عن دار القرويين صدر للشاعر عبد السلام مصباح ديوانا جديدا تحت عنوان: «تنويعات على باب الحاء» في مائة وثمانية وعشرين صفحة، ويتضمن ثمانية عشر نصا شعريا تتوزع مضامينه بين مواضع متنوعة تتراوح بين ما هو قومي وذاتي وإنساني مع هيمنة القصائد ذات البعد الوجداني -العاطفي- التأملي. ونظرة سريعة لعنوان الديوان «تنويعات على باب الحاء» يطرح لدى المتتبع لتجربة الشاعر أسئلة عدة منها: ما علاقة نصوص هذا الديوان بنصوص ديوانه السابق والمعنون ب«حاءات متمرة»؟ هل هي استكمال لنصوصه؟ أو إعادة لصياغتها؟ أم هي نصوص متفردة لا علاقة لها بنصوص ديوان «حاءات متمردة»؟ هذه الأسئلة تبدأ في الإجابة عن نفسها كلما توغلنا في قراءة الديوان حيث نلمس ملمحا رئيسيا في هذه علاقة الديوانين مع بعضهما وهو ما يمكن تسميته بالتناص خصوصا فيما يتعلق بحضور المرأة في الديوانين حيث حضيت فيها بالنصيب الأوفر بالمقارنة مع تيمات أخرى اشتغل عليها الشاعر. (سبق لي وأن أنجزت قراءة في هذا الديوان تحت عنوان: «المرأة في حاءات متمردة وهي منشورة في منابر إعلامية ورقية وإلكترونية) في حين هيمن في ديوان « تنويعات على باب الحاء» الثلاثي: الحلم والعشق والحرف. وهذا ما حذا بي إلى تبئير قراءتي حول هذا الثلاثي في مقاربة الأضمومة. أولا: الشاعر/الحلم من مقولات علم النفس المشهورة «إننا لا نسكن في بيتنا (جسدنا) لوحدنا». إشارة إلى وجود قوى لاواعية تحرك سلوكاتنا، وتملي علينا أفعالنا وأقوالنا في غفلة منّا.. إنها تخاتل إرادتنا الواعية التي تشدنا إلى الواقع الذي يفرض علينا منطقه، ويصعب علينا تجاوزه وتغييره لإيجاد بدائل تلبي حاجياتنا ورغباتنا المقموعة والمكبوتة بفعل عوامل ثقافية اجتماعية سياسية.. هذه الرغبات هي ما يسعى الحلم إلى تحقيقها أملا في خلق التوازن المفقود بين معطيات الواقع ومتطلبات الذات. إلا أن الفرق بين حلم النائم وحلم الشاعر هو أن الأول يكون خاضعا تماما للأحلام التي تعلن عن نفسها بعيدة عن سلطة النائم، في حين أن الشاعر يسيطر إلى حدّ ما على أحلامه مما يسمح له بتشكيلها وفق آلياته التخييلية ليكون سيدها ودليلها..صحيح أنها قد تغافله وتعلن عن تمردها على سلطته إلا أنها في الأغلب الأعم تكون الشاعر المغربي عبد السلام مصباح خاضعة لسيطرته وإرادته.. إنها أحلام اليقظة التي تتشكل في منطقة ما بين الوعي واللاوعي. هكذا يعبر الحلم عن نفسه في شعر عبد السلام مصباح كآلية لإعادة صياغة التوازنات والعلاقات بين الذات والذات، وبين الذات ومعطيات العالم الخارجي بكائناته وأشيائه وظواهره المرئية والخفية، الملموسة والمحسوسة.. وما يفسر لنا هوس الشاعر بالحلم، وكأنه من باب المستحيل أن يحيا بدونه هو تواتر مفردة الحلم في صيغها الصرفية المتنوعة (حلم أحلام حالمين) حوالي (50 مرة) ناهيك عن مترادفاتها أو ما يحيل عليها..