على سبيل البدء: نسعى في هذه الورقة إلى محاولة الإمساك بالفضاء المكاني الذي يؤثث معالم المجموعة القصصية دلاليا باعتباره مقوما أساسيا" لا يحدد اتجاها معينا للسرد، وإنما يساهم في تشكيل موضوع النص،وأحيانا في تحديد العلاقات بين الشخصيات ولغتهم "1. وهو ما سمح لنا بطرح التساؤلات الآتية: كيف يتشكل الفضاء المكاني في المجموعة القصصية؟ وما هي استراتيجية فهمه في المجموعة؟ وما علاقته بالدلالة؟. 1} ماهية المجموعة القصصية: تتشكل المجموعة القصصية " في القلب جرح" للقاصي الدرعي محمد الحفيضي من سبع وستين صفحة من القطع المتوسط . صدرت ضمن منشورات القناة الثانية. المنشورات الثانية ( 2007/2008) . فاز بها صاحبها بجائزة القناة الثانية للإبداع الأدبي. وتتكون من ثلاث عشرة قصة هي[ الأيام الصعبة، تلك النخلة، لوحة زرقاء، في القلب جرح، صحراء الذهب، فقدان، حلكة الشمس، بورتريه، الغادي بعيد، ليل المصدور، صدفة، سيرة أديب، فوضى] . 2} الكتابة القصصية/ الحركية الدائمة: تعتبر القصة القصيرة من الأجناس الأدبية التي ارتبطت " بالتعبير عن اللحظات المتوترة التي يعيشها الأفراد وتعيشها المجتمعات . مع أن جوهر الانشغال لم يكن مفارقا لبناء الأشكال وارتياد آفاق التخييل. اعتمادا على كل ما تسمح به مساحة القصة من تكثيف وتجنب للتفاصيل. فمساحتها الورقية تعني مساحة أخرى لحدود اللحظة وزاوية النظر إليها واختزال كل ما يمكن اختزاله من أجل تأسيس لقواعد الكتابة في هذا الجنس الأدبي ، وما يتميز به من تكثيف للأحداث واقتصاد لغوي وواقعية لا تخلو من أبعاد رمزية وغيرها من المقومات التي تميز خطابها الأدبي عن كتابات أخرى كالكتابة المقالية أو الكتابة الصحفية أو حتى ( الأقصوصة) والرواية"2. كما أن القصة خطت خطوات كبيرة تحولت بموجبها ليصبح لها " انتماء إلى الاتجاهات و المدارس الأدبية الفنية ، كالواقعية والتعبيرية والرمزية، وكتابة ما فوق الواقع ، فمن التقاطها لتفاصيل اليومي، إلى سحر موضوعاتها ، إلى انفتاحها على عوالم الحلم، أخذت تنويعات الكتابة القصصية تتسع وتروم اقتناص اللحظات الشاردة في عالم قصصي يحفل بالاستثناء والشارد والعجيب ، رغم إقامته في الحياة اليومية المطبوعة بطابع القلق الاجتماعي والوجودي" 3. وقد انعكس هذا التطور على المقومات الأدبية للقصة ، حيث ثم تحطيم ما يسمى بالأقانيم الثلاثة لها ، وارتباك تسلسلها الزمني المرتبط بشكل خاص بالبنية القصصية الكلاسيكية الموباسانية [بداية،وسط (العقدة)، نهاية] 4، بحيث " تحررت من ذلك القالب الكلاسيكي الذي يسجنها في إطار ما كان يسمى (القالب القصصي) وأصبحت لها مساحات جديدة للتجريب والتخييل" 5. 