في العصر الحديث تعتبر حركة الشعر الحر في (العراق) منعطف لمسار الشعر؛ ونقلة إبداعية أخذت الشعر العربي التقليدي إلى أفاق رحبة وسعت من أغراضه ومعانية وتعبيراته ورموزه واستعاراته وتشبيهاته؛ بما جادت قريحة الشاعر العراقي وثقافته التي أثرت تأملاته عبر الدراسات المتنوعة لثقافات الشعوب الأخر وتنوعاتها؛ والتي كانت لها صدى واسعا في هذا اللون من الشعري الحر الحديث والتي أثارت حوله تأملات ودراسات بين مناصر لها ومعارض امتدت على مساحة الوطن العربي من الخليج إلى المحيط . وقد ساعد المناخ الثقافي في (العراق) واتساع حركة الترجمة ونشر أعمال وأنشطة المدارس والمذاهب الأدبية والفنية والثقافة الأوربية بمختلف لغاتها إلى اللغة العربية؛ بروز جيل من شعراء الشباب آنذاك؛ تأثروا تأثيرا بالغا بالمدارس الأدبية والفنية في أوربا وفلسفتها من الكلاسيكية.. والواقعية.. والرومانسية.. والوحشية.. والرمزية.. السريالية.. والدادائية.. والمستقبلية.. والتجريدية.. والتعبيرية.. والتكعيبية.. والوجودية.. وكذلك بما تم ترجمته من أشعار (لوركا) و(بودلير) و(مالارميه) و(بول فاليري) و(وبول ايلور) و(رامبو) و(ارغوان) و(بابلو نيرودا) و(ايليوت) و(ناظم حكمت) وأعمال الفلاسفة من (كانت) و(هيوم) و(سبنسر) و( ديكارت) و(جيته) و(شوبنهور) و(هيغل) و(ماركس) و(سارتر) وآخرون وهم كثر، وكل ذلك شكل عند شعراء العراقيين وعاء فكري هائل اخذ التعبير عنه من خلال توسيع أفاق التعبير عبر إدخال الرموز والأساطير ومفردات حديثة ربطت بين المتناقضات ومترادفات ليفتحوا شعراء أبواب الحرية لتعبير عن مكنونات دواخلهم بكل اتجاهات وتصرف ووفق ما تمليه أحاسيسهم ومشاعرهم دون التزام بقواعد التقليدية للقصيدة التقليدية، فكانت حرية التعبير والتصرف بابا لدخول إلى عالم (الشعر الحر) بعد إن استطاع وعي الشاعر الهروب من رقابة الفكر وأنظمة الأدب التقليدي، فكانت رياح التغيير تجتاح الوسط الثقافي والشعري في (العراق)؛ بعد إن استوعب مثقفو (العراق) ثقافة العصر والظواهر الثقافية والاجتماعية والسياسية منذ نهاية الثلاثينيات والأربعينيات القرن الماضي لتنفجر مدرسة (الشعر الحر في العراق) على يد الجيل الأربعينيات والخمسينيات من (بدر شاكر السياب) و(نازك الملائكة) و(عبد الوهاب ألبياتي) و(بلند حيدر) و (حسين مردان) و(لميعة عباس عمار) و(سعدي يوسف) و(فاضل العزاوي) وآخرون، وهم الجيل الذي فتحوا الطريق أمام الأجيال التي تلتهم للغور في أعماق (الشعر الحر) ليتنفسوا بحرية أكثر؛ لتكون فترة الأربعينيات وما بعدها أخصب مراحل الإبداع في (الشعر الحر العراقي) بما شهدت الساحة العراقية الشعرية من نهضة شعرية وأدبية قل نضيرها في عموم الشرق الأوسط من حيث الإبداع والتجديد التي بدا الشعر العربي يتشكل