يعتبر نعوم شومسكي من المثقفين الأمريكيين القلائل الذين كشفوا أو يكشفون (أطال الله في عمره) ألاعيب السياسة الأمريكية وآلياتها الدعائية والتضليلية للشعب الأمريكي ولجميع شعوب و"قادة" العالم. ذلك أن تخصصه اللساني (حيث وضع نظرية طورها ويطورها باستمرار ومشهود له عالميا بنحوه التوليدي التحويلي منذ نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم) لم يمنعه من أن يضع يديه في النار الأمريكية الحارقة، وأن يقول الحق ويكشف الظلم الذي مارسته ويمارسه بنو جلدته وملته (اليهود الصهاينة بالخصوص). وإذا ما ألقينا نظرة على خريطة لسانيينا العرب، تصاب أعينا بالعمى ويخرس لساننا، حيث إن أكثريتهم منغمسة في التدريس التقني الساكت أخرس اللسان، ولا يتململون قيد أنملة للنظر في الوجه العزيز لسياساتنا العربية من الماء إلى الماء. وتعميما للفائدة ولكل غاية مفيدة، سأحاول في هذا المقال بسط أهم الآليات الدعائية التي وقف عندها شومسكي في بعض كتاباته وحواراته، مع التركيز على أشكال التحكم في الرأي العام الأمريكي والعالمي وصناعة الإجماع العالمي الوهمي خدمة لمصالح العصابات الحاكمة في أمريكا وإسرائيل بالدرجة الأولى. ينطلق شومسكي في كتاباته الغزيرة وحواراته الصحافية اللامتناهية من القول بوجود مفهومين أو تعريفين للديموقراطية: الأول يعتبر أن المجتمع الديموقراطي هو المجتمع الذي يملك فيه العامة (الجمهور) الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شؤونهم، وأن تكون وسائل الإعلام منفتحة وحرة. الثاني، هو "أن يمنع العامة من إدارة شؤونهم ، وكذا من إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة". إنهم متفرجون وليسوا مشاركين كما قال والترليبمان عضو "لجنة كريل" الأمريكية التي كانت مخصصة للدعاية السياسية. (شومسكي، السيطرة على الإعلام، ط 2005، ص 8). ويذهب شومسكي إلى أن المفهوم الأخير هو المفهوم الحاكم والمعمول به فعليا حتى وإن بدا مستهجنا أو شاذا. من هنا نفهم كيف كرس ويكرس ناقدنا المقدام حياته لكشف الآليات الخفية التي تقدمها الإدارة الأمريكية والدول المتحالفة معها (بريطانيا وإسرائيل بالخصوص) للسيطرة على الرأي العام المحلي والعالمي. كما لم يتوانى في فضح الممارسات الأمريكية القاتلة للديموقراطية الحقة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، من خلال المعلومات والتقارير والتصريحات التي تقع بين يديه. ويتم قتل المشاركة الفعالة للشعب من خلال حرمانه من أي صورة من صور التنظيم، لأن التنظيم يثير المشاكل، حيث يجب أن يجلسوا بمفردهم أمام شاشات التلفزيون وأن يلقنوا رسالة مفادها أن القيمة الأساسية من هذه الحياة هي أن يتوافر لديك أكبر كمية من السلع، أو أن تعيش مثل الطبقة الغنية المتوسطة التي تشاهدها..." (ص 19). كما لا داعي للبحث عن العمل الجماعي وفتح الحوار مع الجيران القريبين. كلما كان الناس منفصلين، كلما سهل ضبطهم والتحكم فيهم ( ص 220 de la propagande ). تصنيع الإجماع انطلاقا من المفهوم الجاري به العمل للديموقراطية، يذهب شومسكي إلى أن العقل السياسي الأمريكي