يولد الانسان ليدخل في صراع لا ينتهي مع كل شئ ، مع اخيه الانسان فيقتله كما فعل قابيل بهابيل ، ومع الطبيعة فيغير معالمها ويجفف انهارها ، ومع زوجه واولاده ( ان من ازواجكم واولادكم عدوا لكم فاحذروهم التغابن:14 ) وان لم يجد احدا يتصارع معه ، فمع نفسه ،فهو يريد شيئا وعقله الباطن يريد شيئا آخر فتظهر النفس اللوامة والنفس الامارة وتنتابه الاحلام المزعجة والكوابيس ، كل هذا فضلا عن صراعاته مع الكوارث والاوبئة والحيوانات بل وحتى الحشرات . للصراع صور بعضها بسيطة والبعض الآخر معقدة ولعل اكثرها تعقيدا هو صراع الانسان مع نفسه وقد سمى الدين الجانب الايجابي للصراع مع النفس ب ( الجهاد الاكبر) ثم يتدرج الصراع في الانتشار والتوسع حتى يصل الى صراع القوى العظمى والمجاميع البشرية الكبرى تحت مسميات مختلفة ، والصراع بانواعه ودرجاته يلتقي صعودا او نزولا في نقطة ما وهي طبيعة الانسان المجبولة على الصراع والمكابدة ومنه قوله تعالى ( لقد خلقنا الانسان في كبد -البلد:4) ولست هنا بصدد البحث عن الصراع المشروع من غير المشروع كما يحاول الانسان نفسه وضع اقنعة على بعض انواع الصراعات لتبريرها من اجل اضفاء حالة من السكون النفسي لأطراف عدة بغية استمالة الناس لهذا المعسكر او ذاك لادامة الصراع . وهناك من يقول بان الدول الغربية مثلا تخلصت من الصراعات لتتجه نحو البناء غير اني اعتبر هذا قولا غير دقيق ، لأن غاية ما فعلته هذه الدول بعد تجاربها العميقة انها نقلت الصراع بكامله الى الشرق ، ومن السذاجة ان نقول بان الصراع السني الشيعي الذي استمر لاكثر من الف عام ، ليس وراءه قوى خفية علما بان هذا الصراع العريق مؤهل للاستمرار لقرون عديدة اخرى مع التطور الهائل في الاعلام ووسائله ، فالطفرة الاعلامية والالكترونية تساعد على تعميق وتجذير الخلافات اكثر واكثر حيث يستحيل السيطرة عليها بالكامل . اذن فالغرب معني تماما بادامة الصراعات في الشرق لجعلها تتمركز هناك لكي تعيش هي على اراضيها على الاقل في مأمن. اقول ان الانسان مؤهل للصراع قبل خلقه وقد سألت الملائكة عنه كما في قوله تعالى (قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء . /البقرة:30 ) وكأنها تعرف طبيعة هذا الكائن القادم المضطرب الذي هو في طور التكوين لكنه مصدر فزع للملائكة مع انه خُلق في اتم صورة (لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم . / التين:4 ) ولا شك بان سيدنا ادم هو المقصود بالانسان الاول وقد خلقه الله تعالى باحسن تقويم وخلق له زوجا(ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا . /الروم:21 ) اوجد الله له زوجا من نفسه لكي يسكن اليها وتخمد ثورته ويشعر بالمودة واُودع الجنة كي يعيش فيها بسلام وسعادة (وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة و كلا منها رغدا حيثما شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. البقرة:35) فنهاهما عن شجرة واحدة فقط واباح لهما ما سواها ولكن هذا الانسان أبى الا ان يقرب هذه الشجرة بالذات، ماذا حدث بعد ذلك؟