بهذه الرؤية الجديدة . ومن هذه الأفاق في (الشعر الحر في العراق) فإننا نستوقف قليلا مع الشاعرة (لميعة عباس عمارة) و(سعدي يوسف) الذي رحلوا عنا خلال الشهر الماضي من حزيران عام 2021 واللذان تركوا بصمة حداثية في عالم (الشعر الحر)، وأننا هنا إن نسلط الضوء عليهما ليس من باب المقارنة أو المقاربة الشعرية بينهما؛ لان لكلا الطرفين أسلوبه الخاص لا تقارب بينهما لا من قريب ولا من بعيد؛ لا من حيث المفردات أو اللغة الشعرية أو البلاغة؛ ولكل طرف مواقفه الخاصة في كتابة الشعر، ف(سعدي يوسف ) شاعر عملاق له مواقف وأراء إيديولوجية غزير الثقافة والكتابة والبلاغة من حيث عدد الدواوين أو الكتب المترجمة أو المقالات الأدبية المنشورة في المجلات والجرائد العراقية والعربية، بينما (لميعة عباس عمارة) فإن ما يعرف عنها بأنها شاعرة رومانسية مقلة في الكتابة ونشر الدواوين الشعرية؛ حيث لا تتجاوز دواوينها المنشورة أصابع اليد؛ وقلما نجد لها مقالات نقدية في جرائد العراقية أو العربية عدا مقابلات صحفية بين فترات متباعدة، ومن هنا فإننا إن نسلط الضوء عن الشاعرة (لميعة عباس عماره) والشاعر(سعدي يوسف) في هذا المقال يأتي من باب كونهم من جيل واحد ومن رواد الشعر ترك بصمات واضحة في (الشعر الحر العراقي)؛ وكلاهما اغتربا عن (العراق) ورحلوا عن عالمنا مغتربين في مدن ألغربه، ف(لميعه) مات في (أمريكا) و(سعدي) مات في (لندن)؛ وإننا فقدناهم في شهر واحد؛ وهم يعتبرون من أعمت (الشعر الحر) اغنوا (الشعر العراقي الحر) بقصائدهم؛ وكان لكلا الطرفين بصمات وتأثيرات على الساحة الشعرية العراقية والعربية؛ ومن هذا الباب فحسب؛ فإننا نستعرض بإيجاز أنشطة كل منهم انفرادا دون أية مقارنة أو مقاربة أو تحليل معمق في أشعارهم ودواوينهم . ف(لميعة عباس عمارة)، التي رحلت عن عامنا يوم الجمعة 18 حزيران 2021 عن عمر ناهز 92 عاما؛ أما (سعدي يوسف) فقد رحل في 13 حزيران 2021 وهما يعتبران أخر رواد (الشعر الحر العراقي)؛ رحلوا عن عالمنا مغتربين عن الوطن، ف(لميعة) توفيت في (أمريكا) و(سعدي) توفي في (لندا) – كما قلنا سابقا – فالشاعران تحلقوا في عالم الغربة بعيد عن الوطن وظلوا يمخرون أفاق الشعر عبر عباب حياة غامضة أخذتهم الغربة حد الثمالة والجنون؛ واخذ كل على طريقته يتفرد بصياغة مفردات الشعرية وبدلالات خاصة . سعدي يوسف عالم من الغربة والوحدة فحين نمعن في مفردات الشعر للشاعر(سعدي يوسف) فإننا نجدها تبحر نحو المخفي من المخيلة نتيجة هروب الشاعر من زمن صعب مليء بالتناقضات؛ فهو يأبى إن ينأى حضوره كما في وقت ذاته يريد الحضور؛ لأنه يشعر بأنه يعيش في غياب قسري بعد إن غادر (العراق) في سبعينيات القرن الماضي؛ لذلك فهو يبحث عن مفردة تواسي آلامه من الضجر والغربة والوحدة؛ لان ذاته تشعره على الدوام بالوحدة وتشعره بهذا الإحساس وهو يقطع أشواط الحياة نحو الرحيل في عالم الغربة التي تعري حياته في عالم الوحدة والغياب؛ فيحاول الولوج نحو الولادة الأولى؛ ولهذا تجده بهذا السحر دوما مرهون في هذا الغياب وهذا ما تستنطقه قصيدته من ديوان ((بعيدا عن سمائك الأولى)) حين يقول: سأرحلُ في قطارِ الفجر شَعري يموجُ، وريشُ قُبَّعَتي رقيقُ تناديني السماءُ لها بُروقٌ ويدفعُني السبيلُ بهِ عُروقُ سأرحلُ… إنّ مُقتبَلِي الطريقُ سلاماً أيها الولدُ الطليقُ…….. ………! حقائبُكَ الروائحُ والرحيقُ ترى الأشجارَ عندَ الفجرِ زُرقاً وتلقى الطيرَ قبلكَ يستفيقُ…….. ……….. سلاماً أيها الولَدُ الطليقُ ستأتي عِندكَ الغِزلانُ طَوعاً وَتَغْذوكَ الحقولُ بما يليقُ سلاماً أيها الولدُ الطليقُ…….. ………… سلاماً آنَ تنعقدُ البروقُ…………. ………… ومن قصائده أيضا عن الغربة والاغتراب نختار مقطعا من قصيدة (قارة الآلهة) حيث يقول: لو كنتَ وُلِدتَ بإحدى القارات المجهولةِ في قَرنٍ آتٍ وتنفّستَ هواءً مختلفاً وطَعِمْتَ غذاءَ من آلِهةٍ وشربتَ رحيقَ ملائكةٍ ولبستَ لبوسَ فضائيينَ ؛أقولُ: إذا أَمْكَنَ هذا وتمكّنتَ ، فهل آمُلُ أن أتلقّى منكَ بريداً……. ؟ ذبذبةً خافتةً مثلاً أو بضعَ إشاراتٍ ضوءٍ كوكبُنا الآنَ يمُرُّ بقَرنِ ظلامٍ والظلمةُ ، حتى الظلمةُ، تشتدُّ على البؤساء )أنا منهم…. أسألُكَ الرحمةَ: هل تتدبّرُ أن يحملني منك شعاعٌ كي أولَدَ في إحدى القارات المجهولة، في قَرنٍ آتٍ فأشِبَّ رهيفاً بين ملائكةٍ ومنازلِ آلهةٍ وفضائيين………… ……….. ف(سعدي يوسف) هنا يشهق عميقا في زمن الانكسارات راغبا الهروب من هذا الحضور، وفي القصيدة نجد كلماته كيف تنطلق نحو أفاق واسعة من التعبير وهو يعاني جفاف العمر في وحدة وغربة قاسية، والغربة التي أخذت مأخذها في أشعار (سعدي يوسف) ليس فحسب في ديوانه (بعيدا عن السماء الأولى – 1970) بل شملت ديوانه (الأخضر بن يوسف ومشاغله – 1972) و ديوان (الليالي كلها – 1976) و ديوان (الساعة الأخيرة – 1977) و ديوان (خذ وردة الثلج – 1987) و ديوان (كل حانات العالم – 1994) و ديوان (يوميات الجنوب – 1981) و ديوان (جنة المنسيات – 1993) و ديوان (أربع حركات – 1996) وديوان (تحت جدارية فائق حسن – 1974) و ديوان (نهايات الشمال الإفريقي – 1972) و ديوانه الأول الذي جاء تحت عنوان (القرصان – 1952) و ديوان (أغنيات ليست للآخرين – 1955) و ديوان ( قصيدة – 1959) و ديوان (النجم والرماد – 1960) و ديوان (قصائد مرئية – 1965) و ديوان (الليالي كلها – 1976) و ديوان (الساعة الأخيرة – 1977) و ديوان (قصائد أقل صمتاً – 1979 ) و ديوان (من يعرف الوردة – 1981) وديوان (يوميات الجنوب يوميات الجنون – 1981) و ديوان ( مريم تأتي – 