فلا يكاد نص من النصوص يخلو من هذه المفردة التي تأخذ شكل النواة في الثمرة في معظم من النصوص. وإذا ما تتبعنا تجليات الحلم في الديوان نجده يتمظهر في شتى الأشكال: 1 الحلم بالعشق الحلم بامرأة بمواصفات مخصوصة على مقاس عواطف الشاعر هو حلم لا يتوقف عن مراودته، ولأنها امرأة لا تشبه النساء اللواتي وسبق أن تعرف عليهن فإنها تبقى بعيدة المنال، ومجرد احتمال فحسبُ. هذه الأنثى المشتهاة والتي وإن وجدت تمثل الرغبة الأسمى، وتستحق العشق الذي تجسد في مخيال الشاعر كصورة إيهامية. إن العشق رافد أساسي من روافد الحلم، هو من يمد الشاعر بالطاقة الخلاقة اللازمة لكل إبداع. يقول: نَوْرَسَةٌ توقِدُ في المَلَكوتِ وفي رَجفاتِ الريحِ نشيدَ الحُلمِ (قصيدة نورسة: ص 9) هذه النورسة التي يتردد صداها في بعض النصوص (وردت كلمة نورسة 8 مرات) هي من فكت قيود أسر الشاعر وأطلقته من سجن ذاته، وأنبتت له أجنحة الحلم ليحلق بعيدا في فضاء العشق ويعربد في ميادينه بعيدا عن كل المعوقات والمعيقات التي تحد من حريته. يقول: حِينَ أَطْلَقَتْ عَيْنَاكِ عَلى قَلْبي الطَّلْقَةَ الأُولى عَرْبَدَتْ في بُسْتانِ العُمرِ خُيولُ الحُلْمِ (قصيدة اعتراف. ص 15) ولأن الشاعر العاشق، ورغم تسكعه الطويل في عوالم العشق الذي ارتضاه فلسفة في الحياة، ومبدأ تتأسس به وفيه تجربته الشعرية كما اعترف بذلك في قصيدة «اتهام» فإنه لم يعثر بعد عن المرأة المثال والنموذج. ويحضر المكان في بعض نصوص الديوان لا كجغرافية، بل كفضاء عاطفي له قدرة على منح الشاعرة إمكانيات لا محدودة للحب والشعر. مكان تحقق فيه الذات أحلامها، وتستشعر وجودها الحقيقي في أبهى إنسانيته. يقول عن مستحضرا مدينة أبي الجعد: جُموعُ الأَحِبَّة هنا… هنا في أَبي الجَعْدِ تَفْتَحُ أَحرُفُ الشُّعَراءِ جَداوِلَ لِلْحُلمِ للأُلْفَةِ الباسِقة (قصيدة: بطاقات إلى أبي الجعد. ص 102) ويطول حلم الشاعر ويتمدد ويتشعب ليأخذ مساحات من الخيال الواسع المنفتح عن عوالم ممكنة وغير ممكنة في مطاردة لا تنتهي.. 2 الحلم والقضية الفلسطينية ارتبط الحلم أيضا في الديوان بالقضية الفلسطينية، وتقاسم الشاعر مع أبناء فلسطين أحلامهم المتمثلة في السعي لنيل الحرية والاستقلال وأخذ مصيرهم بأيديهم وبناء وطن آمن ومطمئن. ومن أجل هذا الحلم قدم أبناء فلسطين مناضلين وشهداء استرخصوا دمائهم وأرواحهم فداء للوطن. وتجسد هذا الحلم في أبهى صوره في شخص محمد الدرة الذي استشهد في أحضان والده، وتحت أعين العالم..فالطفل الشهيد في نظر الشاعر لم يمت، بل إنه نائم فحسبُ، لقد أغمض عينيه حتى يرى في أحلامه صورة وطن حر ومستقل. يقول: نَامَ مُحَمَّد، نَامَ.. وَفِي عَيْنَيْهِ يُورِقُ حُلَمٌ أَعْمَقُ مِنْ كُلِّ بِحَارِ الْكَوْنِ نَامَ مُحَمَّد، نَامَ.. فَلاَ تُوقِظْهُ كَيْ لاَ تَهْرُبَ مِنْ جَفْنَيْهِ أَلْوَانُ قُزَحْ وَحَمَامَاتُ الأَقْصَى، (قصيدة الطفل القدسي ص 122/123) تلك بعض تجليات الحلم في ديوان «تنويعات على باب الحاء».. فما نكاد ننهي قراءة قصيدة منه ويوشك الحلم أن ينتهي حتى يولد نص جديد يقودنا إلى حلم جديد، فننتقل بين أحلام شاعر لا تتوقف عن التناسل.. ثانيا: الشاعر/ الحرف تشي نصوص الديوان في مجملها على أن الحرف يمثل متنفسا لا غنى عنه في عالم الشاعر، ليس ذاك الشعر الموصوف في الأدبيات الكلاسيكية