مرت على جانب الرصيف حتى تُخلي مكانها لزحمة آدمية ، كانت في مشية أقدامها رقة كالفراشة التي تحط رحالها في الأزقة الراقية، تعمدت أن تكون معتدلة في مشيتها و حركتها المشعة بالأنوثة. كان أشدُّ حبها أن تتنزه تحت زرقة صافية ، كثيرا ما يحلو لها الإنفراد لوحدها حتى ترقص بأفكارها على محمل الجد. تلتهم بعينيها الواسعتين مواقف مضحكة تعمدت مراقبتها لعلها تجد مايريحها من أساطيرها القديمة و ذكرياتها الأليمة . فرَّ منها سمعها إلى حديث عجوزتين أثقلتهما عادات أجيالنا و عصرنا المنفتح ، فوقفت منصتة لعلها تجد من كلامهما ما يروي أفكارها و عقليتها، إلا أن إحدى العجوزتين انتبهت لاهتمامها و رغبتها في الإنصات لها .. فقامت تناديها بنبرات متقطعة و يداها ترتجفان من شدة كبر سنها ، فلم تجد منها إلا الرضى حيث شعرت بالإرتياح لها و لقت في صفاتها ابنتها المرحومة يسرى. كل شيء فيها يشبهها، حتى قسمات وجهها و شعرها البني و شفتيها الممتلئتين . قالت بثقة : - لقد وجدت في وجهك ما يشبه ابنتي . فاجابتها بدهشة : - صوتك عبر الطريق لعروقي .. هذه أنت يا أماه، بعد هذه الغيبة الطويلة . -أجل يا ابنتي، هذه أنا بلحمي و دمي، و أنت حية .. حية ترزقين . -أسأل الله أن يمد في عمرك يا أمي، حتى نعوض من الأعوام ما فاتنا .