3- خصوصيات المكان في المجموعة القصصية "في القلب جرح": لا يمكن الحديث عن القصة في غياب الفضاء المكاني باعتباره بنية أساسية من بنيات الكتابة القصصية، حيث يعد مكان وقوع الأحداث التي لها ارتباط أكيد بالعوامل التي تُحدث الفعل أو يحدث لها إذ أنه " يمكن القول إن السرد مستحيل بلا وجود مفهوم ما ل ( المكان) يتمثله كُتاب القصة والرواية والنقاد والمنظرين. تمثلا يصنع اختيارات للفهم" 6. وقد ميز أحد الدارسين بين عدة مظاهر لفهم المكان سوف نستحضرها في الكشف عن الفضاء المكاني وخصوصياته في المجموعة القصصية ( في القلب جرح) للقاص محمد الحفيضي . أ- فهم اقتضائي لازم عن كل فعل زمني ولكل حركة إنسانية أو لوجود كائن حي : مكان جغرافي طبيعي مألوف يُستحضر باللغة وصورها7 من قبيل الطريق في قصة( الأيام الصعبة) ، حيث يبدو السارد عليما بكل ما يخص الشخصيات في ظل الرؤية السردية من الخلف التي تهيمن على القصة . يقول السارد:" بعد ذلك أصبحت تبتسم كلما صادفتك في الطريق . زادت تلويحة خجولة بيدها لما بدا لها الشارع خاويا ذات مساء جميل، أصبح له مذاق مكان خاص في ذاكرتك. يوما عن يوم تتفتح الأزهار بينكما، يتأجج تبادل الهدايا. وتخاطر الأحاسيس"8 . فالطريق لا يعد مكانا للعبور من مكان إلى آخر فحسب كما هو معتاد بيننا ، إنه أضحى فضاء للحب الذي تؤثثه الابتسامة والتلويحة الخجولة والمذاق الخاص وعادات جديدة . تناسق القميص مع السروال والحذاء ، وعطر نفاذ...9 ، كما أن البحر و(الكورنيش ) وهو مكان الحنين واللقاء واشتياق التواصل . يقول السارد:" أنا الآن في البحر - دبا في السرك - أنا أمشي على الكورنيش تزودها بتحركاتك، بأمكنتك ردت عليك يوما: يا لك من ابن بطوطة... في شاطئ ( لالة فاطنة) بأسفي، مع - ألبا- و - آنا- و - ريبيكا- يحلو الحديث بفرنسية ضعيفة، هن لا يتقنها جيدا، يخرجنها مخنوقة بلكنة ألمانية . لم نر فيهن قناة للعبور. التقينا صدفة وافترقنا بتبادل (الإيميلات)"10. إن استحضار البحر والكورنيش يوهم السارد بوقائع تقع في الحلم رفقة الآخر لحظة وجوده حقيقة بالمكان الذي انبثق فيه الحب وتحقق فيه الوصال ، لذلك فهو مكان الذات المنساقة مع غرائزها وعواطفها المرهفة وأحاسيسها المتاججة . اتضح أن الفهم الاقتضائي للمكان في المجموعة القصصية تفاعل مع دلالات مست الجانب المرهف في الذكر/ السارد . إنه الحب ومعاناته والاشتياق والفراق والوصال وكلها معان لازمته في ظل المكان (الطريق، البحر، الشاطئ). ب- فهم موضوعي ينظر إليه من خلال تجسده المرئي القابل للتسمية والتحديد ، وللوصف والإخضاع، مكان فزيائي هندسي جامد وخامل ميت . يستحضر أيضا باللغة وبمعايير علمية ومقاييس لها تسميات ومصطلحات هندسية خاصة 11 . ويجلو هذا الفهم للمكان في قصة ( لوحة زرقاء) التي يظهر فيها (المركب) كمكان قابل للتحديد ، لكنه ميت وسط الأمواج المتلاطمة. يقول السارد" ذات صيف المسافة بين النظر ونقطة الوصول عليها غشاوة، ملبدة بغيوم رمادية وبقايا غضب طبيعي، يبدو المركب قطعة سوداء بدون شكل محدد، يتلاعب بها الموج، تقاذفها على ذلك النحو، يعطي انطباعا بأنها هلامية كطحلب" 12. لقد تبلور هذا الفهم الموضوعي للمكان من طبيعة اللغة التي وظفها القاص والتي خرقت المألوف والمعيار اللغوي وتسلقت مطايا الخرق والانزياح الذي سما بالدلالة وأضفى على المكان جمالية تنضاف إلى جماليته في تشكيل معالم السرد القصصي. ويعتبر ظل النخلة في قصة( تلك النخلة) مكانا للانتظاروالمقلق بسبب لوعة الفراق