هو كاتب من جيل التأسيس، تأسيس العمل الصحافي، وتأسيس النقد الأدبي والفني، وتأسيس المسرح والسينما والفنون التشكيلة، وتأسيس أدبيات وأخلاقيات العمل داخل الحقل الثقافي، لقد دخل الفن من باب الصحافة، ودخل الصحافة من باب الفن، ودخل الفن والصحافة من بوابة الممارسة والتجربة والمعايشة الحية، وهذا كان اسمه علامة أساسية في المشهد الثقافي والإعلامي والفني في المغرب المعاصر. لقد سبق زمن التخصص الضيق، وانتمى إلى زمن الثقافة الموسوعية الشاملة، وبهذا فقد كان أكبر من أن تقول عنه بأنه ناقد مسرحي أو أنه ناقد تشكيلي أو أنه ناقد سينمائي أو أنه فقط مؤرخ للثقافة المغربية العربية الحديثة، ولقد آمن بأن المعرفة كل لا يتجزأ، وبأن مسئولية المثقف هي أيضا مسئولية لا تقبل التجزيء، ولا تحتمل الانتقاء، ولهذا فقد كان دائما حاضرا، وكان في هذا الحضور فاعلا ومنفعلا ومتفاعلا، وكان له رأيه وموقفه، وكانت له تصوراته ومقترحاته، وكانت له أسئلته وإشكالاته، كما آمن بأن هذه الكتابة مسئولية تاريخية، وبأن النقد ليس نميمة، وليس هجاء لا مدحا، وليس وسيلة للتكسب، وقد كان دائما صاحب رؤية وموقف، ولعل أهم ما يميز هذه الرؤية عنده هي أنها مغربية حتى النخاع، وهي أنها جزء من رؤيته العامة والشاملة، وذلك لجغرافية ولتاريخ ولواقع ولحقيقة هذه البلاد التي تسمى المغرب. هو كاتب من جيل التأسيس، نعم، ولكنه أيضا كاتب من جيل الوضوح، فهو لا يكتب إلا ما يحياه، ولا يتحدث إلا عما يراه، بكل صدق وبكل عفوية وتلقائية، ولقد حرص دائما على أن تكون رؤيته سليمة، وأن تكون خالية من مرض الإسقاط، وأن تتم هذه الرؤية بأعين سليمة، وأن تكون نظرا عاما، يتم بالعين الحسية، ويكون بعين العقل، ويكون بعين الوجدان، ويكون بعين الحدس، يكون بعين الروح، وإن مثل هذه الرؤية، في شموليتها وتكاملها، لا يمكن أن تعطي غير مشاهد وأحكام واستنتاجات حقيقية. ولأنه أساسا فنان، ولأن له في وجهه وفي قلبه عين الفنان، فقد بهرته الأشكال والألوان، وسحرته الأضواء والظلال، ولقد ظل يتتبع الجمال أنى وجد، سواء في التشكيل أو في المسرح، وسواء في الوجوه أو في العلاقات الإنسانية الجميلة والنبيلة، ولهذا، فقد كانت حياته دائما قطعة شعر، أو كانت لوحة تشكيلة، أو كانت مسرحية ضاحكة ومتفائلة دائما. إن النقد عند هذا الناقد ليس أحكاما قضائية، وليس استنطاقات بوليسية، وليس مقايضات مشبوهة، ولكنه أساسا حس نقدي سليم، وأنه سؤال نقدي سليم، وأنه نية سليمة، وأنه علاقة سليمة بالإبداع والمبدعين، علاقة تقوم على عشق الجمال والكمال، وعلى البحث عنهما، أينما كانا وكيفما كانا، وهل هذا الجمال الذي في الأشياء إلا انعكاس للجمال الموجود في النفوس وفي الأرواح الجميلة؟ ألم يقل الشاعر المهجري: والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا فهو قبل أن يقرأ اللوحة أو المسرحية، فإنه يقرأ ما بداخله، وما بداخله هو ثقافة موسوعية، وهو عالم من الجمال، وهو فوضى منظمة، وهو صور ومشاهد احتفالية وعيدية، وهو أمثال وحكم بليغة، ولهذا فإنني أقول عنه ما يلي: هو مثقف جميل من ذلك العالم الجميل، مثقف بأخلاق النبالة والفروسية، وهو إلى جانب كل ذلك، جلنتلمان الصحافة المغربية وجنتلمان النقد المسرحي والفني بالمغرب وبالعالم العربي. هو كاتب أنيق، وأناقته صادقة ومتدفقة وعفوية، وهو أنيق في لغته الشعرية، وهو أنيق في كلامه، وهو أنيق في كتابته، وهو أنيق في علاقاته الإنسانية، وهو أنيق في أحلامه وتصوراته. هو كاتب عنوانه الفرح، ودنياه الجمال، وسكناه الفن، ولغته الشعر، وطريقه الحياة، وتاريخه الشخصي هو نفس تاريخ هذا البلد الذي يسمى المغرب الحديث، لقد عاصر هذا الوطن، ابتداء من ولادته الجديدة، وأرخ لأحداثه الجسام، وصادق رجالاته العظام، وساهم مساهمة فعالة في صناعة أحداثه الثقافية والفنية، وكان في مدرسة الحياة المغربية تلميذا مجدا، وكان فيها أستاذا ومعلما وزميلا لكثير من الأسماء الكبيرة. هو المتفائل والضاحك دائما وأبدا، وله في هذا فلسفته الاحتفالية والتعييدية الخاصة، وهو محكوم بالتفاؤل، ومحكوم بأن تكون نظرته للناس والأشياء نظرة قائمة على التعدد والتنوع، ولأنه مؤمن بأنه لا يمكن اختزال كل ألوان الطيف في لونين اثنين لا ثالث لهما: الأبيض والأسود، فقد كانت نظرته الفنية منفتحة عل كل الألوان الطبيعية، وكانت نظرته السياسية منفتحة على كل الألوان الحزبية المختلفة، وكانت نظرته الفكرية منفتحة على كل التيارات والمدارس والاتجاهات. لقد كان هذا الناقد الباحث المؤرخ المنظر المتنبئ من الأوائل الذين آمنوا بأن المسرح المغربي ينبغي أن يكون مغربيا، وأنه، لكي يكون مغربيا بشكل حقيقي، فإن عليه أن تكون له ذاكرة حية، وأن يكون له طقسه ومناخه وغلافه الجوي الخاص، وأن يكون له مداره التي تدور فيه كواكبه الإبداعية الخاصة، وأن تكون له لغته التي هي نبت الأرض، وهي صناعة هذا الإنسان على هذه الأرض، كما آمن بأن الفن التشكيلي لا يمكن أن تكون له هوية إلا بوجود ذاكرة أيضا، وأن تكون هذه الذاكرة زاخرة بالحروف وبالعلامات وبالرموز وبالأشكال والرسومات التي لها وجود في حياة الناس اليومية، لقد آمن بأن ما يميز هذا المغرب هي احتفاليته، ولعل هذا هو سيجعله يؤكد كثيرا على دراسة الظواهر الشعبية المغربية، وعلى رصد فعل التعييد لدى هذا الإنسان، والذي يخبئ في الاحتفال فلسفته وحكمته، ويخبئ فيه عبقريته ونبوغه. وانطلاقا من هذه القناعة الأساسية والتأسيسية، فقد كان من الأوائل الذين بشروا بالاحتفالية، وكان دائما مقتنعا بأنه لا يمكن مغربة الثقافة المغربية بدون قراءة روح هذا المغرب، والتي تتجلى أساسا في العيد، وهل العيد إلا الجديد؟ وهو بالتأكيد الإحساس الجديد، وهو الزي الجديد، وهو الألوان الجديدة، وهو الفضاءات الجديدة، وهو الطبخ الجديد، وهو العادات الإنسانية الجديدة والمتجددة دائما، ولاقتناعه بهذا، فقد أصدر أول كتاب عن المسرح الاحتفالي، كما سبق إلى الكتابة عن الحروفية في الفن التشكيلي العربي. وما يميزه أيضا، هو أنه ليس صحفيا عاديا، يمكن أن يتتبع سير الأحداث السياسية والاجتماعية والفنية ثم يعمل على تغطيتها من بعيد، وذلك لأنه أساسا فاعل فني وثقافي، وهو فنان قبل أن يكون صحفيا، وهو واحد من المؤسسين لهذا الحدث الثقافي، مغربيا وعربيا، وكتابته ليست كتابة بعدية بالضرورة، وليست فعلا وصفيا محايدا، وليست أحكاما كلية ومطلقة، وليست مدحا ولا هجاء، وليست فعلا خطابيا ولا وعظيا، ولكنها كتابة هادئة، فيها معرفة هادئة، وفيها جمال هادئ، وفيها وعي بالحاضر، وفيها التفات إلى الماضي، وفيها نظرة استشرافة واستباقية للمستقبل، وهو لا يقرأ الظواهر الفكرية والإبداعية إلا في إطار شروطها الذاتية والموضوعية، وفي إطار السياقات التي ساقتها، وفي إطار المقدمات التي أفضت إل نتائجها الحتمية، ولعل هذا هو ما يجعل منه كاتبا واقعيا، بالقدر الذي هو تراثي، ويجعل منه كاتبا تراثيا، بالقدر الذي هو واقعي، ويجله أصيلا ومعاصرا في نفس الآن، ويجعله قديما بمخزونه الثقافي، ويجعله حديثا بمكتسباته الثقافية الجديدة والمتجددة. وهو كاتب ضحك دائما، مثل سماء المغرب، ومثل شمسه، ومثل سهوله ومروجه، وهو متدفق دائما، بالحالات والمقامات، وبالكلمات والعبارات، وبالصور والمشاهدات، وبالأفكار والمقترحات، متدفق بعفوية وتلقائية، مثل الأنهار والعيون الجارية والصافية في وطنه المغرب، وهو واضح دائما، والغموض ليس مهنته، وهو يعرف ما يقول، ويقول ما يعرف، كما أنه يعرف ما يريده من الكتابة، ويعرف ما تريده منه هذه الكتابة، والتي لا يمكن أن تعطي أسرارها إلا للصادقين والموهوبين والملهمين والمبدعين الحقيقيين. وإلى جانب كل هذا، فهو إنسان كريم وسخي ومعطاء، وفي هذه أيضا يشبه هذه الأرض، والتي تعطي بغير حساب، ويشبه هذه السماء، ويشبه هذه الطبيعة التي هي أمه، وهي أمنا جميعا، ويخيل لي أحيانا، بأن محمد أديب السلاوي أكبر وأخطر من أن يكون شخصية واقعية، وأتمثله شخصية تاريخية، أو شخصية روائية، أو شخصية ملحمية، أو شخصية مسرحية، وقد وجدت فيه بعض ملامح زوربا الإغريقي أحيانا، كما وجدت فيه بعض ملامح شخصية أبي الغرائب، والذي رحل إلى بلاد العجائب، وذلك بحثا عن الفن والجمال والكمال. إن معرفة هذا الكاتب، قد جاءه بعضها من الكتب والمجلات ومن الأوراق والأدبيات، ولكن أغلب هذه المعرفة وأصدقها كلها هي تلك التي جاءته من الرحيل ومن الأسفار، ولعل أهم مدارسه في الحياة، هي هذه الحياة نفسها، وهو شخص عاش حياته بالطول والعرض والعمق، وهو غني بتجربته الوجودية، وغني بحكمته الشعبية، وغني بحسه الإنساني، وغني بفلسفته التي لا يكتبها، ولا يتكلم عنها، ولكنه يعيشها ويحياها في حياته اليومية، يعيشها مع الناس والأشياء، ويحياها مع كل رفاقه الأحياء، هذا هو .. محمد أديب السلاوي، كما رأيته، وكما قرأته، وكما وصلتني رسائله..