يحدد وظيفتين لطبقات المجتمع: الأولى توكل للطبقة المتخصصة التي تقوم بالتفكير والتخطيط وفهم مصالح البلاد. والثانية توكل للعامة أو القطيع وتتمثل في المشاهدة ومباركة أعمال علية القوم والتعبير عن رغبتهم في انتخاب فلان أو علان الذي اختير لهم، (السيطرة على الإعلام، ص 11-12). من هنا تظهر أهمية إدارة القطيع و ترويضه وتشجيعه على استهلاك السلع المعروضة وعدم السماح له بالغضب والاستيقاظ وإلا طالب بحقه في المشاركة في القرار. ومن الأساليب الدعائية التي تلجأ إليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في تصنيع الإجماع: • التحكم في المعلومات التي تصل إلى وسائل الإعلام وقطع الطريق على كل التقارير والتصريحات والحالات التي تشوش على الرأي الرسمي المتفق عليه. • تعبئة الرأي العام من خلال دغدغة مشاعره الوطنية بدعوته إلى الالتفاف حول الحكومة للدفاع عن السيادة الإنسانية، ولا يتم ذلك إلا في الحالات التي تتقاطع مع المصلحة الأمريكية (صدام حسين يقوم بالتنكيل لشعبه) فيما تطمس الحالات التي يكون فيها حكام مرضي عليهم إلى يوم الدين (مصر، كولومبيا، إسرائيل، تونس، جنوب إفريقيا أيام الميز العنصري). • اختزال أمريكا ومصلحة قاطني الولاياتالمتحدة في مصلحة فئة قليلة حاكمة و/أو متحكمة في الاقتصاد والمال والأسواق (1% من الأمريكيين يملكون 50% من الأسهم...). صناعة الخوف تمارس الدعاية الأمريكية حجبا قويا للمشاكل الكبيرة التي تتخبط فيها فئات واسعة من المجتمع الأمريكي في الصحة والتعليم والأمن والشعل والسكن والعدل.. حتى أن البعض لا يصدق أن هناك أمريكيين فقراء يعيشون في الشوارع... ومن أجل ترسيخ هذه الصورة المغلوطة داخليا وخارجيا، تلجأ الإدارات الأمريكية إلى تشجيع بث المسلسلات والسلسلات ومباريات الدوري الأمريكي في كرة القدم وكرة السلة لطمس معالم الجريمة الاجتماعية وتشتيت أنظار القطيع الأمريكي الضال. غير أن هذه الآلية لا تحقق المراد دائما، من ثمة تلجأ الإدارة إلى تغيير الدواء عبر استعمال مضاد حيوي قوي:إخافة الأمريكيين وصناعة عدو خارجي يتربص بهم وبأطفالهم ويهدد "حريتهم" التي هي قاب قوسين أو أدنى من الضياع (كما صنع بوش إبان 11 شتنبر وحرب الخليج). في هذا السياق يؤكد شومسكي أن لكل مرحلة بعبعها، هتلر والنازيون، ثم شعار الروس قادمون أيام الحرب الباردة، ثم المجانين العرب، وبن لادن، ثم صدام حسين (ويمكن أن نضيف الآن إيران، حزب الله، حماس). فإذا كان لكل مقام مقال، فإن السياسة الأمريكية تقوم على شعار: لكل مرحلة رجلها، رجالها. كان عليهم يقول شومسكي لزاما الإتيان بالواحد تلو الآخر لإخافة الناس وإرهابهم حتى يعيشوا في ذعر" (ص 33-34)، كما أن هناك دائما هجوم إيديولوجي يؤدي في النهاية لخلق وحش وهمي تعقبه حملات للتخلص من هذا الوحش، وذلك أمر خطير جدا، ولكن إذا تأكدت من أنهم سيتحطمون فربما سنقضي على هذا الوحش ونتنفس الصعداء" (ص 34). وتكمن وظيفة التخويف الأساسية في قتل كل إمكانية للتفكير في الأوضاع الداخلية والخارجية، حيث تنتصر غريزة الرغبة في الحياة عن طريق قتل الوحش: بن لادن، صدام...