ما زالت صورة ذكرى ثورة ال 25 فبراير المصرية، عالقة بكل الأذهان. ولقد تساءلت يومها، عن مدى إمكانية وقدرة هذه الانتفاضة الشعبية المليونية العارمة، التي أطاحت بحكم الرئيس حسني مبارك، بتدشين عهد ديموقراطي جديد؟. وكان تساؤلي، بل تخوًّفي من ردة فعل مؤسسة عسكرية، بوليسية واستخباراتية لدولة عميقة وعميلة، عن هذا التحول الذي سيحرمها في المستقبل القريب، من كل المكتسبات التي اغتنمتها غصبا، وبدون استحقاق على حساب شعب شبه أمي مًفَقّر ومًؤَدّب لمدة عقود، بل قرون جاهلية بتربية عبودية. عبودية قلت، محصلتها الاستسلام والرضوخ والطاعة للسلطة الحاكمة. ومع كل هذا، فإن الربيع العربي ولئن لم يحقق ثورات جذرية في مجمل الدول التي شهدت زلزاله، فإنه على الأقل قد أسقط، بل وأطاح لأول مرة في عهدنا الحديث بشبح الخوف، الذي كان جاثما بمؤسساته البوليسية القمعية على صدره، وعلى صدر كل مواطن عربي. نعم لقد قُتِلَ الخوف العربي حين أدركت الجماهير الشعبية العارمة المنفضة، مدى قوتها وهشاشة سلطة طغاتها وطغيانهم، حين خرجت لتضحي بدمائها من أجل حرية كرامتها. لقد كان هذا المكسب، ونعني قدرة وجرأة المواطن العربي على التمرد في وجه الطاغية، هو أثمن مكسب حققته غلابا، ثورات الربيع العربي. ومن جهتنا نرى بأن هذه الانتفاضات العارمة، قد حققت قطيعة تاريخية حقيقية مع، ما بين مرحلة ما قبل الثورات، أي مرحلة الاستبداد التي كانت مبنية على التخويف والقمع وهدر الحريات من قبل سلطات فرعونية مطلقة، ومرحلة ما بعد الثورات التي وضعت أهدافها الأولية في ملاحقة الثورة، من أجل تأسيس عهد جديد، ينبني على الحرية والكرامة والحقوقية. أي عهد مواطن له حقوقه وواجباته، وليس فرد مهمش تتبناه وتلعب به السلطات كيفما تشاء. بطبيعة الحال إن تأسيس هذه المواطنة الجديدة لم تكن ممكنة إلا في إطار تفريق السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، أي باختصار، نزع كل السلطات التي كانت متجمعة في يد الحاكم المطلق وأعوانه، وإنشاء دستور جديد يراعي استقلالية كل هذه السلطات بعضها عن بعض، وتوزيعها على سلطات محايدة ومستقلة ومراقبة لبعضها بعض. في ضوء ما ذكرناه أعلاه، إذا اتخذنا النموذج المصري مثلا، فإن الرئيس المنزوع، قد نُحِّي وقدم للمحاكمة، وأجريت انتخابات رئاسية نزيهة لأول مرة في تاريخ مصر. وفاز بها الدكتور محمد مرسي على خصومه من أحزاب المعارضة، وعين شرعيا كأول رئيس مدني منتخب للبلاد بعد ادائه لليمين الجمهوري في 30 يونيو 2012. وخلال يومي 15 و 22 من ديسمبر الذي تلاه، جرى الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد وجاءت النتيجة بالموافقة عليه بنسبة 63،8 في المائة. ولكن القوات المسلحة انقلبت عليه وعزلته في 3 يوليو 2013. وقامت مباشرة بإيقاف كل القادة السياسيين المواليين له، بالإضافة إلى إغلاق كل المحطات والإذاعات الإسلامية والمستقلة وملاحقة بشكل همجي كل رموز الصحافة الحرة، منذرة بعودة عهد بوليسي لا يذكر إلا بالهمجية والاستبداد. وهكذا فتحت أبواب الإعدامات على مصراعيها لكل من يشتبه فيه ممن ذاقوا طعم الحرية ونكهتها الثورية. لقد