” البحر هو عالمك يا ولدي، هو أبوك بعدي..” سمع الابن “بحر” هذا الكلام من أبيه مراراً، في مناسبات عدة، يقوله بنبرة مختلفة، وككل مرة الولد يطأطئ الرأس، يصيخ السمع، ويرخي أذنيه الصغيرتين عله يستوعب كلاماً كبيراً يتكرر بقرف، وبالرغم عنه تعلق هذا الكلام في ذاكرته، وسكن منه القلب والأهداب، بات عنده من النوع الذي يتعذر عليه نسيانه بسهولة، عالمه بحر كما يريده أبوه، واسمه ” بحر”. يبحر مع أبيه، لا يشبع النوم، يصارع الأمواج من أجل سمكة.. كل ذلك في انتظار غد آت مجهول لا يعلن عن هويته، سيأخذه على حين غرة.. أيام كثيرة، وأسماك كثيرة، ” وبحر” وحيد، و طفل يريده أبوه أن يصبح لاسمه نصيب من عالم البحر. كلما صحب أباه إلى البحر يتأكد بأن والده كان محقاً حين سماه ” بحر”، صحيح هو اسم غريب ، وغير شائع بين أقرانه، لكنه تعود عليه دون أن يحبه، أبوه حين يناديه به يحس أنه غير معني به أبداً، إنما نداؤه لواحد آخر، وحين ينظر إليه – كلما ناداه أو حدثه – يبدو له أبوه غريباً، وشخصاً بلا ملامح، أية رغبة تلك التي أملت عليه اختيار مثل هذا الاسم له !. ربما للبحارة، كما السحرة، قصصهم، وتعاويذهم..لا سبيل لمعرفة كنهها؛ وأبوه، في النهاية، واحد منهم، يعشق البحر، ويهيم تيهاً في مداه. ككل صباح لا يفكر الرجل في الإفطار، يبدو قوي البنية، ملح البحر بادية أثرها على تجاعيد وجهه، عيناه غائصتان زرقاوان كلون البحر، عريض ما بينهما، من يراه لأول مرة يجزم أنه نسي كيف يبتسم، وأن رأسه غريب عن جسده، إنه أب، وأنجب “بحر”، ويحب البحر. “بحر” تعود في كل رحلة بحرية أن يجمع لوازم الصيد، يحتفظ دائماً بترتيبها حسب الحاجة لأن أباه يرفض أن يرى أمتعة وقد رتبت كيفما اتفق.. ” بحر” الصغير تعود ألا يفطر في الساعات الأولى من الصباح، ولكنه لا ينسى زوّادته أبداً.. يتنهد، يحمل الأمتعة ويتبع أباه. يتقدم الأب و” بحر” يقتفي خطواته السريعة، يبدو كجرو خلفه ، يسمعه مضطراً وهو يردد مواويل غريبة غدت تعني عنده أشياء كثيرة تروعه، اعتبرها مرة سيمفونية البحر، وإن كان تكريرها كل صباح ما يدل على أن الأب به مس اسمه صدمة الاستيقاظ المبكر تجعله يهذي بها..بالنسبة إلى أبيه الأيام واحدة، ليس فيها استثناء.. موال الصباح لا بد منه، والعجيب أنه يكرره بقرف، ولم يعهد منه “بحر”، في صباح معين، جديداً أبداً، كلمات مواويله منطوقة بمقاس لا نشاز فيه، إنها كما الدولاب، الدوران فيه واحد، والحركة واحدة؛ مرات عدة تمنى “بحر” لو يتقدم أباه مرة أو يسير معه جنباً إلى جنب، ثم ما المانع من أن يجمع الأمتعة كما يحلو له، ولم لا يقلع الأب عن ترديد مواويله المملة، أو على الأقل يختار غيرها يهذي بها… أسئلة كثيرة تدور في رأس الصبي، ولا سبيل لمعرفة أي جواب عنها. هما الآن على شاطئ البحر. البحر هادئ،وسطه تتراءى من بعيد زوارقُ عائمة بوداعة، تتهادى مع ريح الصباح الخفيفة وقت التغليس، لا يظهر من أصحابها غيرُ رؤوس تميل مع حركة البحر، صعوداً