الإقتراب من فكر المهدي مستقيم، هو بحاجة لأكثر من حوار لأن هذا الكاتب يستعير أدوات الفلسفة لمسائلة النص الأدبي، وأحد الفاعلين ممن دللوا هذا المتن للقارئ العربي، في ارتهان لضخ نور الفكر بعيدا عن الشكلانية في الأسلوب، والاستكانة داخل البرج العاجي للمفكر . في هذا الحوار نفتح كوة صغيرة للإطلالة على بعض التَمفصلات الهامة في مشروعه الكتابي، وننصت لناقد خبر النص الأدبي جيدا، واشتغل عليه من خارج المقولات الجاهزة للأدب. •س: من خلال متابعة المشروع الجمالي والفكري الذي تشتغلون عليه، أجده بالموازاة مع بت قيم الأنوار في أعمالكم، تصرون على جعل المتن الفسلفي سندا ومرجعية أولية، في وقت الغالبية من النقاد يمتهنون الشكلانية، ويبتعدون عن أتون الفكر؟كيف تقدم لمشروعك؟ •ج: لا يمكن أن نصف ما أعمل على تحريره من نصوص تمتح من الفلسفة والأدب ب"المشروع"، قد تكون نصوصا تنهل من هم فكري، أومن مخاض، اتخذ من فعل الكتابة سبيلا للمقاومة، على أنني أحاول تمرير خطاب بلاغي يتغيا الإقناع لا الاقتناع،ويبدي رفضه واستياءه من البنيات الاستبدادية التي ترزح فوق رؤوسنا منذ وقت مبكر(التجريم السياسي/التحريم الديني/العصبيات والتحالفات البدوية)، ويستنطق عوائق تحررنا، وتحديات انبعاثنا، ويأمل أن يسهم في تشييد أنوار جديدة، نستدرك بها تأخرنا التاريخي ونأسس بها حداثتنا الخاصة، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى المشروع، وإنما هي محاولات باحث ناشئ. يرجع اهتمامي بالبعد الفكري للنصوص الأدبية -خصوصا تلك التي تنتمي إلى جنس الرواية- واتخاذي من الفلسفةوالسوسيولوجيا سندا ومدخلا رئيسا لمقاربتها ، إلى اعتقاد مفاده أن الأدب يمتلك نزعة فكرية أصيلة، وهذا ما يسمح لنا بالتكلم، كما سبق أن أعلن بيير ماشيري عن «فلسفة أدبية». فالخطاب الأدبي الصرف، مثل الخطاب الفلسفي الصرف، لا وجود له، ولا توجد إلا خطابات ممتزجة تتداخل فيها ألعاب لغوية مستقلة في أنظمة مراجعتها وفي مبادئها. كما أنه من المستحيل تحديد نسبة الشعري والروائي والمنطقي تحديدا نهائيا. إن الفلسفي حاضر في النصوص الأدبية على مستويات متعددة، لذلك من الضروري تفكيك تلك النصوص بعناية وفق الوسائل التي تتطلبها والوظائف التي تشغلها.يكتشف القارئ في أعمال "مدام دوستايل" و"جورج صاند" مثلا الأدب كنوع من آلية لاستكشاف دروب الصيرورة الإنسانية من منظور أنثروبولوجي، إذ نجد في روايات مدام دو ستايل دراسات تهم الشعوب والثقافات القومية ضمن حدودها المكانية والزمانية، مع اعتمادها على فلسفة فريدريك هيغل، حيث توظِّف الأفكار الفلسفيّة في نصوصها الأدبية لخدمة الموضوع الذي تتناوله. كما أنها لخّصت فلسفة كانط كلّها في صفحات ثلاث في رواية «عن ألمانيا». وذلك لتقريب الفلسفة من الجمهور العادي، وانطلاقا من اقتناعها بأنّ كانط فيلسوف الحماسة، الذي يصالح العام والخاص، ابتكرت دو ستايل فكرا جديدا واتّحد الأدب عندها بالفلسفة. الأمر نفسه ينطبق على أعمال جورج صاند التي كانت ترى أنّ دور الكاتب ليس هو الدفاع عن أفكار، بل إثارة أسئلة يبقى الجواب عنها معلّقا. فرواية «سبيريدون» ترمز إلى تاريخ الإنسانية، حيث يحضر «سبينوزا» و«فاوست» و«مالبرانش»، وتندمج مظاهر الحياة الأشد اختلافا ضمن رؤية واحدة. •س: لك متابعات نقدية لعدد من الكتابات ، كيف تجد دور الناقد اليوم؟