الطريق طويل إلى العاصمة، الحافلة العجوز تتوقف باستمرار، ومعدتها تكاد تسقط من فمها.. ترفع الستارة المتسخة على النافذة المغبشة.. وتجوب الفضاء بعيونها الفارغة.. ما أقسى الحياة، حين تسحب نفسها منك! يمتد الريف على يمينها، المنازل الصغيرة، والناس، والأفراح الكبيرة.. كانت الدنيا ربيعا حين رأته.. النظرة الأولى على طريق النهر، وفي الغد كان العرس.. واستيقظ الفرح مبكرا في جسدها حين أنجبت “إحسان”. زوج شاب يعمل طيلة اليوم في ضيعات البرتقال، وزوجة جميلة، تطوف بيوت الجارات، تبيع الكحل للسيدات، والعطر وملابس القطن للعروسات.. حين تبتسم يفتح لها باب الرزق.. تشتري النسوة كل شيء وتطلبن المزيد.. تنزل كل شهر إلى المدينة، تتسوق ما تحتاج من دكاكين الجملة، و تعود.. السفر اليوم، مختلف.. حين بتر الطبيب ثديها اليمنى بكت، بكت حتى نضبت منها الدموع.. وحين اشتهى الداء، ثديها اليسرى، وهبته إياها دون بكاء.. انطفأ وجهها المشرق، شفاهها جفت حتى تشققت، وأهدابها الكحيلة انسلت كما ينسل الضوء من مصباح قديم… أصابعها الجميلة شاخت.. ويداها كشجرة عجوز، بانت عروقهما، و ازرقتا من آثار الحقن.. تتقيأ الفلاحة التي بجانبها، يتطاير عصير فمها، يلطخ جلبابها، يلوث المقاعد، الستارة والنوافذ.. معدتها، تكاد تسقط من فمها.. البنايات العالية تلوح.. المدينة تقترب.. ما أقسى الاقتراب من المدينة! و نزول الحافلة، أقسى، و أصعب.. ترفع عيونها إلى السماء.. تتنهد بعمق.. تشق طريقها المعتاد.. الخطوات فاترة.. تستعيد ذكراها الجميلة.. تلعب إحسان في بهو الدار.. تجري خلفها، تختبئ إحسان تحت المائدة الكبيرة، كفأرة صغيرة.. مقلدةصوت القطة تبحث عنها. تضحك إحسان حين تسمع المواء.. تعرف القطة مكانها.. فتمسك بها.. تتمرغ الاثنتان على حصير الضحك.. حتى اللعبة هاته أصبحت باهتة هي الأخرى.. كل شيء باهت.. وجوه الناس.. واجهات المتاجر.. أخضر الحدائق.. وأزرق السماء.. تلقي التحية بصوت ميت: السلام و تمد دفتر المتابعة للمرضة.. – فاطمة بنت أحمد.. تقرأ الممرضة في الدفتر.. تهز برأسها.. – الحصة الرابعة “شيميو ” سريرك جاهز اتبعيني.. للدواء حين يسري في عروقها مذاق السم.. – آخر حصة و بعدها يقرر الطبيب مصير الثدي.. الله يشافيك. تغمض عيونها.. و تردد في نفسها: حين يضع القدر أصبعه على اسمك لا مفر.