ذكرنا وباختصار مسلسل الأحداث التي جرت، منذ عزل وتنحية مبارك، لغاية الانقلاب العسكري الأخير، دونما تغطية شاملة ودقيقة لأهم الأحداث. وهدفنا الآن أن نلقي الضوء، على الأيادي الخفية التي كانت من وراء هذا الانقلاب العسكري، وعن العوامل التي ساعدت، أو عملت على مساندته ودعمه وإعادته إلى الوجود في صورة “كاريكاتورية” بطبيعة الحال، المارشال “السيسي”. اختراع أعجوبة عسكرية سخيفة، وما أدراك ما هذا المارشال الذي تصور نفسه قد وصل لهذه الرتبة المشرفة، بعد خوضه لحروب وهمية ووطنية هائلة؟. ودعونا نطرح سؤالا بسيطا على غرار جرائم المسلسلات البوليسية، قائلين “من المستفيد من الجريمة يا ترى؟”. بطبيعة الحال، إن الجواب عن تساؤل دقيق كهذا، يستوجب قراءة حقيقية لمجريات الأحداث الواقعة حتما، في طيات الموروث “البيروقراطي” الاستعماري للجمهورية المصرية بشكل خاص، وبقية البلدان العربية بشكل عام. بطبيعة الحال، والأمر الذي يعرفه الجميع اليوم ولا يخفى على أحد، أن حالة التخلف التي ما تزال القاسم المشترك لمعظم الدول العربية، هي حصيلة للمرحلة الاستعمارية المباشرة واللّا مباشرة، التي قامت بعد تحرر هذه البلدان شكليا من قبضتها العسكرية. وبهذا الخصوص يستنتج الباحث الاقتصادي “جوزيف ستيكليز”، بأن حالة النمو الصناعي لدى الدول التي استعمرتها اليابان، كان أقوى وفعال من تلك الدول التي استعمرتها القوات الغربية، التي لم تخلف بعد رحيلها سوى الفراغ. والإشارة هنا تتوجه مباشرة لكل من فرنسا وبريطانيا، بل والاتحاد السوفياتي وأمريكا، والكتلة الغربية جمعاء، إبان وما بعد الحرب العالمية الثانية. فمن مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والليبرالي إلى غاية سقوط الأنظمة الشيوعية، وتَصَدّر أمريكا مؤخرا لدور الإمبراطورية العالمية، وأوجه الأنظمة العالمية تتعاقب في رسمها وتحديدها لخرائط العالم. وفي هذا السياق بالذات، إن نصيب الدول العربية من هذه الخرائط المهيمنة، كان ولما يزل، أن تظل هذه الدول قسمة مشتركة لكل من أمريكاوروسيا والكتلة الأوربية، التي تتصدر زعامتها كلا من فرنسا وبريطانيا. فالمغرب العربي بما فيه الجمهورية الليبية مثلا، يقع مباشرة تحت القبضة الأوربية الغربية المتوسطية ومن مصر وبقية دول الخليج تحت السيطرة الأمريكية المطلقة، باستثناء الجمهورية السورية التي تحسب على مكتسبات روسيا، مرورا بالجمهورية الإيرانية إلى الجمهوريات الإسلامية، التي تقع في امتدادها الجغرافي كأذربيجان، وكازاكستان، والشيشان وغيرها. فلنفصل القول إذن، في هذا الموروث الاستعماري الذي نوزعه على المكونات الآتية: * أولا: المؤسسات العسكرية والبوليسية والاستخباراتية. * ثانيا: المؤسسات الدينية والثقافية. * ثالثا: المؤسسات السياسية. * رابعا: المؤسسات الاقتصادية. -1- المؤسسات العسكرية والبوليسية والاستخباراتية إذا كان ربيع الثورات العربية، قد انتقل كالشرارة في الفتيل، من أقصى تونس إلى أقصى اليمن، مرورا بباقي الدول العربية، فلأن قاسم هذه المؤسسة القمعية، المتمثلة في كل من الجيش، والبوليس والمخابرات، تحمل وجها قمعيا مشتركا. وتشكيلة