برؤية الإعلامي وحساسية الشاعر، يحاول خليل عيلبوني المساهمة في رصد نهضة الإمارات العربية المتحدة، من منطلق كونه أحد الذين عايشوا طفرات التحول الأولى لهذا البلد، يوما بيوم وساعة بساعة. ففي كتابه "زمن البدايات: المكان ساردا جمالياته" الصادر عن دار النشر الأردنية "عالم الكتب الحديث"، يستحضر الكاتب الفلسطيني/ الإماراتي لحظات احتكاكه بأرض الإمارات قبل نحو أربعين سنة، ويتحدث عن التفاصيل الدقيقة للأمكنة والأحياء والشوارع والبنايات، دون أن تغفل ذاكرته استحضار أسماء الأشخاص الذين عايشهم خلال تلك الفترة والذين ساهموا في النهضة الإماراتية، من المسؤول الكبير إلى العامل الصغير. واللافت للانتباه أن الكاتب، وهو ينقب في صفحات ذاكرته الثاقبة، يعتمد تقنية "الذهاب والإياب"، أي إنه يجمع بين سرد وقائع الماضي ويقارنها بالحاضر في الوقت نفسه؛ فهو حين يتحدث عن معالم أبوظبي مثلا خلال مطلع 1971 (سنة وصوله إلى الإمارات قادماً إليها من مصر حيث كان يعمل إعلامياً) لا ينسى أن يسرد مآل تلك المعالم لاحقاً، كيف كانت وكيف صارت. هل يتعلق الأمر بسيرة ذاتية، أم سيرة أمكنة؟ كتاب تاريخ، أم مذكرات طافحة بالنوستالجيا؟ تحقيق إعلامي، أم عربون امتنان ووفاء للأرض التي احتضنت الكاتب، ومنحته دفئا أكثر، وفتحت له آفاقا أرحب في مساراته المهنية والحياتية؟ إن كتاب "زمن البدايات" مزيج من كل هذا وذاك. وقد أسعفت التجربة الإعلامية (الإذاعية) والموهبة الشعرية صاحبها، في أن يجعل من كتابه البكر سجلا طافحا بالحياة والمشاهد وبالصور الإنسانية النبيلة. من مداد المحبة والوفاء يمتح خليل عيلبوني عباراته، فيقول: "أعترف الآن، وبعد أكثر من ثمانية وثلاثين عاما، أنني عندما وصلت إلى أرض دولة الإمارات العربية المتحدة، كنت مجرد فلسطيني يبحث عن فرصة عمل أفضل وعن دخل مادي أكبر؛ ولكنني، ومنذ البداية، وجدت نفسي في بيئة صحية، لا تعارض فيها بين القيم التي أحملها، وبين العمل الذي أمارسه. ولذلك، أحببت عملي، وشعرت أنني فعلا في بلدي، واستطاعت أبوظبي بمن كان فيها في ذلك الوقت المبكر من مواطنين ومن وافدين، أن تهبني الحنان وتشعرني بالأمان، وأنني أعيش بين أفراد أسرة واحدة متحابة." إننا هنا، إذن، أمام مزاوجة بين الذاتي وبين الموضوعي، بين سرد بيوغرافي ووصف إثنوغرافي حضاري. كما أننا أمام ضربين من التحول الإيجابي: التحول الذي عاشته أبوظبي بعد الطفرة النفطية وتأسيس اتحاد الإمارات، وتحول في المسار الحياتي خليل عيلبوني بعد عمله الإعلامي في إذاعة أبوظبي وتلفزيونها، ثم مديرا للعلاقات العامة والإعلام البترولي في وزارة البترول والثروة المعدنية. ينقل الكاتب قارئه إلى يوميات الحياة في أبوظبي خاصة والإمارات عامة، ابتداء من عام 1971، فيتحدث عن حركة البناء الحثيثة وعن التحولات التي كانت تطرأ في الشوارع والعمارات والأسواق، ويبرز الحرص الذي برز منذ ذلك التاريخ على تشييد المساحات الخضراء وتوسيعها وتشجيع تعمير الصحراء والارتقاء بخدمات النظافة وغيرها من الخدمات الاجتماعية والصحية؛ دون أن ينسى رصد الحياة الاجتماعية للناس مواطنين ووافدين