وهبوطاً، تبدو هامات الصيادين أشباحاً يزيدها ضوء قناديلهم المتدلية طولاً يتكسر، يتلوى، يتمطط مع حركة الموج و اهتزاز زوارق صغيرة تتبدى، وسط البحر، كما الحَبَب؛ هي كما الأولاد في حضن أمهاتهم، والبحر ،اللحظة، أمٌّ، والزوارق أولادها، تناغيها وتهدهدها.. صمت، وهدوء يخيمان على المكان، إنها الخلوة، خلوة الصيادين مع البحر في لقاء صباحي، لا يشاطرهم أحد حضن هذا الأزرق الواسع في الساعات الأولى منه، فأية نعمة يحس بها هؤلاء وهم يسرجون – كما مع الخيل- ظهر البحر في عناق مائي بارد. الأب تعود قبل الإبحار أن يراقب ابنه كيف يتعامل مع صنارته، فأن يصحبه معه في زورقه متوقف على استيعابه درس البحر الأول، عليه أولا أن يتعلم كيف يتعامل مع الصنارة، والشبكة، وحب البحر يأتي تالياً، أما معانقة لجته فلا بد لها من فحولة أولها صبر، وآخرها مغامرة، فلا شيء ينفع مع هذا الأزرق الواسع سوى الاقتحام. الطفل متأهب وماسك حبل صنارته بثقة، عيناه في أعماق البحر تجول، أبوه يراقبه عن كثب، يبدو مخيفاً، صامتاً كما الخاتمة غير المتوقعة، لا يبدي حراكاً، وقفته على الشاطئ تنذر ببوح للبحر أولا ولطفله ثانياً، كان مستعداً لأن يقول شيئاً، لكنه خائف من أن تقول شفتاه ما سيندم عليه.. أفكار كثيرة تتراقص أمام عينيه لا سبيل إلى أن يحزرها من لا يحب البحر.. لا بد أن يتكلم: ” كانت أمك، قبل وفاتها، تقول لي: إن أي رجل خير من عدمه، وبما أنك هذا الرجل فلشد ما أنا تعيسة.. لا تكاد تصلح لشيء أبداً، حتى نومك ليس عادياً.. البحر هو كل شيء بالنسبة إليك.. أبله أنت.. تأكدت من ذلك حين أطلقت اسم ” بحر” على ابننا.. الكلام معك غير مجدٍ، لكن ثق أن هذا البحر يغر بك، وخاتمتك المأساوية هو من سيتولاها..لكن حاذر أن تعلم ابننا وجه هذا البحر.. لست أدري ما الذي يجمعني بك.. عليّ مع ذلك أن أقف في زاوية وحيدة، وأن أتقبل بارتياح واقع أنني أستطيع أن أتنفس، وأنا معك.” هكذا، كانت أمك تهرف، كانت تسخر مني لأنني أحب البحر، ولأنني صياد فقير، وحقدت علي أكثر حين سميتك” بحر”. كانت وقع الكلمات على الصبي مثل رخاوة بداية يوم جديد يريده مختلفاً حتى لو سمع ما لا يحب من أبيه عن أمه. تابع الأب كلامه: – ” بحر” أجمل اسم، حين تكبر ستعي ذلك، قد تبادرني بالعقوق، لكنك ستترحم علي لأني اخترت لك هذا الاسم. الولد متأهب، لا يزال يمسك بصنارته بثبات، يسمع كل الكلام، ودون أن يلتفت إلى أبيه قال له: – هل افتقدت أمي؟ – من لا يعرف البحر يموت أبداً، ولا يفتقده أحد.. يمكنك أن ترى أن البحر هو كل شيء بالنسبة إلي.. يعرفني أكثر مما كانت أمك تعرفني.. جاء دورك.. عليك أن تحب البحر.. البحر هو عالمك، وأبوك بعدي. التقط بحر هذا الكلام وهو أشد ما يكون حرصاً لسماع المزيد، ليس لأن الأمر كان يعنيه إنما لأن أباه حين يكلمه ينساه، وهذا ما يبغيه الولد، ألا يراقبه حين يكون في البحر، ومع ذلك عبارة “البحر عالمك، وأبوك بعدي” كما يحصل معه دائماً، كان