1983) و ديوان (الينبوع – 1983) و ديوان (محاولات – 1990) و ديوان (قصائد باريس، شجر إيثاكا – 1992) و ديوان (الوحيد يستيقظ –1993) و ديوان (ايروتيكا – 1994) و ديوان (كل حانات العالم – 1995) و ديوان (قصائد ساذجة – 1996) و ديوان (قصائد العاصمة القديمة – 2001) و ديوان (أربع حركات – قصائد مختارة – 1996) و ديوان (حانة القرد المفكر – 1997) و ديوان (يوميات اسير القلعة – 2000) و ديوان (حياة صريحة – 2001 ) و ديوان (صلاة الوثني – 2004) و قصص قصيرة (نافذة في المنزل المغربي – 1974) و يوميات (سماء تحت راية فلسطينية – 1983) و مقالات (يوميات المنفى الأخير – 1984) و (أفكار بصوت هادئ – 1987) و مسرحية (عندما في الأعالي – 1989) و رواية (مثلث الدائرة – 1994) و يوميات ومقالات (خطوات الكنغر – 1997) يوميات (الأذى – 2005 )، كما وقام (سعدي يوسف) بترجمة عديد من كتب إلى اللغة العربية . ومما يؤشر سلبا ل(سعدي يوسف) هو إن كتاباته في الفترة الأخيرة من مشوار حياته الأدبية والشعرية أثار جدلا واسعا في الأوساط الأدبية والإعلامية نظرا لكثرة شطحاته ومواقفه المتطرفة إزاء الأخريين وصلت في بعض الأحيان إلى مستوى الشتائم بحق مؤسسات وأشخاص وعلى مقدسات دينية لدرجة التي أثارت تلك المواقف ردود فعل سلبية اتجاهه وعلى المستوى العراقي والعربي، ومع كل ذلك فان مكانه (سعدي يوسف) الشعرية في عالم (الشعر الحر) ستبقى قائمة لأنه ترك في التراث الشعر العراقي والعربي بصمة بما أبدعه من تراكيب للصور الشعرية حداثية؛ وما أجادت قريحته في مجالات شعرية وتشبيهات واستعارات؛ وما تم له من استخدام الرمز والتعبير الشعري بشتى أشكال الإبداع لتعبير عن معاني أراد الإشارة إليها دون الإفصاح، فرسم قصائده بصور مركبة مليئة بالمشاعر والأحاسيس والغاز ورموز؛ ليقف المتلقي متأملا العناصر الداخلية في تراكيب شعره من حيث أسلوبه البلاغي التي تودي وظيفتها بتضافر المعنى وكسر حاجز الصمت الذي ترتعش فيه القصيدة وتحترق في آن واحد لتمزج التناقضات كصورة لانفجار البركان الداخلي في أعماق الشاعر، وهنا تكمن البلاغة في صوره الشعرية . نعم إن (الشعر الحر) خسر احد رواده ليبقى تراثه ينبض ويرسم طريق للأجيال القادمة لصياغة إبداعاتهم بخطوط أكثر حداثة وتطور؛ لان الحياة هي دروس وعبر وعطاء واستثمار نحو الأفضل، ومع رحيل (سعدي يوسف) فجعت الساحة الأدبية مجددا بوفاة الشاعرة (لميعة عباس عمارة) . لميعه عباس عمارة رسمت غربتها بأحلام رومانسية فالشاعرة (لميعة عباس عمارة) رائدة من رواد (الشعر الحر العراقي) وإحدى أعمدته والتي عاصرت – كما قلنا سابقا – (بدر شاكر السياب) و(نازك الملائكة) و(عبد الوهاب البياتي)، والتي أغنت حركة الشعر الحر العراقي والعربي بدواوين نذكر منها (الزاوية