وقف أمام المدخل الرئيسي لقاعة السينما الوحيدة في المدينة ، تفرسه بعيون الغائب الحاضر ، وجده أسوأ مما خلفه منذ زمن ليس بالقصير، إذ زحفت الرطوبة على الحيطان ، و بهت طلاؤها ، و سقط حرف من اسمها اللاتيني، و تكوم قربها المشردون . تذكر مالكها الفرنسي الوسيم و المفرط في الأناقة ، كان يعطف عليه أكثر من أهله ، و يسمح له بمشاهدة الأفلام من مقصورة البث في السينما ، بعد أن يطلب منه ذلك مترجيا إياه في الطريق إلى الفيلا ، و هو يحمل سلة الخضار و الفواكه من السوق المغطى وسط المدينة . يدخل السلة إلى الفيلا الواسعة بحديقتها المزهرة و مسبحها الواسع في الخلف ، يحرسها كلبان من فصيلة " الدوبرمان " يتصرفان كآلة مبرمجة بأوامر مالكهما. يأمر الفرنسي الصبي بالجلوس إلى مائدة الطعام ، تأتيه السيدة زوجته بالحليب و الخبز الأبيض و الجبن و المربى ، فيلتهم الصبي الوجبة بخفة، و الزوجان ينظران إليه ، يتكلمان بالفرنسية لا يفهم منها إلا أن الكلام يدور حوله ، ثم يخرج رافعا يده بالتحية العسكرية ، يعاودها أكثر من مرة ،تشيعه الزوجة الفرنسية ببسمة حزينة ، لم يكن يدري لماذا هي حزينة ، ربما لكونها بدون أطفال ، أو ربما لكونها غريبة عن وطنها . خرج الصبي فرحا بعد أن دست في يده الصغيرة قطعة نقدية ، و فهم من الفرنسي موافقته على مشاهدة الفيلم الجديد لتلك الأمسية. ******************* فتح الباب الرئيسي لقاعة السينما ، دخل و نقل بصره بين أركانها فوجدها ، تقربا ، كما تركها ، أيقظت فيه ذكريات طفولة صعبة جدا ،تفرس في الجمهور لحظة ، جمهور الأمس كان أوروبيا في أغلبه ، يدخل بنظام و هدوء ، أزواجا أزواجا ، أما اليوم فهو من أهل بلد الفوضى و الصخب ، يجلسون أنا شاءوا و كيف شاءوا و يدخنون ما شاءوا ، فلا رقيب ، و التسيب هو السيد . جلس على مقعد كان أريكة لم تبق منها اليوم إلا ألواح متآكلة الأطراف ، تحمل الجلسة أمام إلحاح الرغبة في مشاهدة الفيلم المغربي ، سمع عنه كثيرا و عن مخرجه الذي تلقف أبطاله من الشارع ليصنع أطوار فيلم يحكي عن صبية نهشت الشوارع أجسامهم الغضة ، لتحولهم إلى جرذان تأكل بعضها البعض . " علي زاوا و الآخرون " و تذكر أفلاما أخرى شاهدها ، فيلم " الصداقة " الهندي ، فيلم " إقبال " طفل باكستاني ناضل ضد مناول غزل الزرابي الباكستانية ، في معامل تسحق طفولة تباع في سوق النخاسة لأرباب المعامل . طار "إقبال " بالقضية إلى البيت الأبيض ، يسانده العالم الحر الذي رفض شراء زرابي تنسجها أنامل صبية دون العاشرة ، مربوطة إلى مناول الغزل بالسلاسل ، تقضي حاجتها واقفة و تتعرض للاغتصاب . ****************** بدأ عرض فيلم " علي زاوا و الآخرون " ، و كان يشاهده لأول مرة ، أرعبته صورة البطل ، أصغر من أن يرمى في الشارع كقط أجرب ، تعاطف معه كما تعاطف مع "إقبال " إلى درجة الاندماج في شخصيته ، بل خيل إليه أنه هو "علي زاوا " ، استوقفته لقطة اغتصاب الطفل في هيكل الحافلة . فارت الدماء في عروقه حارة تغلي كالحمم ، صرخ صرخة تعالت على مكبرات الصوت في القاعة ، انخلع لها الجمهور ، فسأله البعض : " ما بك ؟ " . و صرخ آخرون " أسكت " ، استحيى من نفسه ، و غاص في المقعد بلا حراك . لم تكن الصرخة عبثا ، بل أفرزتها ذكرى هيكل السيارة الذي حوله " كوميرا الملعون" إلى مأوى ينام فيه و يمارس فيه لعبته المشينة ، اغتصاب الأطفال ، لم يكن صاحبنا يعرفه ، استدرجه بلطف الأبوة ثم اغتصبه ، قاومه بكل قوة اضطرت المجرم إلى ضربه بقوة حتى فقد الوعي . كان جبارا ملعونا . رشه بماء بارد فاستفاق من غيبوبة تمنى لو كانت غيبوبة أبدية تموت معها ذكرى العذاب ، تقيأ ثم تقيأ ، و وجد صعوبة كبيرة في المشي و الجلوس أياما ، ليرحل عن المدينة و دفن سر الحادثة في داخله ، لكنه عاش على أمل وحيد ، إعدام "كوميرة الملعون " ، غادر المدينة ليعود إليها اليوم بعد سنين ، و صدفة يشاهد فيلم " علي زاوا " ، فأحس بالصدفة هي الأخرى تبارك مهمته ، و أخشى ما كان يخشاه أن يجد " كوميرا " قد مات ، " لا تمت أيها الملعون حتى اقتص منك ، لن أرحمك في كهولتك لأنك لم ترحمني صغريا ضعيفا متوسلا و باكيا ، يا بن أكثر من أب " . *********************** و في اليوم الموالي بثت قناة وطنية ، في آخر نشراتها الإخبارية ، صورا مرموزة لجثة متفحمة لصاحبها الكهل ، يعمل كحارس للسيارات و يقيم في هيكل لسيارة خارج المدينة . و حسب تقرير الشرطة فدافع الجريمة هو الانتقام ، بعد التأكد من تمثيل القاتل بالجثة قبل إحراقها .