كنت أمضي نحو الحرم المقدس وقلبي يسبقني إليه، وأنا أرى العشاق من مختلف دول العالم ، رأيت العربي والأعجمي ، رأيت الأبيض والأسود والرجل والمرأة والكبير والصغير ، رأيت العشق النقي، صرت قريبا أمام وارث آدم صفوة الله، ووارث نوح نبي الله ووارث إبراهيم خليل الله، وكم قرأنا زيارة وارث من بعيد ، صرنا الآن وجها لوجه مع الإمام الحسين ، وجها لوجه مع أبي الفضل العباس قمر العشيرة. في تلك اللحظة المهيبة تذكرت الطغاة والظالمين ، تذكرت حكومة البعث، فاستندت الى جدار وأنا أنظر إلى القبر الشريف المحفوف بالذهب والجواهر والأضواء وقلوب المحبين ، وقلت في سري: هل حسبتم أن الحسين قد مات واندثر ، أحسبتم أن الشيب الخضيب والبدن السليب غدا في ذاكرة الأيام نسيا منسيا، تعالوا إلى كربلاء وانظروا إليها، هاهو الحسين باق فأين أنتم ؟ وأين الظلم والقتل والجور ، لقد جرت مدامعي في كل مشهد في كربلاء إلا أنني تمالكت ومنعت نفسي من البكاء عندما كنا في ضيافة الحسين مرة وفي ضيافة العباس مرة أخرى وأنا أرى العاملين داخل المضيفين يتراكضون أثناء تقديم الطعام للزوار متفانين في خدمة القادمين لزيارة كربلاء ولكن أحدهم لاحظ الدمع وهو يترقرق في عينيّ فسألني عن الخبر فقلت له كما قال الشاعر : ما مررنا بدار زينب إلا فضح الدمع سرنا المكتوما لقد أثارني منظر الشباب وهم بكامل أناقتهم يخدمون الزائرين بكل سعادة وفخر وعزة، فتذكرت الذين يخدمون في كيشوانيات المرقد الرضوي المقدس في مدينة مشهد ممن يتبوؤون المناصب العليا في الدولة يسجلون أسماءهم وينتظرون دورهم حتى يتاح لهم فرصة الخدمة ، أي عشق هذا وأي فناء في المحبوب ؟ عندما تجولت في شوارع كربلاء ، رأيت رجلا هزيلا يضع على عينيه نظارات سوداء سميكة يجلس على الرصيف يرمق المارة ، أمعنت فيه وإذا به الحاج عباس صديق الوالد ، عرفته بنفسي فعرفني ، إذن هنا كان أبي وهنا كانت أمي وهنا الراحلون من أهلي ، إذن هذا هو العباس (أبو رأس الحار) الذي كانت تلجأ إليه أمي في الملمات والصعاب فيجيرها (بإذن الله ) وبعد هذه السنوات الطويلة عندما وقفت أمام قبر العباس ، رمز العطاء والوفاء ، لم أجده (أبو راس حار) وإنما وجدته ذلك الناصح الأمين ، الشاب الوديع ، العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين ، وجدته ساقي عطاشى كربلاء والذائد عن حرم رسول الله ، رأيته مقطوع الكفين ، المثخن بالجراحات ، وجدته لم يزل سببا في إطعام الآلاف وسقيهم ، فسلام عليه يوم ولد ويوم تضرج بدمائه الزكية ويوم يبعث حيا . بقي شئ واحد وهو أني اقتطعت بعض الوقت، فذهبت إلى مكان مولدي ، إلى العباسية الشرقية ومنطقة المقلع بالتحديد ، بعد خمس وثلاثين سنة من البعد والغربة والأشواق ، توجهت إلى منزل خالتي الطاعنة في السن، طرقت الباب ، قالت :من ؟ قلت: رائحة أختك ، فخرجت حاسرة الرأس بسرعة لا يمكن توقعها من امرأة عجوز، طوقتني بيديها فصارت تشمني وتضمني وتقبلني مرة في خدي الأيسر ومرة في خدي الأيمن ، حتى إذا هدأت أبعدتني عنها قليلا لتنظر إلي فصاحت حسن! قلت : لا بل حسين ، فصاحت بلهجة كربلائية محببة: ياااا سودة عليّ هاي ليش كبرت ، ثم القت بنفسها عليّ ثانية وهي تقول ريحة باجيتي ، أفيش ، ها خالة جاي تبقى يمنا بعد ما تروح مو ؟ فقلت لها بصوت حزين: لا خالة بس ربع ساعة وأمشي مرتبط بالجماعة.