"صدّقوني أنا أفهم أكثر منكم جميعًا. خبرتي في الحياة تفوق خبرة أكبركم سنًا. ذوقي أفخم من ذوق صغيركم وكبيركم. دماغي ينافس بوزنه وزن الكرة الأرضيّة.. وأدرك طريق مصلحتكم فوق ما تدركون. رغم أنني لم أكمل قراءة سطرين متتاليين على صفحة كتاب طوال حياتي، ولم أستحقّ شهادة جامعيّة أو مدرسيّة، ولم أغادر المدينة التي ولدت بين حدودها منذ عصر الغبار.. وإذا جرؤتُم على التكبّر عن سماع نصائحي فأنتم لستم سوى مغرورين متبطّرين على كرمي وتفضّلي المجّانيّ بعصارة أفكاري التي لا يستحقّها أمثالكم" هذا ما ينمّ عنه سلوك عباقرة التطفّل على حياتنا طوال الوقت بأقوال وأفعال ترفع شعار: (رأيي صواب لا يحتمل أدنى خطأ، ورأي غيري خطأ مطلق لا يحتمل ذرّة صواب) .. هذا النّوع من المخلوقات البشريّة أكثر شيوعًا في أيّامنا الحاضرة من الصّداع، وأكثر إزعاجًا من الإنفلونزا، وأكثر مدعاة للفرار من الجرب. وهو داء رغم تصاعد أعداد المُصابين به، لا يقدر على رؤيته إلا الأصحّاء القلائل في المجتمع، بينما بقيّة المرضى إمّا لا يشعرون بمرض من حولهم على اعتبار أعراض المرض من سلوكيّاتهم المعتادة، وإمّا أنّهم يشعرون بالضّيق تجاه سلوك المتطفّلين عليهم بأعراض المرض ذاتها، لكنّهم لا يفطنون إلى كونهم من المصابين أيضًا. فيعجزون عن فهم أنفسهم فضلا عن فهم سواهم. وينجم عن تفاعل كتلة الجهل بكومة التطفّل واحدة من تلك الشّجارات العنيفة الوقحة التي تتطاول فيها الأذرع وتنعقد الحواجب وتحمرّ العيون وتترعرع الغيبة تحت قهقهات شماتة الشيطان بحفر خندق القطيعة بين شخصين ربّما ظنّهما النّاس يومًا من نخبة الرّفاق والأصدقاء. أبرز أعراض هذا الدّاء على الإطلاق هو نظر الشخص إلى العالم من حوله بأكمله من خلال منظوره الضيّق المبني على وجهة نظر فرديّة، فيتصوّر أنّ ما يماثل أفكاره ومعتقداته وسلوكيّاته في الحياة وحده الصّواب، وكلّ ما لا يوافقها من سلوكيّات الآخرين بحاجة إلى تعديل بالهدم وإعادة البناء في شخصيّاتهم وحياتهم وفق ذوقه وهواه، دون أن يسأل نفسه يومًا عن الدّليل الذي يؤكّد عصمة تصرّفاته كما يظنّ، ويقلّدها سيادة الأمر والنّهي على أقوال وأفعال الآخرين. وهؤلاء في الغالب من أولئك البشر الذين يفتقرون إلى الفكر الإبداعيّ المستقل، وتعجز أذهانهم عن لملمة أطراف مختلف الآراء والتّوجّهات والمعتقدات لعجنها وخبزها في عقولهم لأجل ابتكار فكرهم الخاص وفلسفتهم الفريدة في الحياة، لذا فإنّ حدود مقدرة عقولهم لا تزيد عن حدود مقدرة إسفنجة صغيرة على امتصاص كلّ ما تُغمس فيه منذ بداية حياتها، عاجزة عن التمييز بين الماء والوحل. ثمّ تبلغ مرحلة التّخمة بجراثيم المادّة الرّاكدة بين مساماتها فتعجز حتّى عن امتصاص مادّة أخرى مغايرة. ولأنّ هذا النّوع من مخلوقات الله لا يمتلك المقدرة على الجدال الموضوعي الحر لضحالة ثقافته وتجربته، فإنّه يلقي بمسؤوليّة