... ثم استيقظ قبيل الفجر، أو لعله ما يزال نائما يحلم بأنه استيقظ قبيل الفجر من حلم عميق كبحر الظلمات .. أراد النهوض، لكنه أحس بألم في الظهر وصداع في الرأس .. مد يده اليسرى إلى الحائط .. أشعل مصباح السقف ذا النور الخافت .. تلمس بيمناه جبهته، فأحس بسائل لزج بارد .. نظر إلى راحته، فإذا بها مخضبة بلون بني..[ من أين هذا الدم المتخثر؟ لابد أنني ما زلت أحلم .. ولكن، بم أحلم؟ ] حاول جاهدا تذكر الشريط الأبيض الأسود، لكنه لم يفلح .. ذهنه مشوش .. سمع الأذان (.. الصلاة خير من النوم) .. آلمه السرير في ظهره .. حاول النهوض.. لم يستطع النهوض .. [ هل ضلوعي مكسورة، أم إنه بوغطّاط اللعين!؟ ] جرب استعمال ذكائه للتذكر .. تأمل لبرهة ما فوقه .. أغلق جفنيه، وتساءل عن الصلة بين الحلم الممكن وهذا السقف المقشَّر، وهذا المصباح الملطخ ببراز الذباب والبَعوض، حتى إن النور بالكاد يضيء الغرفة .. [الغرفة؟ أوّاه!!.. أهو كوخ الطفولة بين أحضان الأسرة ..؟] مرت في ذهنه صور قبيحة .. وأخرى جميلة .. استعاد صوت أبيه المجهور ( بيع .. بيع .. قْراعي للبيع .. البالي للبيع .. بيع .. بيع .. بيع ...) .. تذكر ضحكات إخوته وأخواته وضجيجهم .. وهمس أمه في أذنيه أنِ استيقظ يا وليدي يا عباس .. حان وقْت الذهاب إلى المدرسة... استجمع عباس قواه .. نزل في إعياء من السرير .. انتصب واقفا .. تأمل ما حوله .. لا يشبه كوخ الطفولة في شيء، فهل يحلم بمكان آخر؟ قرص ساعده، فشعر بألم .. تأكد أخيرا أنه مستيقظ .. فما هذا المكان !؟ السرير حديدي .. الملاءة تملأها الثقوب .. تمطى وفتح عينيه الواسعتين .. رأى مرحاضا صغيرا عند قدم السرير .. وبابا حديديا محكم الإغلاق، تعلوه نافذة ذات شباك حديدي .. إنها زنزانة إذن ! قال بصوت مسموع انحنى على ركبتيه .. آلمه ظهره .. رمى بعينيه الجاحظتين أسفل السرير، فوجد علبة صغيرة .. فتحها .. فيها طباشير ملونة.. تذكر أيام الدراسة والمعلم الذي لم يكن ينوه به سوى في مادة الرسم. كان بارعا. يستطيع رسم أي شيء. حتى والده بتقاسيم وجهه وعربته اليدوية. وحتى دجاجات أمه الملونة، يرسمها بدقة متناهية، حتى لتكاد تنقب من يمد أصبعه فوق اللوحة... تأمل جدار الزنزانة حاملا طباشيره بيده اليسرى .. حك فرو رأسه بسبابته اليمنى، ثم شرع في الرسم... رسم عباس سيارة جميلة .. وجعل لها مدخنتين رياضيتين .. أضاف الطريق المعبد المفضي إلى خارج الزنزانة .. ربطه بالشارع الرئيسي للمدينة .. أتم كل التفاصيل .. نظر إلى يمينه وإلى يساره ثم إلى خلفه .. كرر النظر .. أيقن أنْ لا أحد يراقبه .. تنفس عميقا .. فتح باب السيارة الحمراء .. أدار المحرك في لهفة، ثم انطلق كشبح مجنون .. كان الوقت متأخرا .. زاد في سرعة المحرك الزائر كالأسد الجائع .. غادر المدينة في ثانية، وانسل إلى الطريق الغابوي .. الأشجار على يمينه وعلى يساره تنحني له مهللة مصفقة (برافو عباس .. برافو...) .. استعاد صوت أبيه المجهور ( بيع .. بيع .. قْراعي للبيع .. البالي للبيع .. بيع .. بيع .. بيع ...) .. تذكر ضحكات إخوته وأخواته وضجيجهم .. وهمس أمه في أذنيه أنِ استيقظ يا وليدي يا عباس قبل أن تنقلب بك هذه السيارة الممسوسة .. وفجأة، سمع في أذنيه صوت ارتطام السيارة المجنونة بإحدى الأشجار التي كانت تنظر إليه بتجهم (بّام!!) شُلت السيارة الجريحة، وفتحت فمها مثل ذئب جائع.. أما المحرك فأسلم الروح .. حاول فتح الباب المعوج دون جدوى.. وعبر المرآة المكسرة تراءت له أضواء سيارة مزمجرة من بعيد .. تلمس بيمناه جبهته، فأحس بسائل لزج بارد .. نظر إلى راحته، فإذا بها مخضبة بلون الدم... وصل رجال الدرك.. أخرجوه بصعوبة.. فحصوه..( لا داعي للقلق .. فلا كسر تعانيه.. ولا فقدان ذاكرة.. أرأيت عاقبة السرعة يا عباس !؟ ولحسن الحظ لن ترهب هذه السيارة الملعونة أحدا بعد الآن..) فتحوا صندوق السيارة فوجدوه مكتظا بالممنوعات... وضع عباس يديه خلف ظهره .. وُضعت الأصفاد حول معصميه، واقتيد في الظلام إلى الزنزانة.. أغلق السجان من خلفه الباب الحديدي .. رائحة عفنة تنبعث من مرحاض عند قدم سرير حديدي .. بحث عن سيجارة .. لم يجد في جيبه غير علبة طباشير ملونة.. رمى بها تحت السرير .. تمدد في إعياء .. دثر جسمه بملاءة تملأها الثقوب..تأمل السقف المقشر والمصباح المرقط..اقترب الفجر..أغلق عينيه ونام...