وألمه." يسند ظهره إلى جدعها الضخم ويقف لساعات طوال، عندما يختفي قرص الشمس خلف ثنايا الجبل كأخطبوط لا يتقن السباحة يرجع من حيث أتى، يشعر بالمسافة كأنها تضاعفت ، يطأطئ راسه كأنه متأثرا بلوعة الفراق ويمسح من عينيه دموع..." 13. فالشجرة النخلة تبادلت الأدوار مع الحبيبة في التعبير عن وجودها حيث استعاض بها السارد عن محبوبته من خلال التذكر والأحلام التي تولدت لديه. ففي أحد الأصوات تأكد أنه يغازلها:" صوت أول: رأيته يغازلها، يقبلها، يحضنها بكلتا يديه، ومرة عبث بليونة كف تلميذ له ضبطه يفرغ مثانة تحتها. أشبعه ضربا مبرحا وهدده بما هو أكثر إن هو أعاد الكرة" 14. وقال أيضا:" حبيبتي كلما جلست تحت شجرة أتذكر أيامنا الظليلة، أصبحت مولعا بالأشجار، أحببتك فيها. لا أتمنى أن تغاري من شجرة، تأكدي أنني أحبك ولم أعشقها إلا لأنها تحسسني بك... بلغ به الهوس حد الجنون نحت وجهها بعد إزالة لحاء الجدع، صبغه بالألوان، أطلى الشفاه بأحمر باهت اختلسه ليلا من توت المقابر، وقبل فمها" 15. ت- فهم تأويلي يستحضر مشحونا بحمولات رمزية واعتقادية تتحكم وتقيد فعل الإنسان وحركته في الزمن وتجعله مكانا أسطوريا وخرافيا وغرائبيا16. وقد تجسد هذا الفهم المكاني في المجموعة القصصية قيد التحليل في قصة (فقدان)حيث شكل فيها المكان رمزا للمعتقد الديني الإسلامي المرتبط بطقوس الجنازة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة الزوجية التي توجب على المرأة التي توفى زوجها القيام بطقوس الوفاة الملزمة لها والمتمثلة في العِدة ، إذ تلتزم بلباس الأبيض دلالة على حزنها لوفاة زوجها، هذا فضلا عن سر هذا المعتقد الديني. يقول السارد:" ذات يوم من أيام الله ، بعدما أصبحت أحلق لحيتي ، وأتقاضى أجرا من خزينة الدولة، عدت إلى البيت فاستقبلني فناؤه بصدى عويل المعزيات. جدتي كانت تتخذ زاوية مكانا لها، كانت مقشرة من اليومي ، ترفل في الأبيض كحمامة جريحة. لم تكتب لي رؤية جدتي عروسا كيْ ألحظ الفرق. فهي لم تختفي في البياض إلا حينها"17. إن الزاوية التي تقبع فيها الجدة ليست مكانا للوقاية من البرد أو الحر أوالتستر عن الأنظار والخنوع لراحة البال كما هو معلوم بيننا فحسب، بل أصبحت الغرفة مكانا لممارسة المعتقد والمقدس والديني ( لباس الأبيض، عدم القيام بالأشغال، الركون للعدة على الزوج المتوفى)، وبهذا المنطق ينسجم المكان في المجموعة القصصية مع تصور البويطيقا للفضاء، حيث لم يعد الفضاء الي تجري فيه المغامرة المحكية، ولكن أيضا أحد العناصر الفاعلة في تلك المغامرة نفسها 18 . ث- فهم افتراضي يتمثل المكان مجالا تحدث فيه إسقاطات وهمية أو تخييلية، أي بوصفها مفاهيم مجردة لا تتحصل أو توجد واقعيا في حيز أو موضع قابل للرؤية بمعنى أنه مكان سيكولوجي.أي (النفس) بكل ما تحتويه19 . ويحضر هذا النوع من المكان بقوة في قصة ( صحراء الذهب) ، حيث شكلت الصحراء التي أضحت ملاذ المتسابقين من أجل الذهب والشهرة مكانا نفسيا للبدوي الذي تنكر مما يحدث بها، وذلك من خلال تساؤلات إنكارية. يقول السارد:" كيف حطوا الرحال بصحرائه دون علمه؟ لماذا شقوا صمتها دون إخباره، جرحوا بكارتها في ساعة وهو الذي احتفظ بعذريتها عقودا؟ يجب أن يمنعهم ، لابد أن يبقى للصحراء وقارها وحكمتها. توسط البدوي المدار، كان يلوح بيده كأنه يريد قول شيء، هم أخرجوا مصوراتهم ( النيمرك) وبدؤوا يشغلون علم العدسة في مِخاخهم المثقلة (بالويسكي) يصوبونها تجاه البدوي" 20 . ويطفو المكان السيكولوجي في قصة( فقدان) معبرا عن تشظي الذات أمام سنن الحياة ، وذلك بظهور المولود الجديد وحرمان السارد من النوم بين ركبتي أمه ، مكان الحنان والشفقة والعطف والسيادة الطفولية المطلقة مما يصعب معه الفراق والتنحي لحظة الفطام أو ظهور منافس جديد. يقول السارد:" لم يعد لي الحق في النوم بين ركبتي أمي المنهوكة، بالكاد تتحمل أخي الصغير. ورث الضيف الجديد كل أشيائي واقتسم معي الحنان" 20. إن هذه الكلمات المقتضبة التي صرح بها السارد تحمل دلالات عميقة على التأسف والتألم الداخلي لما حدث له بظهور أخ جديد سرق منه المكان (ركبتي الأم) هذا المكان الذي يدل بشكل ضمني على نفسيته المتوترة، بل على نفسية كل طفل فقده لسبب من الأسباب ؛ مكان الحنو والعطف والحب ، فالمكان بهذا المعنى" يمكن أن يعبر عن الشخصية بواسطة العلاقة المجازية . ويعني ذلك أن المكان يدل بطريقة غير مباشرة عن نفسية إحدى الشخصيات" 21. وهي في القصة شخصية السارد/ الطفل. ويلوح المكان المشحون بالدلالات النفسية والتوترات السيكولوجية في قصة (فقدان) عندما يتساءل السارد بنوع من الاستغراب والتعجب عن الجسد المسجى فوق اللوح. مكان الألم والحزن الناتج عن الفراق ." لمن هذا الجسد؟ المسجى فوق اللوح؟ لا أصدق أن المسكين الذي تعلوه صفرة مشوبة بزرقة هو ذلك الذي كنت أتحدث عنه قبل قليل . لم يعد الوجه مكسوا بالصرامة. علته مسحة من الرضى والاطمئنان"22. فاللوح الكبير الذي أشار إليه السارد هو مكان يبعث على البكاء والنحيب والتأسف والألم. حيث أنه مكان الميت قبيل أن يصل إلى مثواه الأخير في مدينة الموتى. ولهذا الفهم المكاني ( الفهم الافتراضي) مظاهر أخرى في المجموعة القصصية – قيد التحليل- نسجلها كما يأتي: - قصة بورتريه: - السجن: مكان القسوة والحزن - الفدان مكان الخير والبقاء - قصة الغادي بعيد: - النفس: مكان الحب والحلم الجميل - زاكورة : مكان المتعة والراحة والاطمئنان والتأمل - قصة ليل المصدور: - الحجر: مكان الوداع الأخير المفعم بأرق الحب والهيام - قصة سيرة أديب: - الجسد: مكان الألم الذي ينتهي بالألم. على سبيل الختم: تأسيسا على ما سلف تبين أن الفضاء المكاني اتخذ اشكالا شتى في التعبر عن الدلالة العامة في المجموعة القصصية بلغة غاية في الروعة والجمالية، التي اتخذت من الواقع مجالا خصبا لموضوعاتها، ومن الوقائع الأكثر توترا وقتامة ملاذا لتشكيل معالمها. وهو ما جعلنا نلمس في الكتابة القصصية للقاص محمد الحفيضي واقعية ( أنطوان تشيكوف)، لكنها واقعية درعية بفضاءاتها وطبائعها وميولاتها، كما نلمس فيها أيضا غرائبية ( إرنيست هيمونكواي) المتجهة لالتقاط عنف اللحظات من الواقع وأكثرها توترا23