كنت قد أجريت منذ سنوات قليلة خلت، حوارا صحفيا قصيرا مع المفكر المصري الموسوعي عبد الوهاب المسيري رحمه الله، و كانت الفكرة الجوهرية التي بني عليها الحوار، و عبر عنها المسيري بكثير من الاهتمام و التأكيد، هي أننا - كعرب و مسلمين - مطالبون بالعمل في مختلف المجالات و الحقول المعرفية و التطبيقية انطلاقا من " مقولات خاصة بنا ". و نعتقد أن ما كان يعنيه المسيري رحمه الله، هو أن نجتهد في تأسيس مفاهيم و رؤى و نظريات سياسية و اقتصادية و ثقافية و اجتماعية، انطلاقا من قيمنا و تراثنا و تاريخنا و جغرافيتنا.. لأننا نملك القدرة على الابداع و الابتكار بصورة كاملة، باعتمادنا – أولا و بشكل كبير - على ذاتنا الحضارية، و بالانفتاح – على قدر الإمكان و المصلحة و الحاجة و الضرورة - على ما أعطاه الآخرون للإنسانية في بعض الميادين. لقد اعتدنا و منذ عقود طوال من الزمن، على اجترار و تكرار و استهلاك ما أنتجه الآخر.. و ما أبدعه الآخر.. و ما اخترعه الآخر.. دون أن يعترينا إحساس بالخجل، و دون أن نشعر بوخز الضمير أو انتفاضته.. بل مازلنا نتلقف كل جديد يفاجئنا به الآخر، سواء كان شيئا ماديا، أو نظاما سياسيا، أو نظرية فكرية.. نتلقف ذلك بكثير من الاندهاش و الإعجاب و الرضا.. دون أدنى استعمال لآليات التفكير و التأمل و النقد، ربما اعتقادا منا على أن الآخر لا يخطئ، و لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يعقد نيته للإضرار بالإنسانية.. أبدع الآخر – و من خلال تجربة عميقة في الحياة السياسية و الاجتماعية – جملة من المفاهيم و المناهج الحضارية: كالحداثة و الحكامة و العولمة و غيرها، بينما نحن نسارع الخطى، و نختصر المسافات و الزمن، من أجل توظيف هذه المفاهيم و الأنظمة، في حياتنا السياسية و الاجتماعية بكل سهولة و بدون تمحيص أو غربلة، رغم الفروقات الهائلة بيننا و بين الآخر المبدع.. إن الآخر لم يبدع مفهوم الحداثة بجرة قلم، و لم يبن نظامه السياسي على الأسس الديموقراطية و أصولها الفلسفية بين عشية و ضحاها، و لم يعولم علاقاته البلوماسية و الدولية، و تدخلاته العسكرية، بقرار مفاجئ و غير مخطط له.. و إنما قضى الليالي و السنين، و أنفق الأموال و النفوس، و بذل الغالي و النفيس، و فجر الجبال و الأنفاق، و خاض البحر و السماء، و أهلك الحرث و النسل، لينتهي إلى ما انتهى إليه، من اختراع و ابتكار لأنظمة و مناهج و نظريات في شتى مجالات الحياة.. لكننا – و بحكم ذكائنا المتوهم – لم نعر أي اهتمام بطبيعة الجهد المنفق من طرف الآخر في سبيل الوصول إلى ما وصل إليه، و سارعنا إلى تنزيل مناهجه و أنظمته – هكذا ببساطة و استسهال - على واقعنا الموسوم بالتخلف و الجهل و الأمية و الفقر و المرض و الاستبداد و القهر و الظلم، و غير ذلك من صور الجاهلية المعاصرة. و إنه لمن المضحك المبكي، أن نتحدث اليوم عن مجتمعاتنا وفق الرؤية الحداثية، و نقول على ضوء ذلك، أن الحداثة باتت عنوانا عريضا لحياتنا السياسية و الاجتماعية.. رغم أن الحداثة منظومة حياة شاملة، تعفرت بتربة ذات خصوصية فريدة، و تمخضت عن عوامل تاريخية مركبة، و بيئة علمية متطورة، و عقلية متحفزة تختلف في منطلقاتها و غاياتها عن ما نؤمن به و نسعى إليه.. و مما لا شك فيه، فإن مجتمعاتنا ماتزال تعيش أنماطا متعددة من مراحل التطور، إذ أنها مجتمعات بدائية و زراعية و صناعية و تكنولوجية في آن واحد.. و لم تتمكن لحد الساعة أن تقطع مع مرحلة من هذه المراحل بشكل نهائي، عكس مجتمعات الآخر التي انتقلت - و منذ عقود زمنية خلت - إلى مرحلة الاعلام و الاتصال و الفضاء.. لكن هذا الأمر لا يمنع من أن نوقع على وثيقة الخلاص، باستحضار الفكرة التي دعانا إليها المسيري رحمه الله، و هي العمل انطلاقا من " مقولات خاصة بنا "، و من حصيلة عرقنا وجهدنا و كدنا و اجتهادنا.. خاصة و أن إبداعات أجدادنا في الفكر و الأدب و السياسة و العلوم التجريبية، شكلت في حينها - و ماتزال - وقود حضارة متألقة و متخلقة.. بل ما أكثر المفاهيم و المصطلحات التي أنتجوها و انشغلوا و شغلوا العالم بها قرنا بعد قرن، كالشورى و الحسبة و المصلحة و العدل و العفو و غيرها.. فماذا نحن فاعلون ؟