عن دار النشر الفاصلة بطنجة صدر ديوانُ الشاعرة نعيمة فنو مُتَخَيِّرَةً له " دولاب الحظّ " عنواناً، في طبعةٍ جيدةِ الخَطِّ والورقِ، وهو يَشمَلُ 150 صفحة من الحجم المتوسّط، مع غلافٍ صقيل تشغلُ واجهتَه لوحةٌ للفنان روبيرت ديلوناي / Robert Delaunay، عبارة عن دولابٍ بقياسات هندسية تركيبية مختلفة لكنها تدور في وحدةِ الدائرة الدولابية. التدويرُ الشعري الخَلاّق. تكتب الشاعرةُ نعيمة فنو بنكهةِ المُفارَقة الحادّة، عبر عينٍ إبداعية نافذة تُعيد من خلالها تركيبَ وصياغةَ العناصرِ والموجودات البشرية والطبيعية بحذقٍ وحساسيةٍ تخييلية لافِتة جدا، حتى إنها تَخُضُّ القارئَ وترفَعُه حتى مدارِ الإدهاش. إلى جانب ذلك نجد أنها تقترب من فَنِّ الكتابة بالكولاج كتقنيةٍ تشكيلية، ممّا يَفتح الإمكانيةَ لحضورِ رموزٍ ومُكوِّنات من انتماءاتٍ سيميائية مختلفة وبعيدة تماما عن بعضها، لكنَّ طاقةَ الفَيْضِ الشعري تَعْرِضُها أمام المُتَلقّي بفتنةٍ جماليةٍ بعد أن تُعيد تشكيلَها في خلقٍ جديد. بهذا الاختيار الجمالي المُدهِش، فإن الشاعرة تُقوِّضُ المُواضَعات والصُّوَر المألوفة في الكاتالوغ الذهني والبصري للقارئ، تستفزُّ مُخيِّلَته ومَنْطِقَه، دافعةٌ به إلى ترويضِ وشحذِ بصره وبصيرِته. هي إذن ومضات والتقاطات جمالية لا تَصدُر إلا عن ذاتٍ مُتَفَلِّتة من عِقالِ المُواضَعات البصرية والذهنية، يَحْفِزُها خيالٌ مَشبوبٌ واستغوارٌ وئيدٌ لسيمياءِ الذات والعالَم، ذات تُعيدُ تشكيلَ المُكوِّنات والعناصر الطبيعية، تَبتدع لها علاقات وروابط فوق النظرة التي تعارَف عليها الناس. تأسيساً على هذا الوعي الإبداعي، فالشاعرةُ تَشَقُّ أفقًا وتَجْتَرِحُ سُبُلاً لمُمْكناتٍ أخرى، وتلك حقًّا إحدى قوى الأدب الجاد.
حين يدور الدولاب حول الكتابة. مِن بين الشَّواغِل الشعرية المختلفة الحاضِرة في " دولاب الحظ "، نجد تلك الحواريةَ ما بين الذات الكاتبة وفِعْلِ الكتابة نفسها. في هذا المقام تسعى نعيمة فنو إلى كشف المسالك بينها وبين عمليةِ الإبداع، نَستشفُّ بعضَ ذلك من قولها:
صنعتُ منزلاً من الورق المُقوَّى لألعبَ أصبح صندوقا أسود لحرائقي. ص 90.
يَتَبَيّنُ أن الكتابة بدأتْ وبَدَتْ أولَ الأمر نوعاً من الغواية والجَذَلِ، بل وضَرْباً من المُتعة واللَّعب، لكنها انتقلتْ من طَوْرٍ لآخر، حتى صارت اصطلاءً وحرائق تَضْطَرِمُ في كيانِ الذات المُبدِعة، حرائق تَتلظّى بها الأفكارُ والمشاعرُ الوئيدة. علاقةً بأسرار الكتابة والإبداع التي يَحفل بها الكتابُ الشعري، تَبتكرُ الذاتُ توصيفًا خلَاّقا لاشتعال فتيلِ الإبداع وانْقِداح الشرارة، فنقرأ قولَها: أضربُ الصادَ بالصاد لإشعال غريزة اللغة. ص 102 دولابُ الانبعاث والتجدُّد. في مستوى إبداعي آخر، فالشاعرةُ تَكتُب بلُغةِ الفراغات عبر صيغٍ تشكيلية بصرية، بحيث إن توزيع كلماتِ وحروف النص/ القصيدة يَخرُج عن التَّرْصيصِ المألوف، ويَحفل بأشكالٍ تَسْبَحُ وفقَ تنسيقٍ وحُرِّيةٍ جمالية على الصفحات كأنها مَجرّاتٌ من كواكب وأجرام ونجوم سابِحة في الكون الشعري الفسيح.
انسجامًا مع لوحةِ غلافِ الكتاب تَبِينُ النصوصُ هنا مثلَ دولابٍ فيه حركةٌ شعرية دائرية لكن بتشكيلاتٍ بصرية مُتعَدِّدة الأشكال والأحجام والأوضاع، غير مُنفصلة تماما، وإنما هي صورٌ وإبدالات شعرية مُتَضَامّةٌ في وحدةِ وجودٍ مُطَّرِدَةٍ. لذلك لا يَشْتَمِلُ الديوانُ على فهرسٍ، لأن نصوصَه لا تَحمِل عناوينَ خاصّة بها، أي إنها لا تحمل هويةً واحدة مُغلقة، بل هو مَحْفَلُ قصائد صُغرى قُصيِّرة مُتَراكِبة من حيث البنيةُ الدلاليةُ فيما يُشبُه الدولاب، لأن هناك جذرٌ رمزي هو الانبعاثُ والتجدُّد تجتمع عنده معاني مختلف النصوص، حيث نرى: الأرضَ تتجدّد، والذات، الوردة، الحقل، البحر، الريح، الشجرة، القبلة، الأحلام، الدمعة، الكلمة … كلّها عناصر عُضوية ومعنوية تدخُل طَوْرَ عملياتِ الانبعاث والتجدُّد. صحيحٌ أننا نقرأ عملاً شعريا، لكنه يأتينا في روحِ الوَمْضَةِ السردية، فلا يَخْلُو نَصٌّ من بنيةٍ لغوية سردية تتأسّسُ على الفعل والحركة، أو صوَرٍ شعرية سردية تقتربُ فيها النصوصُ من " القصة القصيرة جدّا ". إننا نُطالع كتابةً تَتَوَثَّبُ وتَتَلَظّى كأن فيها مَسٌّ من خيالٍ جَمُوحٍ وروحٍ مَشبُوبَة تُحَرِّرُ العقلَ والروحَ فهي تَجْنَحُ بالخيال إلى ما وراء التوَقُّع والأُلفة.
ويبقى دولابُ الشعر دَوّارًا. بعيدا عن خطاب المُداهَنات النقدية أو الانطباعية، وفي زمن الفَوْرة الروائية النثرية، فإن تجربة الشاعرة نعيمة فنو تَسْتَأهلُ مواكبَةً نقدية وتلقِّياً جديرًا بالمجهود الجمالي الجبّار الذي يَزخر به الديوانُ، مؤكِّدةً أن للشعر دائماً عُمقَه وجاذبِيَّته الفنّية، وما المسألة سوى وجود ذوات قادِرة على اجتراحِ واشتقاقِ معاني ومُقترَحاتٍ جمالية ببصيرة نافِذة وحساسية تَليقُ بعَلْيَاءِ الشعر.