باعتباره الكلام الموزون والمقفى والذي له معنى، بل الشعر الذي منبعه الإحساس الفياض الذي يلازم الشاعر في كل لحظة والذي بفضله يغدو قول الشعر ممكنا. هو الشعر باعتباره وسيلة لا مندوحة منها للتعبير والتنفيس والإصرار على وجودٍ شعري بامتياز. هو الطريق السليم الذي يقود خطوات الشاعر لتحقيق الحلم الذي يلاحقه في أفق الإمساك به.. هوس الشاعر بالشعر/الحرف لا يتوقف عند حدود نص أو نصين، بل نجده يتسلل إلى كل نصوص الأضمومة سواء بالاسم الصريح، أو المرادف، أو بما يحيل عليه، أو يوحي به، أو يرمز إليه ك(النشيد المفردة الغناء القافية الكتابة الكلمة اللحن الأشعار الشعراء القصيدة الحرف الشعراء…) وبعملية إحصائية متأنية تكون المُحصِّلة تردد كلمة الحرف وما يتعلق به (89 مرة) حضيت فيها مفردة الحرف بالنصيب الأوفر (45 مرة) تليها مفردتي الشعر والشعراء (24 مرة). هكذا يمثل «الحرف» قلب ونبض التجربة الشعرية وبُئْرتها وعمادها في الديوان. فكيف أعلن «الحرف» عن حضوره المكثف والمميز في تجربة الشاعر؟ 1 الحرف وسيلة إغواء وإغراء بالحرف يستطيع الشاعر أن يدفع بالمرأة إلى أقصى حدود الليونة والنعومة، يجعلها أكثر رقة ورهافة، ينزع منها كل المتارس والأسلحة الدفاعية لتنكشف وتستسلم لعذوبته، وتعري عن مفاتنها وأنوتثها، به يحقق الشاعر سلطته فيكون في موضع قوة وهيمنة على عواطف الأنثى..يقول: نَوْرَسَةٌ نشيدَ الحُلمِ تُبَاغِتُها هَلْوَسَةُ الشِّعْرٍ فَيَنْدَلِقُ أَجْمَلُها وَتَراتيلُ أُنوثَتُها. (قصيدة نورسة. ص 9) 2 الحرف هو أول من يستجيب عندما يكون الشاعر في حضرة الأنثى، كل الحواس تتعطل، وحده الحرف من يبقى حاضرا ومتيقظا ومستعدا لمسايرة هلوسات الشاعر. في حضرة الأنثى يستشعر لحظة وجودية صوفية تأخذه إلى أقصى العواطف فيندلق الشعر وتولد القصيدة ثمرة للقاء. يقول: نَوْرَسَتي، حِينَ أَطْلَقَتْ عَيْنَاكِ عَلى قَلْبي الطَّلْقَةَ الأُولى عَرْبَدَتْ في بُسْتانِ العُمرِ وَفِي الثَّانِيَةِ أَمْطَرَتِ الْحَاءُ مَوَاوِيلَ وَإيقاعا يُوقِدُ فينا نارَ الحَرْفِ الْمِعْطاءِ والَّدهْشَة. (قصيدة اعتراف. ص 15) 2 الحرف المغتال في قصيدة «تقابلات» تطالعنا تجربة شعرية مفعمة بالحزن والألم والشاعر يرى حرفه يسام كل أشكال الإذلال، ويتعرض لأفعال مشينة تنم عن حقد وكراهية من لا يعرف قيمته ولا يضعه في مكانته التي تليق به. إنه جلاد الحرف على حد تعبير الشاعر لقد تم التآمر على حرفه، وأهين، وعُبث بشرفه وكرامته وقدسيته..النص مفعم بالحرقة والخيبات، وبدا العام وقد تقلص ليسعه كف الشاعر الذي أصيب في مقتل، وكيف له أن يتحمل وهو يرى معشوقه يغتال أمام ناظريه. يقول: وَتَرى الْحَرْفَ الْمَنْذُورَ حِبَالاً مِنْ مَسَدٍ وَتَرَى أَيَّامَكَ حُبُّكَ حَرْفُكَ… تُطْحَنُ فِي أَزْمِنَةِ الضُّعَفَاء فَيُصْبِحُ هَذَا الْعَالَمُ أَضْيَقَ مِنْ كَفِّك، (تقابلات. ص. 50) ثالثا: الشاعر/المرأة تحضر القصائد ذات النفس العاطفي المعبر عن تجربة العشق بجلاء. بل شكلت العمود الذي تنتصب علية خيمة القصيدة، وحبالها التي تشدها إلى وثاقها، ونظرة