فتاواه الخاوية في كلّ شأن من شؤون النّاس على كاهل الدّين، رغم أنّهم يتعاملون مع الدّين وأوامر الشّرع كقائمة طعام (أستغفر الله) ينتقون منها ما يُلائم أمزجتهم ويتركون ما لا يروق لأذواقهم الخاصّة!!. وأكثرهم لا يكفّ عن تكرار (قال الله) و (قال الرّسول) لآيات كريمة وأحاديث شريفة يفسّرها على هواه ليستشهد بها في غير مكانها فتكون شاهدة على جهله وإمّعيّته وتفاهة وجوده الطّحلبيّ بين البشر. كما أنّ هذا النّوع من خلق الله كثيرًا ما يقفز في وجه من يبتليه ربّ العالمين به بخبراته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها في الدّين والسّياسة والطّب والطّبخ والإخراج التلفزيوني وتسليك المجاري والخياطة والكيمياء العضوية والفيزياء النوويّة ونظم الشّعر وميكانيكا السيّارات ورفع الأثقال وإصلاح الثلاجات وزرع البازلاء والنّقد المسرحيّ وإدارة شأن كلّ شبر من مساحة الكرة الأرضيّة دون منازع. وإذا كنت عالم دين فهم أقدر منك على تفسير القرآن واستنباط أحكامه رغم أنّهم بالكاد يحفظون فاتحة الكتاب!. وإذا كنت سياسيًا فكلّ جهودك السياسيّة محض عبث أمام القرارات والخطوات الجبارة التي كانوا سيتّخذونها لصالح سياسة البلاد وما جاورها رغم عجزهم عن سياسة أمور بيوتهم وأسرهم الصّغيرة!. وإذا كنت طبيبًا فكلّ تشخيصك وعلاجك ليس إلا لهو ولعب أمام قدراتهم التي لا يشق لها غبار في علوم الطب بكلّ فروعه وتخصصاته!. وإذا كنت روائيًا فكلّ ما تكتبه تافه مستهلك أمام نجاحهم المبهر في كتابة اسمهم الثلاثيّ كاملا دون أخطاء إملائيّة؟!. وإذا كنت طبّاخًا فما تكون تلك الأطباق التي تعلّمتها على يدي أمهر رؤساء الطّهاة في باريس أمام مقدرتهم الفذّة على إعداد البيض المسلوق؟؟!. وإذا أجبرتهم ظروف على الخضوع الصّامت أمام مكانتك المرموقة في تخصصك، فإنّهم يترصّدون الفرص لاقتناص زلاتك البشريّة الطفيفة والتّشهير بها كدليل على أنّك رغم مواهبك وشهاداتك وسمعتك البرّاقة مجرّد فاشل تمكّنوا من كشف حقيقته أمام الملأ !. والحقيقة أنّ دافع تلك السلوكيّات بمجملها ينمّ عن شخصيّة خاوية تحاول إشباع (عُقد نقصها) الخاصّة باعتراض حياة الآخرين وتصرّفاتهم بدلا عن الالتفات لفجوات حياتها هي ومحاولة ترقيع شقوقها الكثيرة. وليس لك - إذا أردت أن تمضي حياتك بسلام رغم تطفّلهم عليها غصبًا عنك- غير أن تختار أحد طريقين: إمّا أن تتجاهل وجودهم فيها تمامًا، وإمّا أن تستعين بكثير من الصّبر لتتعامل معهم بشفقة تشبه شفقة من يتعاملون مع المختلين عقليًا. وافقهم على ما يقولون بابتسامة عذبة، ثمّ افعل ما تريده دون التفات لثرثرتهم الخاوية، وبهذا فإنّهم إمّا يسأمون وييأسون من إصلاحك على هواهم فيفارقونك لإزعاج سواك، أو يرون فيك الصالح الوحيد فوق سطح الأرض لأنّك الوحيد الذي يقبل بتبذير دماثة أخلاقه على أمثالهم في الوقت الذي ينهرهم فيه غيرك!!.