الخالية 1960) و ديوان (عودة الربيع 1963) و ديوان ( أغاني عشتار 1969 ) و ديوان ( يسمونه الحب 1972 ) و ديوان ( لو أنبأني العراف 1980 ) و ديوان ( البعد الأخير 1988 ) والديوان (عراقية) وثم جاء ديوانها الأخير تحت عنوان (أنا بدوي دمي) . و(لميعة عباس عماره) غادرت هي الأخرى (العراق)؛ لتذوق معانات الغربة بعيدة عن وطنها (العراق)؛ لتكن غربتها في (أمريكا) محطة لبث انكسارات عمرها بعيدا عن الوطن؛ تحلم وترسم في مخيلتها شوارع وانهار الوطن؛ وهي تكتم أسرارها في أعماق الذات تبكي مع الغربة والحنين وهي تتذكر مدينتها (بغداد) لتتغلغل همساتها في كلمات قصائدها وهي غارقة بأحاسيس الغربة والحنين، ففي قصيدة (بغداد أنت ) تقول (لميعة) : بغداد، تائهة ٌ أنا حيرا من بعدِ صدركِ لم أجدْ صدرا حتى بأحلامي أ دوّرُ لا أرى بيتاً لأهلي فيكِ أو قبرا لا أمسي، لا تاريخَ لي فأنا ممحوّة ٌ من عالمي قسرا لا جارَ لي.. كلّ ُ البيوتِ خلتْ مَن ماتَ مقتولاً، ومَنْ فرّا والشعرُ، حتى الشعرُ ينكرني إني أُجاهدُ: لا أرى شعرا بغدادُ يا أمي أجيبي دمعتي كيف الأمومة ُ بُدّلتْ غدرا………. ……………..؟ بهذا الإحساس تقطف (لميعة عباس عمارة) ثمار غيابها لتبكي بصمت رومانسي بعيدا عن الوطن؛ بعد إن صاغت الغربة عوالمها وهي تطلق طيورها في هذا الغياب لتحلق بعيدا عن سماء الوطن لتغرد على الشواطئ البعيدة في رحلة لا نهاية لها إلا برحيلها، وهذا الإحساس بالغربة جسدته في قصيدتها (وحدي على شواطئ الأطلسي) فتقول : وحدي على شواطئ الأطلسي ليس سوى ذكرك كل مؤنسي من غرفتي ... عفوا ً فليست غرفتي بل محبسي أرقب من شباكها الأحياء ملء الشاطئ المشمس ِ مجردين غير خيطيين بقايا ملبسِ من غرفتي أحكي عن الحب أنا.. وعن هوى ً لم ألمس ِ كفيلسوفٍ يصفُ الخمر التي.. لم يحتس………….. …………….. فصدى الغربة عند (لميعة) استنطق في قصائدها بشكل مثير؛ بعد إن استنطقت غيابها ألقسري في اللامكان واللاثبات وحيدة ترمي إسرارها في مفردات الغربة يبكيها الحنين في غربة العمر الطويل؛ وهي تعيش انكسارات الهروب والغياب المستمر عن الوطن . انه المشهد الذي عاشته الشاعر (لميعة عباس عماره) لتتفرد معانيها في قصائد بعذاب كبوتها وضجرها وهي تعيش في مدن الغربة كل شيء حولها غريب لا تعرف أهلها ولا يعرفونها؛ لتعيش ذهابا وإياب في رتابة الحياة والملل؛ ليكون الشعر عندها مخرجا لإفراغ هذه الشحنات السلبية من ذاتها المعذبة؛ ليبقى نصها الشعري نص لآلام الغربة والاغتراب، وكما نلتمس من خلال قصيدة (لو أنبأني العراف) حيث العذاب والذكريات والحنين تتفجر في معاني القصيدة؛ لتنهمر كانهمار دموعها حيث تقول: لو أنبأني العراف لو أنبأني العرّاف أنك يوماً ستكونُ حبيبي لم أكتُبْ غزلاً في رجلٍ خرساء أًصلّي لتظلَّ حبيبي….. ……. لو