فاحصة على معجم الديوان يتضح تلازم العشق والمرأة كوحدة متماسكة لا حدود بينهما. فمعجم الحب وما يتعلق به ك (العشق القلب الحنين الصدر الوجد الشوق النبض …تتردد حوالي (180 مرة) ناهيك عن المفردات الأخرى المرتبطة بنفس الحقل المعجمي والدلالي. فلفظة الحب مثلا تكررت (41 مرة) والعشق (26 مرة) والقلب (22 مرة) أما معجم المرأة وما ارتبط به من مترادفات وأوصاف ك (السوسنة الوردة…) فتكرر حوالي (37 مرة) استأثرت فيها مفردة السيدة ب (19 مرة). والمرأة (24 مرة) … وفي سفرنا داخل جغرافية نصوص الديوان نصادف في طريقنا نماذج نسائية متعددة يحيلنا بعضها إلى نساء سبق وأن تعرفنا عليها في ديوان «حاءات متمردة» وبعضها الآخر يبدو جديدا إلى حد ما أو ألبسه الشاعر حلة جديدة. منها: 1 المرأة السيئة التمثيل يعبر الشاعر في علاقته بهذا النموذج عن حالة أحباط قصوى..فالعشق الذي خص به هذه المرأة لم يقابل إلا بالنكران وسوء النية، فهي طالما أظهرت غير ما تبطن، وتقول عكس ما تفكر فيه، منحها الشاعر قلبه طواعية ليكتشف في آخر المطاف كم هو ساذج، وكم هي ماكرة ومخادعة، لقد برهنت أفعالها بما لا يدع الشك على زيف أقوالها..يدرك الشاعر هذه الحقيقة المؤلمة والصادمة فيزيح الستار عن المحجوب، ويعري المخفي..يقول بلغة فاضحة كاشفة وقاسية تعكس حجم انكساراته النفسية والعاطفية: سَيِّدَتِي تَمْثِيلُكَ هَذَا أَدْخَلَنِي غَابَاتِ الْحُلمِ الأَخْضَرِ وَالضَّوْءِ الْمُورِقِ… فِي رَمْشَةِ عَيْنٍ أَخْرَجَنِي عَذَّبَنِي ضَيَّعَنِي سَيِّدَتِي لاَ تَنْتَفِخِي كَالطَّاوُوسِ كُلُّ تَفَاصِيلُكِ أَعْرِفُهَا أَعْرِفُ صَدْرَكِ فَعَلَى رَبْوَتِهِ غَنَّيْتُ وَأَقَمْتُ صَلاَتِي أَعْرِفُ مِلْحَكِ قَمْحًكِ عُشْبكِ فَاكِهَتُك… (قصيدة ممثلة. ص 57/58) 2 المرأة والشاعر الطموح إنها المرأة التي يأمل فيها الشاعر أن تقاسمه أشياءه الصغيرة، وأن يجد لديها متسعا لتحقيق رغباته التي لا تتعدى الاستمتاع بلحظات شعر حيث الحلم يقود إلى وطن العشق، فهناك الصفاء والنقاء ولا حدود للبوح، وأن تجالسه وتحدثه عن اليومي، وتأخذه معه إلى أماكن قصية من الجسد ليتخلص من الرتابة والابتذال والرغبات المقموعة..المرأة في صورتها الحقيقية دون مساحيق ولا أقنعة أو زيف. يقول: سَيِّدَتِي، كَانَ طُمُوحِي أَنْ نَخْتَارَ الَّلحَظَاتِ السَّكرَى وَنُنَاوِشَ حُلْما يَتَلاَطَمُ فِي صَدْرَيْنَا كَي يُسْمِعَنَا آيَاتِ الْفَرَحِ الطَّافِحِ فِي عَيْنَيْكِ… سَيِّدَتِي، كَانَ طُمُوحِي أَبْسَطَ مِمَّا تَتَصَوَّرِين، كَانَ طُمُوحِي مِثْلَ جَمِيعِ الْبُسَطَاءِ بِهَذا الْبَلَدِ… أَنْ نَجْلِسَ فِي الْمَقْهَى وَنُصَفِّقَ لِلنَّادِلِ نَطْلُبُ فِنْجَانَيْنِ مِنَ الشَّوقِ وَبَعْضَ شَرَائِحَ مِنْ خُبْزِ الْوَقْتِ… فنَنَامٌ عَرَاةً مِثْلَ جَمِيعِ الشُّرَفَاءِ وَكُلِّ النَّاسِ الْبُسَطَاء بِهَذَا أَو ذاك البَلَدِ. (قصيدة طموح. ص 31/34) 3 المرأة والحلم نجد نموذجا لهذه المرأة في ديوانه السابق «حاءات متمردة» وحضورها في هذا الديوان يؤكد على مدى تعلق الشاعر بها، وأنه سيواصل مطاردتها على مسافة العمر، وفي فضاء الشعر لسبب يبدو وجيها وهو أن لا وجود لهذه المرأة إلا في خيال الشاعر ومخيلته..