هذه المؤسسة القمعية، يرجع في معظم هذه الدول، إلى المرحلة الاستعمارية، وبعضها الآخر، إلى وقت متأخر بتوجيه من أمريكا، خصوصا فيما يتعلق بدول الخليج. فالمستعمر الأوربي الذي حكم هذه الدول العربية، قد فخّخها بمؤسسات أمنية بوليسية قمعية، ملئت من بعد رحيله عنها، أمنيا وعسكريا، بمن خلفه بنفس المنهج الاستعماري. لهذا لا تصبينا الدهشة، حين نرى بأن الجيوش العربية بدون استثناء، تقف عدوة في وجه شعوبها، وطبقاتها الشعبية العارمة بوحشية مذهلة. وكأن المراقب لهؤلاء، ونقصد الجيوش والبوليس والمخابرات وأولئك، ونقصد الشعوب المقموعة، لا تفوته الفرصة ليدرك من أول نظرة، بأن ثمة عداوة مطلقة، وشراسة شديدة، منقطعة النظير، بينهما. نستنتج من هذا الانطباع، ومن هذه الحالة الواقعية المزرية، بأن قبضة الغرب وأمريكا، ما تزال مطلقة على المؤسسات العسكرية، هذه المدعومة بالجهازين: البوليسي والمخابراتي. لهذا بالذات، وفي غياب حراك جماهيري واعٍ بواقع الأمور، فإنه من السهولة بمكان، الإطاحة بالثورات العربية، أو احتوائها، ما لم تقف لها الجماهير بالمرصاد، مستعدة بالمضي قدما بالدفاع عن مكتسباتها الثورية، ولو كلفتها هذه الأخيرة بالتضحية بنفسها ونفيسها، من أجل مستقبل حر ومسؤول ومتحرر من كل تبعية. لأنه في واقع الأمر، ليس من السهولة بمكان، اقتلاع واجتثاث مؤسسات متعفن ة وعميلة، وخائنة لشرعية وجودها التاريخي كهذه بين عشية وضحاها، هذه التي أصبحت تسمى سياسيا ب”الدولة لعميقة”، أي موروث الفساد البلطجي والشبِّيحي والبورجوازية الليبرالية المتواطئة والطغمة العسكرية المتحالفة مع سادتها المُستعبدة لها. -2- المؤسسات الدينية والثقافية إن الدول العربية التي هي إسلامية الثقافة بإطلاق، باستثناء أقليات مسيحية في المشرق، قد عرفت لها تاريخيا علاقة خاصة مع الغرب الأوربي، حروبا دينية صليبية معروفة لدى الجميع. وعلى هذه الخلفية، فإن الدول الغربية في استعمارها الحديث للدول الإسلامية، قد قَدِمَت في لباس المنتقم من حيثيات الماضي. بالفعل لقد قدمت إبان مرحلة استعمارها الحديث، بجنودها وتجارها، وخصوصا بمبشريها الدينيين لمحاربة الإسلام على ترابه. وحين فشلت كل هذه المحاولات في محو إسلام ثابت ومجاهد، سعت بطرق أخرى إلى تكوين أقليات علمانية، ربتها في مدارسها وسلمت لها مقاليد تسيير أمور هذه الدول. بل حتى المَلَكِيات من هذه الدول، لم تسلم من هذه الحداثة الدستورية الدخيلة. فنظرة خاطفة على دساتير هذه الدول، تخبرنا بأن القانون الوضعي الاستعماري ( قانون نابليون على سبيل المثال)، قد حلّ محلّ التشريع الديني، في مجمل هذه البلدان العربية الإسلامية، باستثناء ما يتعلق بالزواج والميراث. وإلى جانب هذا التهميش، ستلعب المؤسسة الثقافية دورها الفعال في دعم الخطاب العلماني المستورد والدخيل، في مقابل الموروث الثقافي الإسلامي التقليدي. فثقافة الاستهلاك السلعية والمخدرات والكحول، ضف عليها الأفلام السينمائية العرائية ومؤسسات “البورنو”، والموسيقية الخلاعية، والموضات العرائية الغربية، التي أقحمت في هذه الدول بشكل همجي، وبدون رقابة أخلاقية، ستكون من