( اهبطوا بعضكم لبعض عدو. الاعراف:24 ) والعداوة هنا تكرس حالة معينة وتوجبها وهي تبدأ منذ الطفولة المبكرة فنرى الطفل الصغير لا يتقبل مجئ أخ جديد يأتي من بعده لانه سيستأثر باهتمام ابويه ومحبتهما ،وعليه فقد احتاج الانسان الى انبياء ورسل وائمة هدى ومصلحين يأتون ليبلغوه رسالات ربه ولكن هؤلاء يستطيعوا بلوغ المرام في تغيير العالم وغاية الامر انهم قاموا بتبليغ الرسالة على أتم صورة ( ما على الرسول الا البلاغ . المائدة :99) وقوله تعالى (فما ارسلناك عليهم حفيظا ان عليك الا البلاغ .الشورى:48 )، وهذه الحالة توجب على البشر ان يعلموا بان الصراع كان ومازال وسيظل ، وعلينا ان نتعلم (فن الابتعاد عن الصراع ) و (فن معايشة الصراع) فنحن لا نستطيع الا ان نكون طرفا ولا يستطيع الانسان الا ان يكون شرقيا او غربيا ، متدينا او علمانيا ، سنيا او شيعيا وليس له خيار اللاانتماء ، وان اسباب الصراع متوفرة دائما سواء داخل النفس البشرية او الاسرة الواحدة او الصراع الازلي بين الرجل والمرأة ومحاولة كل طرف السيطرة على الطرف الاخر كما في قوله تعالى(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى.طه:123 ). ويصل الصراع الى اعلى مقاماته فيكون بين الدول العظمى المالكة للاسلحة النووية وضغطة زر من احد الاطراف قد تؤدي الى تدمير العالم باجمعه. القران الكريم يعطي الحل ولكن اين الذي ينتبه الى خطورة الصراع ؟ ومن الذي يريد فعلا ان يحقق شيئا من الهدي الرباني؟ والله تعالى يقول (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم اتقاكم ان الله عليم خبير . الحجرات:13 ) وهذا ينسف نظرية افضلية بعض الشعوب على بعض كالالمان الذين يعتبرون انفسهم من افضل الشعوب لنقاء دمائهم ، كما يعتبر اليهود انفسهم فوق الاخرين لانهم شعب الله المختار ولم يسلم العرب من التفاخر بل صارت جميع القوميات تتفاخر فيما بينها كرد فعل طبيعي ولكن هذه الانواع من التفاخر تسقط امام الحديث الشريف ( لا فضل لعربي على عجمي الا بالتقوى ). اذن فالصراع قدر ويجب التعامل مع هذا القدر بحكمة وحذر ولعل اكثر المتضررين من هذا الصراع هم المصلحون وهم الطبقة القليلة التي تحب الخير لنفسها وللاخرين وهي تعلم بان اكثر الصراعات عبثية ومثال ذلك الحرب العراقية الايرانية التي استمرت عشر سنوات دون معرفة اسباب نشوب الحرب واسباب توقفها ، فقد بدأت من عبث وانتهت الى عبث وصار بين العبثين خسائر بالمليارات ومئات الالوف من المعوقين والقتلى والجرحى واليتامى والمتضررين ، وهكذا باقي الحروب ، وهكذا الصراعات ، فان اكثرها عبثية تحكمها شهوة السيطرة و القتل . وهذا العالم الذي يعاني الان من المدارس المتطرفة والارهاب والخروج من المألوف وسفك الدماء هو بسبب الانسان الذي وضع نفسه في هذا المأزق الكبير والا فالغرب يعلم جيدا بان تقسيم العالم الاسلامي مثلا الى دويلات صغيرة بغرض ادامة الصراع هو خطأ كبير و كان عليها ان تساعد المسلمين على التوحد ليكون لهم خطاب واحد ، حيث ان التعامل مع الخطاب الواحد افضل بكثير من التعامل مع خطابات متعددة والتعامل مع مدرسة فكرية واحدة اسهل من التعامل مع مدارس عديدة، ولكن ليس كل ما يخطط له الانسان يأتي صحيحا ومطابقا للرغبة الانسانية . يظل الانسان ويظل الصراع ومن يدري قد يكون ذلك في صالحه ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . الحج:40 ) وقوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين.البقرة:251) .