عندما تمطر الأحزان في مدينتي المختبئة خلف مداخن المساء .. تنسحب المرايا من جحرها .. وتنزوي الأمواج خلف هضاب المقبرة خائفة من مجاديف الكهوف. عندما تلوّح الأحزان بغصن الدّموع .. أتبوّأ آخر صيحة زحفت بين حقول الأمل كامرأة تركت طفلها لحانات الأضرحة، لأكاذيب الوشم .. وانتحلت ظل حكاية سعيدة، لا أدري كم ذرفت من شفاهها المنهوشة كي لا يذكر التّاريخ اسم العاشق الأوّل. مرّ العشق الأوّل بين روايتين .. تناثر ريش الأحجيّة .. تهاوت كنائس العويل .. وظلّ الطّفل خائفا كنزهة مسروقة .. تعبر غياهب الجبّ… وفي إثرها عواء جائع لدم الضّحيّة. وتساءل الطّفل لما أشرق شهيق البذرة المنتظرة .. بكلّ شهقة كان يولد قربان، .. وبكلّ قربان كانت الأرض تغلق أشرعة النّعش .. لم يكن للحلَمة عطر تتودّد به .. ولم يكن للطّفل غير آية للذّكرى .. انتصبت بين الهجير والعواء بلا بوصلة. عندما يخلد اللّيل .. إلى سجّاد الصّمت.. وتلتحف الأحلام بأزيز النّجم البعيد .. لا أحد يذكر طفلا شرّدته سبحة مطرّزة بكرم النّبيذ .. وبشهامة القبب المفتونة بحرائق الرّعاة الهاربين إلى قبس يتكبّد غارة النّدم وحيدا .. كي لا يجفّ نخام الشّرف المكتوم. تنتحر العاصفة حزنا على مجاديف النّار المقدّسة .. تهوي الولائم إلى أسفل جرح ينام بلا قارب .. تضع السّماء وصيّتها الأخيرة فوق رهبة السّجّاد المضلّل .. تتعالى زغاريد السّوط المرهف .. لكنّ الطّفل الخائف من حفيف الصّمت، ومن بخار العناق المدنّس .. لم يزل ترشقه الأقدار المتراميَة .. كفوهّة الوطن. الطّفل لا يأبه لقدّاس الرّيح الملتبسة، كأنّه خبر تفّاح الإسراء إلى أمنيّة يتيمة .. كأنّه لم يوبّخ موانئ اللّذة المندسّة بين خرائب الانتماء للمجهول .. كأنّه يدرك أنّ غبار الجريمة لا جسر يأوي جثّته .. وأنّ اصفرار المغيب لا يحتمل مغيبين. الطّفل مهزوم .. منتصر .. مهزوم.. كرصاصة في حلق مسدّس .. يردّد خلف الغروب أسماء شظاياه .. وينصّب ضباب الرّدْهات مظلّة في وجه الخريف المتخفّي في هيئة زكام عابر. يقال ذات نزوة غيّرت الزّوابع وجهتها .. عانقت الغيوم صيفا هائجا، واطمأنّت إلى صهيل أعقم من مقبرة شهيد مزيّف .. لكنّ الطّفل ظلّ كغفوة معتوهة .. ينتظر … اشتعال الرّماد من جديد. ويقال ذات انصهار مدبّر نفخت أمّ في عيون الأفق .. وواعدت الفرح على حافة موج مفخّخ، ثمّ سافرت في مزمار أخرس . ويقال ذات وشاية بالعشق إذ تدفّق .. صافحت البئر دم الضّحيّة .. لكن طفلا ظل سائرا في طريق غير مروّض.