المسرح صعب سلمه، هكذا تقول الاحتفالية، وقبل هذا قيل نفس هذا الكلام عن الشعر العربي، ونعرف أن شعرية هذا المسرح هي جزء أساسي وحيوي من شعرية الوجود ومن شعرية الحياة ومن شعرية هذا الكون اللانهائي واللامحدود، ولا يرتقي هذا السلم الصاعد إلى الأعلى والأسمى إلا الذي يعلمه، بشكل حقيقي وكامل، والذي يفهمه ويعيشه ويعشقه بشكل حقيقي وجديد ومتجدد، وهكذا أقول أنا اليوم، وهكذا أكتب كل يوم، ويخطئ من يظن أنه يمكن أن يمارس الفعل المسرحي ممارسة آلية ومزاجية وعشوائية وبلا معنى، أي بدون معرفة، وبدون علم، وبدون فهم، وبدون نظر وبدون تنظير، لذات هذا المسرح أولا، ولذات ذلك الكائن المسرحي الذي يسكننا ونسكنه ثانيا، لذات تلك اللحظة التاريخية الممسرحة الحية ثالثا، والتي نحياها ونحيا بها وفيها، والتي نحتفل ونعيد فيها، والتي لا يمكن إلا أن نشبهها لحد التطابق التام، وأن تشبهنا في الكليات وفي الجزئيات وفي الثوابت والمتغيرات، وأن تشبهنا في كل شيء قد لا يخطر على بال، وبالتأكيد، فإن كل لحظة مسرحية لا تشبه من يعيشها، ولا تشبه مكانها، ولا تشبه لحظتها الوجودية والاجتماعية، ولا تشبه لغتها وثقافتها أعيادها، فإنها لا يمكن أن تكون لحظة احتفالية ومسرحية حقيقية. نحن الأحياء نسكن المسرح، وعنواننا الحقيقي موجود في هذا المسرح الكبير، والذي يسمى الدنيا، نعم، هو موجود فيه وليس خارجه، وهذا ما قد لا تعيه كثير من الأفهام، والتي تبحث عادة عن الشيء الموجود خارج هذا الوجود، وذلك هو عين العبث وهو عين اللامنطق، وكما أننا نسكن هذا المسرح، فهو يسكننا أيضا، وهو بهذا روحنا وجسدنا، وهو زينا الذي اخترناه، وهو جلدنا الذي اختارنا، وهو لغتنا الكبرى التي نعبر بها، والتي نتواصل بها ومن خلالها مع بعضنا البعض، ولهذا فقد كان مسرحنا الحقيقي أقرب إلينا من حبل الوريد ونحن لا ندري، أو لا نريد أن ندري، ومع ذلك، فقد تخيل البعض منا بأن هذا المسرح مسرحنا هو مسرح غائب، أو أنه كان غائبا في فترة معيتة من التاريخ، مع أنه كان دائما حاضرا في حضورنا، وأنه كان حيا بحياتنا وبحيويتنا، ويخطئ من يعتقد أن هذا المسرح موجود فقط هناك وليس هنا، أي موجود عند الآخرين في الثقافات الأخرى وفي اللغات الأخرى وفي التجارب المسرحية الأخرى، وكيف يمكن أن يسيقيم منطقيا وعقليا أن نكون نحن (موجودون هنا) وأن يكون مسرحنا موجود هناك، وأن ننطق نحن لغة عربية، وأن ينطق هو لغة إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية؟ مسرحنا إذن موجود فينا وفي حياتنا وحيويتنا ولحظتنا الحية، وقديما قال سقراط كلمته المشهورة (اعرف نفسك) وبالتكيد فإن من ضيع نفسه، ومن ضيع لحظته، ومن ضيع هويته، ومن ضيع ذاكرته، ومن ضيع لغته، ومن ضيع إرثه الثقافي، وضيع وعيه بذاته وبغيره وبالعالم، فإنه لا يمكن أن يجد مسرحه، وأين يمكن أن يجده؟ خارج المكان، أم خارج الزمان، أم خارج السياق الفكري والجمالي الذي ينتمي إليه. في مسرحنا إذن كثير جدا من الوهم السقيم، وفيه قليل جدا من الفهم السليم، ونعرف أن من سيئات وسلبيات النقد المسرحي المغربي والعربي اليوم، أنه لا يبدأ عمله النقدي من نقطة البدء الحقيقية، والتي هي إرادة المعرفة وإرادة الفهم، وبدلا عن ذلك، فهو يبدأ من نقطة إرادة الحكم وإرادة التحكم، ولعل هذا هو ما يفسر أن نجد هذا النقد غارقا في الأحكام الغريبة والعجيبة والمتناقضة، والتي لا تستقيم مع روح الفن ولا مع منطق الأشياء، ولا تتماشى مع منطق الفن ولا مع منطق الفكر، والذي لا يمكن أن يخلص إلى الحكم إلا بعد الفهم أولا، ومن يزعم أنه يمكن أن يفهم كل شيء في الفن، وهو أساسا إحساس وحالة وذوق وخيال وهذيان وحمى وعربدة؟ هناك حقيقة أساسية وجوهرية ينبغي ألا نقفز عليها، وهي أنه لا وجود لمسرح حقيقي بدون عشق، وبدون شغف مسرحي، وبالتأكيد فإن من يعشق هذا المسرح والذي هو أبو كل الفنون مطالب بأن يعرفه أولا، وهو مطالب بأن يبحث عنه ثانيا، وأن يصل إليه بعد ذلك، ومطالب بأن يعرف علمه وفنه وفقهه وبلاغته وآدابه وأخلاقه وطقوسه وصناعاته المتعددة والمتنوعة، وأن ينطلق دائما في بحثه واجتهاده وجهاده من الحقيقة الأساسية والجوهرية التالية، وهي أن الأساس في المسرح هو أنه فعل أولا، وأنه فعل حي ثانيا، وأنه فعل عاقل ثالثا، وأنه فعل حر رابعا، وأنه فعل مستقل خامسا، وأنه فعل محكوم بالتجدد الدائم سادسا، وأنه فعل جماعي واجتماعي سابعا، وهو بهذا علوم وفنون وصناعات متضامنة ومتحدة ومتناغمة فيما بينها، وهو تظاهرات وتمظهرات احتفالية وعيدية تصاحب الإنسان في حياته اليومية وفي مساره التاريخي العام، وفي هذا المسرح الحي لا يمكن أن تكون غائبا، أو تكون مغيبا، لأن شرطه الأساس هو الحضور، الفاعل والمنفعل والمتفاعل، وذلك لأنه لا مجال للتعييد المسرحي إلا بالحاضرين المتمسرحين والمعيدين، ولا معنى لأي احتفال مسرحي يغيب فيه المحتفلون والمعيدون، ويغيب عنه روح الاحتفال وموضوع الاحتفال، ويكون بلا حدث يحدث، ويكون بلا مناسبة وبلا معنى وبلا هدف وبلا خطاب وبلا رسالة، ويكون بلا حالة وجدانية مشتركة ومقتسمة.. من السلفية القديمة إلى السلفية الجديدة هذا المسرح، يسعى اليوم لأن يعيش زمنه الحقيقي، وبغير هذا فإنه لا يمكن أن يكون ذاته، وأن يكون في جلده وفي سياقه وفي شروطه الذاتية والموضوعية الحقيقة، وما ينطبق على المسرح ينطبق على الإنسان بصفة عامة، ونعرف أنه في زمن مضى، وإلى عهد قريب جدا، كان الإنسان في العالم العربي يرتدي الجبة والطربوش والعمامة، وكان هذا رمزا لأصالته أو لسلفيته، وكانت ثقافته أيضا ترتدي نفس الزي، وكان الزي عنوانا عليه، ثم تغيرت خرائط التاريخ، وجاء من قفز قفزة إلى الأمام أو إلى الأعلى أو إلى اللاجهة، أو قفز إلى الآخر في الجغرافيا الأخرى، وانتقل إلى ارتداء القميص والبنطلون والبرنيطة، واعتبر أنه بهذا فقط، يمكن أن يكون معاصرا، وأن يدخل عصر العلم والتقدم والحداثة، وأن يقطع مع قرون طويلة من التخلف ومن التحجر ومن الانغلاق، ولقد اعتقد أنه بهذا العنوان الشكلاني والبراني قد حقق ثورة كبيرة وخطيرة في التاريخ، ولم يكن يعي بأنه قد استبدل سلفية بسلفية، وأنه انتقل من تقليد الآخر الميت إلى تقليد الآخر الحي، وفي الفعلين معا، لم يحضر العقل، ولم يحضر الإبداع، ولم يحضر الوعي النقدي، ولم يحضر الاجتهاد العلمي والفكري والجمالي، ولهذا فقد تم استبدال سلفية بسلفية، وإلى اليوم، مازلنا نكتفي بالزي الخارجي، ومازلنا نجري وراء الموضة العابرة، ونعتبر أن بعض الظواهر المرضية والجانبية في المجتمعات الغربية هي جوهر تقدمها، ونرى هذا الهامشي والعابر فقط، ونعمى عن رؤية الأساسي والجوهري والحقيقي والتاريخي، وفي هذا المعنى يقول محمد شراك (في المغرب مجموعة من الكتاب والمثقفين يرتدون جينز الحداثة بل وما بعدها، يتبجحون في الندوات والمنابر والمناظرات والتراث بمغرب الحداثة ضدا على الظلام، ينافحون عن مغرب التعدد في الرأي واحترام الاختلاف والتعدد في الرأي واحترام الاختلاف والتنوع: وعدم مصادرة الآراء. أو امتلاك الحقيقة واليقين.. ) 1 وفي تقديري الشخصي فإن أكثر الذين يرفعون شعار الحداثة اليوم هم أكثر الناس بعدا عنها، كما أن أكثر الأنظمة التي حملت اسم الديمقراطية لم تكن ديموقراطية، ابتداء من ألمالنيا الديموقراطية ووصولا إلى كل الجمهوريات العسكرية في العالم العربي وفي أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية، نفس الشيء يمكن أن نقوله عن مسارح تدعي الحداثة وما بعد الحداثة، وتدعي التجريب العلمي وهي غارقة في الفكر الأسطوري والغيبي والخرافي وفي السلفية المقنعة. السلفية السافرة والسلفية المقنعة إنني أتساءل دائما، وأنا أقف أمام قولين مختلفين، أو أمام صيغتين اثنتين من القول، الأول يقول لك (حدثنا أبو هريرة قال) والثاني يقول لك (حدثنا أبو رولان بارت قال) وأجد نفسي أسأل نفسي: أين الفرق بين هذين القولين، أو بين هاتين العقليتين؟ فهما معا ينطلقان من نفس المنطلق، الأول سلفيته واضحة ومكشوفة ومعلنة، والثاني سلفيته خفية ومخبأة ومهربة، ورغم أن الثاني يدعي المعاصرة والحداثة، أو ما بعد الحداثة، فهو سلفي التفكير والروح، وهما معا، السلفي السافر والسلفي المقنع، يقدمان فعلا يقوم على حضور الرواية وعلى غياب الدراية، مما يدل على أنهما يحكيان ويحاكيان فقط، وأنهما لا يأتيان بأي فعل أو قول أو علم أو فهم جديد، وفي (حكيهما) هذا يحضر الآخر دائما، وذلك في الزمن الآخر، أو في المكان الآخر، أو في السياق الثقافي والحضاري واللغوي الآخر، وبهذا نجد في (فعلهما) النقل ولا نجد العقل، ونجد الاتباع ولا نجد الإبداع، ونجد الأجوبة الجاهزة ولا نجد الأسئلة المحفزة، ونجد القديم ولا نجد الجديد، ونجد المألوف والعروف ولا نجد الغريب والمثير والمدهش، ونجد الثابت الجامد، ولا نجد المختلف والمخالف، وبهذا نقول بأنه ما في ساحتنا الثقافية والفنية المغربية والعربية اليوم غير السلفية وحدها، وأن كل ما نسمعه ونقرأه هو محض مزاعم وادعاءات كاذبة فقط، وهو محاولات ببغائية لمجاراة (الموضة) الثقافية العالمية، وهو ارتداء أزياء الحداثة، وهو التقنع بأقنعتها، وهو القبض على رمادها دون القبض على جمرها الملتهب، والكل اليوم يمارس نفس الفعل، والذي هو الهروب، سواء إلى الخلف مع السلفية السافرة، أو إلى الأمام مع السلفية الأخرى المقنعة. الاحتفالية في درجة الاقتراح والاحتفالية، في بعدها المسرحي، هي أساسا قوة، لأنها معرفة فكرية إضافية، ولأنها رؤية جمالية جديدة ومجددة ومتجددة، وهي بهذا قوة أخرى في هذا العالم الآخر، وفي هذا الزمن الآخر، وفي هذه الشروط التاريخية الأخرى، وهي قوة اقتراحية بكل تأكيد، وإذا كانت عند البعض سلطة، فهي لا يمكن أن تكون إلا سلطة عادلة ومنصقة وإنسانية ومدنية وشعبية وديمقراطية. وما تقترحه الاحتفالية هو نفس ما تراه وتحياه يوميا، وهو نفس ما تتأمله وما تفكر فيه وما تحلم به، الآن هنا، وليس هو ما تترجمه أو ما تقتبسه أو ما تختلسه من الكتب العامة، والذي قد يدخل في مجال النقل، أكثر من وجوده في مجال العقل، وإن ما تقترحه هذا الاحتفالية، ورغم خطورته ووجاهته الفكرية والعلمية، يظل في حدود الاقتراحات الفكرية والجمالية التي لابد منها، والتي لا يمكن أن يكون لها أي طابع إلزامي، لأن هذه الاحتفالية ليست مذهبا، وليست حزبا، وليست إنجيلا مسرحيا، هي فقط أفكار حرة ومستقلة ومشاغبة، وهي بهذا غير ملزمة، حتى بالنسبة للاحتفاليين أنفسهم، والذين يؤمنون بالعقل وبالحرية وبالإبداع الحر، والذي يخالف ذلك الاتباع السلفي والببغائي والمرآوي. هذه الاحتفالية إذن تقترح، ولقد مارست فعل هذا الاقتراح بروح الجدية والمسؤولية العلمية، ولقد سعت من أجل أن تقدم لهذا العالم الجديد إبداعا مسرحيا جادا وجديدا، وأن يكون إبداعها الفكري والجمالي في مستوى العصر، وفي مستوى إنسان هذا العصر، وفي مستوى أسئلة ومسائل هذا العصر، وفي كل هذه الاقتراحات كانت وفية لذاتها ولهويتها ولتاريخها ولجغرافيتها ولثقافتها ولأعيادها وللغتها ولعبقريتها التي هي جزء من عبقرية هذا الإنسان الذي أوجدها ووجدت من أجله. هامش: 1 محمد شراك (المثقف الشمكار) مجلة روافد ثقافية مغربية تطوان 2017 العدد 26 ص 7