بين مظاهر التشوه والتقليد الثقافي الأعمى، الذي أصبحت تعيشه هذه الدول. فحظ المواطن من الإبداع الحضاري المتمشي مع، والمتطلب من العصر، سيكون منعدما بسبب هذا الغزو الثقافي الأجنبي، المُصَدَّر خصيصا لتخدير وشل حيوية وقدرات الابتكار لدى هذه الشعوب. وفي هذا السياق بالذات، نذكر دور اللغة العربية، هذا الذي أصبح مهددا في معظم هذه الدول. لأن دور اللغة العربية، كان وما يزال، مرتبطا بالثقافة والدين الإسلامي. إذن، فتهميش هذه اللغة – أو حتى محاولات استبدالها بالعامية كلغة رسمية للتعليم- على حساب لغات أجنبية دخيلة وغازية في عمق هذه الديار العربية، له مغزاه ومعناه ودلالته التاريخية في التخلف الاجتماعي الذي تشهده هذه الشعوب. فبينما كانت جغرافية اللغة العربية، مشعلا حضاريا في مجمل المعمورة المتمدنة تاريخيا، إبان عز الإسلام واتساع رقعته الحضارية من الهند إلى آسيا، فأروبا، أصبحت هذه اللغة في تراجع واستهجان، ورمزا للتخلف والرجعية الدينية. وعلى سبيل المثال لا غير، فكل الدول العربية، قد أصبحت وأمست تبث في إذاعاتها الرسمية، لأخبار ومسلسلات ناطقة باللغات الأجنبية. وفي المقابل، فإنك لن تجد هنا في الغرب، ولو إذاعة عربية رسمية واحدة، تذيع ولو خبرا واحدا باللغة العربية والعبرة لمن يعتبر. وملخص القول، إن ما يتعلق بما هو ديني وما هو ثقافي، إن اللغات الأجنبية الدخيلة، تقارن بالحضارة والتمدن في حين أن اللغة العربية تقارن بالدين والرجعية والتخلف. ومن هنا دعم الغرب ومساندته، لكل الأقليات الليبرالية أو العلمانية “المُفَرْنَجَة”، على حساب الأغلبية المحسوبة على التقليد والتخلف الديني. وبهذه المناسبة، إن ما يجري في مصر اليوم من أحداث انقلابية، يظل من وجهة المراقب العربي المقيم في الغرب، سواء في أوربا او أمريكا، تفسيرا وقراءة نموذجية مهمة للغاية. فكل الأحداث الغربية هنا وبدون استثناء نقلت أحداث الطغمة العسكرية وحلفائها الموهومين فقط وأقامت الدنيا وأقعدتها دفاعا عن الحرية والعدالة. وفي المقابل لم تنقل سوى صورة واحدة، بل ومهمشة للملايين من المواطنين المتظاهرين دفاعا عن الشرعية. وحين حصل الانقلاب العسكري على رئيس مدني منتخب شرعيا، لم تجد لها هذه الإذاعات الغربية من تفسير، سوى الطلب من طغمة الانقلابين التحلي بالصبر. ولو كان هذا الانقلاب قد حصل من جهة إسلامية على شرعية رئيس علماني على سبيل المثال، لما توانوا هنا في الغرب في هز محاكم الدنيا في ملاحقتها. ولنا في نموذج النظام العسكري السوري وبالدمار الذي ألحقه بشعبه وأرضه، أفضل مثال عن هذا الصمت الديموقراطي المتواطئ تجاه هذه المأساة الإنسانية السورية. والأغرب من كل هذا وكأن العالم قد أصبح اليوم أعمى فاقدا للذاكرة، ثمة اليوم في أروقة ما يسموه “بالرابطة العربية” من خرج بالمزامير وبطبول الدعوة ( ونخص بالذكر كل من الإمارات والسعودية وعسكر مصر والسودان ومن يدور حول محور رجعيتهم) لاسترجاع مجرمي حرب سوريا إلى البيت العربي.. ! ؟ لقد تم القسم الأول ويليه القسم الثاني في عدد لاحق بالإضافة إلى قائمة المراجع التي اعتمد عليها المؤلف. فؤاد اليزيد السني