لها صدى البرق، زلزلت كيانه، فحين يقولها الأب وهو في البحر، يصبح لها صوت المد والجزر، يضيع الولد في جلجلتها التي يزيدها ارتفاع صوت الأب رهبة.. قدره أن يسمع هذا من أبيه مرات عدة، يبدو أن البحر علمه أن يكرر الأشياء حتى تتقرر لترحل مع أشرعة لتسكن في الصميم لا في الهامش. الطفل أحس بوخز في أخمص قدمه جعله ينتبه لوضعه، يده تتثاقل، وخيط صنارته يتقلص، تجلبه قوة عارمة آتية من عمق البحر.. يداه صغيرتان، وليستا بتلك القوة..يكاد يفقد قواه حين لمح أباه يرمقه دون أن يتدخل.. قوته تخونه، والبحر يبدو أقوى.. يكاد يستغيث بأبٍ لا مبالٍ يرمقه بنظرات مجهول.. يداه ترتجفان.. البحر ازدادت زرقة مياهه في عينيه، أو لعلها تغير لونها، فلم يعد يرى سوى الضباب، ظِل الولد فوق سطح البحر يدعوه، والبحر يفتح ذراعية ليحضنه كما الأم تفعل مع ولدها الضائع.. ثم.. ثم كانت صرخة مدوية لا صدى لها تنطلق من الأب، و”بحر” دفعة واحدة كما لو كانت شفتاهما على موعد.. وبحنكة مجرب يفلح الأب في السيطرة على الموقف. “بحر” لا يصدق أن البحر قد خانه هذه المرة أيضاً.. لعله لم يعد يعرف البحر، أو لعل البحر تجاهله.. لا يمكن أن يقرأ البحر إذاً، والبحر يقول “تعالوا اقرأوني”، يختلس النظر إلى أبيه ويقول: – لم يكن بيدي، اعذرني أبي.. – لعل أمك سعيدة الآن في قبرها. – لكني لن أنسى عالم البحر، وسأقرأ في صفحاته. لم يبدِ الأب اهتماماً لخاتمة كلام ابنه، اكتفى فقط بأن أومأ له: (أي سنرى).. نظرة الأب إليه بتلك الطريقة، وإيماءته، وزم شفتيه.. أمور سببت للولد هلوسات، وجعلته يقضي بقية اليوم كالممسوس، كلما نظر إليه أبوه يحس بجسمه يتنمل كما لو كانت به حشرات تنخره من الداخل. لم يقض “بحر” يوماً حارقاً مثل هذا أبداً رغم أنه في البحر، إنه يوم حارق حارق أوله أوامر ومواويل، ووسطه إخفاق في البحر، أما خاتمته فوهم داخلي . عادا ذلك اليوم خاويي الوفاض، يتقدم الأب، و”بحر” يتبعه، أمام الأب فراغ قاتل وظلمة حالكة، سيفكر لا محالة أنه أخفق في تعليم ابنه كيف يصطاد سمكة وهو الذي يريد أن يكون البحر هو كل شيء في حياته من بعده.. خلفه “بحر” يعد خطواته السريعة، لا يستطيع أن يخطو مثلها.. أحس برغبة في الكلام.. يريد أن يقول شيئاً: – أبي، لِمَ لا نجرب حظنا في المدينة، نهاجر كما فعل رفيقي وعائلته. يقف الأب، يدير رأسه إليه، سؤال ابنه رسم أمامه علامة “قف” فوقف، يتأمله، ويمعن النظر فيه.. بماذا يرد ؟ – نهاجر؟.. وما الفائدة، بل ماذا سنجني من المدينة؟ – في المدينة لن تعدم وسيلة، يا أبي، ثم للمدينة بحرها أيضاً.. هناك ستجد حبيبك أيضاً. يضحك الأب، ويقول: – طيب وماذا عنك ؟ – أريد أن أتعلم، يا أبي، أدخل مدرسة، أتعلم حرفة، أدخل ورشة… يخترق الأب علامة”قف” ويتابع السير ببطء هذه المرة، بدا كمن يسير في اتجاه مجهول أو لا يعرفه، يلتفت إلى ابنه، يمد له يده، يقربه منه، يربت على كتفه، وبصمت يتابعان السير جنباً إلى جنب لأول مرة منذ أن أنجبه…