وللعلاقات في ما بينهم من جهة وبينهم وبين العاملين في مختلف المرافق الإدارية والصناعية والتجارية وغيره. ثم يبرز أهمية إنشاء بعض الشركات المحلية كشركة "بترول أبو ظبي الوطنية". وينقل الكاتب قارئه معه إلى رحلات مختلفة قام بها، هو وأصدقاؤه، خلال تلك الفترة، وتوزعت ما بين رحلات إلى جزيرة داس وفضاء جبل الظنة ومدينة العين ورحلة وسط كثبان إلى دبي ورحلات ترفيه وصيد فوق شواطئ أبوظبي وغيرها. كما يتوقف عند بعض اللحظات الثقافية المميزة حينئذ، كزيارة المطربة المرحومة أم كلثوم لأبوظبي وإحيائها حفلا فنيا بمناسبة العيد الأول للإمارات، وأول زيارة للشاعر الراحل محمود درويش إلى هذا البلد، وإنشاء مكتبات خاصة من أحضان معرض أبوظبي للكتاب. ولا ينسى المؤلف أن يرسم، بعباراته العذبة وذاكرته المتقدة، بورتريهات لعدد من الشخصيات المؤثرة ذات البصمات المميزة في تاريخ الإمارات: عبد الله بن أحمد العتيبة (رجل من زمن الغوص والنفط)، سعيد بن أحمد العتيبة (من قدماء المتعلمين في المنطقة، عمر الخطيب (فارس اللغة)، محمد الجناحي (من المكتبة إلى الدراما)، سمو الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان (رجل الأمن الباسم)، حمودة بن علي (رجل من أوفى الرجال). عاملان اثنان متلازمان شكّلا مصدرا إضافيا للمعرفة والخبرة العميقتين لدى عيلبوني: أولهما تخصصه في الإعلام البترولي، من خلال برنامجه التلفزيوني "الذهب الأسود" الذي استمر حوالي عشرين عاما، وثانيهما احتكاكه المباشر بأبرز صناع القرار في الإمارات، وفي مقدمتهم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والدكتور مانع سعيد العتيبة. ومن أهم الخلاصات التي وقف عندها الكاتب في هذا المجال، حرص الشخصيتين المذكورتين على وضع خطة استراتيجية شاملة لتنويع مصادر الدخل بالإمارات، بالاستغلال الأمثل للبترول وعدم الاكتفاء بهذه الثروة، لأنها مادة ناضبة وغير متجددة. ولذلك، وقع الحرص على اعتماد عائدات النفط في توفير ما يمكن من بناء مشاريع اقتصادية مربحة: بناء المصانع، وجعل الزراعة مصدرا للدخل، وفتح أبواب البلاد للتجارة العالمية، والاستفادة من الغاز وعدم حرقه، والاستثمار في البلدان النامية والصديقة لتوفير مصادر دخل جديدة... الخ. وعود على بدء، فإن هذا الكتاب كما جاء في التقديم الذي يحمل توقيع الناقد الدكتور إبراهيم أحمد ملحم "ليس سيرة ذاتية لشاعر أو إعلامي في مكان تحول بفعل الحب والانتماء إلى جزء محايث للروح. فتصنيف ما جاء فيه ضمن السيرة الذاتية قد يكون في غاية الصعوبة، لأن خليل عيلبوني ينظر إلى كل ما يحيط به، فيراه جميلا. يروي قصة حب لا تنتهي، وكأن المكان نفسه هو الذي يسرد جمالياته، ولكن من خلال ذاكرة عيلبوني. وليس يعني هذا غياب الصوت السارد الحقيقي؛ فنحن نجده يتحدث عن نفسه متأثرا بما يجري حوله، ومؤثرا فيه. ومن هنا، تأتي أهمية هذا الكتاب، فهو يتحدث عن زمن يمتد منذ عام 1971، وهو زمن بدء حياته في أبوظبي إعلاميا؛ إذ كات عيلبوني أول مذيع أعلن تأسيس الاتحاد وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة عبر إذاعة أبوظبي".