ولأنه يستحيل القبض على الحلم في الواقع، فإن الشاعر سخر كل إمكانياته اللغوية والفنية والجمالية لكي يقبض على حلمه هذا على الأقل أثناء اللحظة الإبداعية التي تجسدها قصيدة مفعمة بالأمل والتفاؤل تتخللهما نغمتي اليأس والإحباط. أما أوصاف هذه المرأة كما استعرضتها القصيدة فهي بأشكال وأحجام متنوعة أشبه ما تكون بألوان قزح: إنها المرآة القادرة على مقاسمته زمنه والتي عليها أن تتخلص من كل ما من شأنه أن يكبل شهواتها المقموعة، ولا تحاسبه على أفعاله حتى وإن بدت صبيانية وطفولية لأنها عفوية وبريئة، تشاركه عوالمه التخييلية وتتذوق الشعر وتنظمه، أن تكون دائمة التجدد والخصوبة والعطاء، أن تكون مستعدة لتحيا حياة أبدية في مملكة العشق وتنصبه أميرا وملكا على عرشها. يقول: أَحْلَمُ… أَحْلُمُ بِامْرَأَةٍ قَادِرَةً أَنْ تَنْزِلَ مِنْ بُرْجِ الْحُوتِ أَحْلَمُ… أَحْلَمُ بِامْرَأَةٍ قَادِرَةٍ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ مَنْفاها وَثَقافَتِها وَشؤُون قَبِيلَتِها أَحْلُمُ… أَحْلُمُ بِامْرَأَةٍ قَادِرَةٍ أَنْ تَسْمَحَ لِلطِّفْلِ الرَّابِضِ فِي أَعْمَاقِي كَيْ يَقْفِزَ فَوْقَ عِبَادَاتِ الأَوْثَانِ أَحْلُمُ… أَحْلُمُ بِامْرَأَةٍ قَادِرَةٍ أَنْ تَرْسُمَ بُرْجَ الْنَّهْدِ بِأَنْداءِ الطَّيْفِ وَبِالْحَرْفِ… أَحْلُمُ… أَحْلُمُ بِامْرَأَةٍ قَادِرَةٍ أَنْ تَتَجَدَّدَ عِشْقاً فِي الْيَوْمِ وَجُنُوناً فِي الَّليلِ وَتُجْلِسَنِي فَوْقَ الْعَرْشِ لأَحْكُمَ مَمَلَكَةَ الْعُشَّاقِ وَمَمَلَكَةَ الشُّعَرَاءِ (قصيدة: حلم ثان. ص 63) ليس من اليسير أن نحيط بكل صور المرأة في علاقتها بالشاعر في ديوان «تنويعات على باب الحاء» لأنها وسمت بسمات كثيرة فهي سوسنة ووردة وحلم وسيدة ورغبة وطموح…تغري وتغوي، تأسر وتسحر، تشعل حرائق الحب في نبض الشاعر..إنها المرأة الحاملة لشتى الاحتمالات المستحيلة والممكنة. خاتمة حاولت في مقاربتي للديوان أن أبرز أهم تجليات ثلاثية: الحلم والحرف والمرأة لألقي الضوء على تمظهراتها المختلفة، ومع أني تناولت كل عنصر على حدا لدواعي منهجية إلا أنه يستحيل الاستمتاع بالقصيدة إذا ما تم عزل أحدهما على الآخر، فهم متعالقون معجميا ودلاليا ويتشكلون في معظم الأحايين في صورة شعرية واحدة، يتبادلون فيه الأضواء فتتألق القصيدة. ولعل هذا المقطع الذي أختم به هذه القراءة يجسد هذا التلازم بينهم. يقول الشاعر: سَيِّدَتِي، قَالُوا إِنَّ كِتَابَاتِي… كُلَّ كِتَابَاتِي… تَحْمِلُ وَشْمَ نِزَارٍ وَأَنَا يَا سَيِّدَتِي، جِئْتُ الْيَوْمَ لأُشْهِدَكِ أَنِّي أَفْخَرُ أَنْ أَتَسَكَّعَ فِي وَاحَاتِ الدَّهْشَةِ بَيْنَ غواياتِ النَّخْلَةِ وَالنَّبْضِ «وبَينَ الأشياءِ الْمفضوحةِ والأشياءِ المكبوتةِ» في منتصفِ الشارع أو منتصف الليل وَأَسْرِقَ ذَرَّاتِ الصَّلْصَالِ وَنِيرَاناً مُفْعَمَةً بِالْحُبِّ وَبِالْحُلمِ… (قصيدة: اتهام. ص 25) المصطفى فرحات