أنبأني العراف أني سألامس وجه القمرٍ العالي لم ألعب بحصى الغدران ولم أنظم من خرز آمالي….. …….. لو أنبأني العراف أن حبيبي سيكونُ أميراً فوق حصانٍ من ياقوت شدَّتني الدنيا بجدائلها الشقر لم أحلُمْ أني سأموت……. …… لو أنبأني العرّاف أن حبيبي في الليلِ الثلجيِّ سيأتينني بيديهِ الشمسْ لم تجمد رئتايَ ولم تكبُرْ في عينيَّ هموم الأمس…… …….. لو أنبأني العراف إني سألاقيك بهذا التيه لم أبكِ لشيءٍ في الدنيا وجمعتُ دموعي كلُّ الدمعٍ ليوم قد تهجرني فيه ……… …………….. كل شعري قبل لقيأك سدى وهباءٌ كل ما كنت كتبتْ أُطوِ أشعاري ودعها جانباً وادنُ مني فأنا اليوم بدأتْ………… ……………… في هذه القصيدة فان (لميعة عباس عمارة) تختار مفرداتها بإحساس في غاية الرقة والعذوبة لنجد كيف تتضافر البلاغة في بناء مشاعر الغربة والتيه والدموع في قلبها وأحاسيسها، وفي هذه المشاعر تتفاعل كل عناصر القصيدة لإظهار المعنى بما ستنبئه العرافة لها؛ وبهذا المعنى فهي تؤدي مشهدا شعريا حداثيا توحد عناصره بالمعنى والدلالات والإيضاح لما تريد البوح بإسرارها ومعاناتها مع الذات المغتربة؛ فهي في هذه القصيدة تشير إلى أكثر من معنى ولغة لتمنح لتعبير دلالاته أكثر بكثير مما ترغب الإشارة إليها، وهو نفس الإحساس الذي نجدها في قصيدة (عاد الربيع) حين تقول: عاد الربيع.. وأنت لم تعد يا حرقة تقتات من كبدي عاد الربيع فألف وا أسفي……….. …………..ز إلا تحس به.. إلى الأبد أنساك…….. كيف……..؟ وألف تذكرة في بيتنا تتراءى على خلد هذا مكانك في حديقتنا متشوقا لطرائف جدد كم قد سهرنا والحديث ند وعلى ذراعك كم غفا ولدي وتهيب أمي شبه غاضبة (برد الهواء، فأكملوا بغد) تخشى عليك وكلها وله ان تستمر وان تقول زد وهنا مكانك حين يجمعنا وقت الطعام يداك قرب يدي وهنا كتابك في هوامشه رأي وتعليل لمنتقد ورسائل وردت وأعوزها رد عليها بعد لم يرد يا وجهه الريان من أمل كيف احتملت تجهم اللحد………. ………….. هنا (لميعة عباس عمارة) تستنفذ كل ما في داخلها من حنين وشوق وبكاء ومرارة الحياة؛ وهو الإحساس الذي يسود في معظم قصائد دواوينها؛ لأنها تبكي وهي في منطقة الرماد؛ وكل مشاعرها وأحاسيسها تنبعث من هذه المنطقة التي غطت على صورة الربيع وملامحه؛ وكان مواسمها هي مواسم الخريف؛ حيث الغيوم الرمادية وتكاثفها في الذات تحمل لعيونها فيض الدموع بالمطر لتعيد بناء المشهد وفق مشاعرها وأحاسيسها وأحلامها التي لم تعد سوى خيط دخان يرتفع إلى السماء لتتأمل كيف يتلاشى ملامحه كما تتلاشى أحلامها من الذات المعذبة؛ وان خيالها هو الذي يمزج هذه التناقضات برؤية خيالية تنبع لتعبير عن دواخلها المحترقة بنار الغربة التي وظفتها (لميعة عباس عمارة) توظيفا شعريا ساحرا في اغلب قصائدها لإثراء النص الشعري الذي تقدمه .