مع أن عديدين يرون دوره محصور في التعريف بالكاتب والترويج للكتاب؟ •ج: يمكن القول بأن الناقد بالإضافة إلى وظيفته الرئيسة،المتمثلة في تحليل النصوص الأدبية،والإلمام بالإصدارات الجديدة، ومتابعتها وتقريبها من المتلقي، ومساعدته على استيعاب ما تنتجه من معاني ودلالات مضمرة، له وظيفة أخرى وهي الأهم في تقديري الخاص، تركن إلى ترسيخ قيم العقل،وغرس بذور الحداثة، وتشييد جسور لتجاوز التراث المظلم، والقفز على أفكار المنع والتحريم العنف ورفض الآخر المختلف...فإذا كانت الرواية العربية قد نشأت لتقاوم كل اشكال القمع التي تفرضها كل سلطة استبدادية باسم الدين أو السياسة أو المجتمع على حد تعبير جابر عصفور، فما على الناقد إلا الكشف عن أشكال هذه المقاومة واقناع المتلقي بأن شيوع أشكال القمع في العالم العربي هي التي توقف تجذر الحداثة العربية وتمنع انتشارها. •س: يغلب على كتابتك النقدية ،إستخدام المفاهيم الفلسفية الصرفة، وتطبيق أسسها المعرفية على حقل الأدب، هل هو راجع لتكوينكم الفلسفي بالدرجة الأولى؟أو لوشيجة ترونها لازمة بين الفلسفة والأدب ؟ •يعود توظيفي لبعض المفاهيم الفلسفية في قراءتي لنصوص تنتمي لجنس الرواية، من جهة، إلى دائرة التخصص الذي اشتغل فيه، كوني مدرسا لمادة الفلسفة ، ويعود من جهة أخرى، إلى هم وغيرة على ما آل إليه الأدب بعد سقوطه في شباك الثالوث المعاصر: «الشكل، العدمية، الأحادية»، حيث النقد غاية بعد ما كان وسيلة تساعد المتلقي على فهم النصوص والظواهر الاجتماعية، فانحرف عن وظيفته وسقط في الشكلانية. والأخطر من ذلك في نظر تودوروف هو «استيراد» المؤسسات التعليمية من ثانويات وجامعات لتلك النظريات النقدية الجديدة التي عوض أن تؤدي رسالتها الحقيقية بدأت تسيء إلى النص الأدبي نفسه. إن الأدب الذي يُعلَّم في الثانويات والجامعات لم يعد يتحدث، عن الإنسان في العالم بقدر ما يتحدث عن نفسه وعن «الفرد» الذي كتبه. أما النقد الحديث فقد أصبح غارقا في «الشكلانية» مفتقدا للبعد الإنساني والبساطة، وهذان عنصران يحتاج النقد إليهما كل الاحتياج ليتمكن من التواصل مع قارئه ومع الكاتب صاحب النص. نشير هنا إلى أن من أشهر المقولات الذي انتشرت في النقد الشكلاني والبنيوي تلك التي أطلقها رولان بارت حول موت المؤلف، حتى يتحرر القارئ من سلطة الفاعل الأول الرمزية ويمارس نشاطه الإبداعي الذي هو القراءة . كيف يموت المؤلف وهو في الوقت نفسه قارئ لنصوص أخرى؟ بل كيف يموت القارئ الأول ليعيش القارئ الثاني؟ ألا تعتبر مقولة موت المؤلف من بين المقولات التي أغرقت النقد في الشكلانية وأبعدته عن المضمون الإنساني؟ إذا كان نداء تودوروف الذي ينبه إلى خطورة الوضع الذي أصبح عليه الأدب في العصر الحالي، موجها للنقاد والكتاب الفرنسيين والمؤسسات التعليمية والجامعات الفرنسية والقارئ الفرنسي. فهو كذلك موجه إلى كل المعنيين بالقراءة والأدب في العالم، خصوصا في العالم العربي الذي تأثر بصورة كبيرة بالتيارات البنيوية والشكلانية في الربع الأخير من القرن العشرين، إذ لقيت انتشارا وتجاوبا كبيرين بسبب تدريسها في الجامعات العربية واحتضانها في المؤسسات الثقافية. يجب إنقاذ النص الأدبي من هيمنة النقد الشكلاني، والرجوع إلى البعد الإنساني في العملية الإبداعية بدلا من الإغراق في الشكل. فالخطر الذي يتهدد الأدب اليوم هو التعليم الشكلاني الذي يلقن التلاميذ النظريات التي تتحدث بدلا عن النص، وتستمع إلى الناقد بدلا من الإنصات إلى المؤلف. وقد أكد تزيفان تودوروف أن مجموع هذه التعليمات – يقصد التعليمات الرسمية- تسعى إلى تحقيق هدف وحيد، هو تعريف المتعلم بالأدوات التي يتم استخدامها في قراءة القصائد والروايات من دون تحفيزه على التفكير في الوضع الإنساني، في الفرد والمجتمع، في الحب والكراهية، في الفرح واليأس، بل التفكير في مفاهيم نقدية، تقليدية أو حديثة. في المدرسة، لا نعلم عن ماذا تتحدث الأعمال وإنما عن ماذا يتحدث النقاد. •س: ما تقييمك للحركة النقدية ومستوى مواكبتها، خاصة مع استياء بعض المبدعين من الانتقائية وعدم الموضوعية ؟وهل يشوش ذلك على المستوى القوي الذي بات يظهر به على مستوى الساحة العربية؟ •ج: إلى أي حد ساهم النقد العربي في التغيير الذي شهدته الرواية العربية من حيت البنية والشكل؟ إن أول شخص يمارس فعل النقد بما هو خاصية بلاغية أسلوبية يتم تمثلها أثناء عملية الكتابة هو المبدع نفسه، إذ يعمل على تقديم عبارة وتأخير أخرى أو الإبقاء على استعارة وخسارة أخرى. هذا الاستياء في حقيقة الأمر مشروع، إلا أنه للإنتقاء في بعض الأحيان ما يبرره خصوصا عندما يتعلق الأمر بنصوص غير ذات قيمة أدبية وجمالية، وغير ذات هم فكري معرفي، إذ لا خير كما يقول الجاحظ "في كلام لا يدل على معناك ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت"، دون أن نغفل ما يعرفه الواقع الثقافي والأدبي من تحولات، سواء على مستوى تعدد دور النشر وما يترتب من فيض في الإصدارات وفي أجناس مختلفة، يصعب معه ضبط متابعة جد دقيقة لهذه الإصدارات. •س: ما مشروعكم القادم؟ •ج:أنا الآن منهمك في إعداد دراستين: - الأولى فلسفية تسعى إلى التعريف بفلسفة الجيل الثالث من مدرسة فرانكفورت، والوقوف عند المنطلقات المنهجية التي يستند إليها هذا الجيل في مقاربته للموضوعات التي يشتغل عليها. -والثانية يمكن إدراجها ضمن حقل الدراسات النقدية الأدبية،سأتناول فيها أشكال مقاومة القمع في الرواية المغربية.