لقد أبرز جلالة الملك محمد السادس في أول خطاب للعرش له يوم 30 يوليوز 1999 الخطوط العريضة لسياسته الداخلية، ليطمئن شعبه على أنه سيواصل النهج الذي كان يسير عليه والده طيب الله ثراه بخصوص الإقلاع الشامل للبلاد في ميدان التنمية، مؤكدا ضمن هذه الخطوط العريضة أنه سيولي قضية الصحراء المغربية الأهمية التي تستحقها، ومجددا العزم على أن تشغل قضية التعليم حيزا كبيرا من اهتماماته الآنية والمستقبلية لما تكتسبه من أهمية قصوى، ولما لها من أثر في تكوين الأجيال وإعدادها لخوض غمار الحياة والمساهمة في بناء الوطن بكفاءة واقتدار، والتطلع إلى القرن الحادي والعشرين بممكنات العصر العلمية ومستجداته التقنية، وما تفتحه من آفاق عريضة للاندماج في العالمية. وعرف المغرب في ظل قيادة الملك محمد السادس تطوراً ملموساً مكنه من الحصول على مكتسبات عدة على جميع الأصعدة ما جعله يحتل مكانة مرموقة بين صفوف الأمم، على الصعيدين الدولي والعربي و الأفريقي. وبفضل عبقرية جلالة الملك ، استطاعت بلادنا أن تشق الطريق باستمرار وانتظام لتخطو خطوات حثيثة على درب الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية جعلت من المغرب استثناء فريدا على مستوى شمال إفريقيا، بعد العاصفة التي أودت بجل الدول العربية في المنطقة وهددت كيانها ووحدتها وسيادتها. فقد تميزت العشرون سنة من حكم الملك محمد السادس تنمية شاملة، مضت خلالها المملكة نحو الحداثة وتعزيز دولة القانون، حيث مثلت ريادة جلالة الملك نموذجاً في المنطقة وركيزة للشعب المغربي، مكنت البلاد من تكريس مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي و تحقيق منجزات ملموسة في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أجل الوصول إلى مصاف الدول الديمقراطية والمتقدمة . فعلى المستوى السياسي ، نشير في هذا الخصوص إلى أنه منذ بداية حكمه ، حدد جلالة الملك إطارا للمفهوم الجديد للسلطة بوضع خطوطه العريضة في الخطاب الذي وجهه يوم 12 أكتوبر 1999 بمدينة الدارالبيضاء .وشكل هذا الإطار قطيعة واضحة مع الأساليب القديمة و نهج أساليب جديدة تضمن حماية الحريات الفردية والجماعية وتصون حقوق المواطنين وتتيح الظروف المناسبة لترسيخ وتوطيد دولة الحق والقانون ، وذلك من خلال إجراء مراجعة عميقة لعدد من النصوص القانونية والتنظيمية بهدف خلق مناخ ملائم ، و إعادة النظر في اختصاصات و مهام الولاة لتتركز على القضايا الاقتصادية من أجل تحقيق أهداف اجتماعية محددة، حيث أكد جلالته على » أن المفهوم الجديد للسلطة، الذي أطلقناه، في خطابنا المؤسس له، بالدارالبيضاء، في أكتوبر 1999، يظل ساري المفعول، فهو ليس إجراء ظرفيا لمرحلة عابرة، أو مقولة للاستهلاك، وإنما هو مذهب في الحكم، مطبوع بالتفعيل المستمر، والالتزام الدائم بروحه ومنطوقه، كما أنه ليس تصورا جزئيا، يقتصر على الإدارة الترابية، وإنما هو مفهوم شامل وملزم لكل سلطات الدولة وأجهزتها، تنفيذية كانت أو نيابية أو قضائية ». فوفقا للمفهوم الجديد للسلطة، أصبح من واجب رجل السلطة أن يتواصل مع المواطن وينصت لحاجياته في إطار من الانفتاح وسياسة القرب ، مع ربط المسؤولية بالمحاسبة، التي تتم عبر آليات الضبط والمراقبة، وتطبيق القانون، بالإضافة إلى تغيير دور مؤسسات الدولة التي لم تعد وظيفتها تنحصر في التدبير الإداري وحده، بل امتدت إلى التنمية الاقتصادية وتشجيع الاستثمارات التي من شأنها خلق الأنشطة الاقتصادية. وفي هذا السياق أحدثت مراكز جهوية للاستثمار التي جاءت لتجسد بعدا جوهريا في المفهوم الجديد للسلطة، وهو إنعاش الاستثمار والنهوض بالاقتصاد، وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة . وهذا المفهوم أصبح عنصرا أساسيا في الحكم وهو ما عبر عليه جلالة الملك في خطاب العرش يوم 30 يوليوز 2016 عندما قال : « مفهومنا للسلطة هو مذهب في الحكم، لا يقتصر، كما يعتقد البعض، على الولاة والعمال والإدارة الترابية. وإنما يهم كل من له سلطة، سواء كان منتخبا، أو يمارس مسؤولية عمومية، كيفما كان نوعها » . كما أن تخليق العمل السياسي، كان و لا يزال هدفا استراتيجيا للملك محمد السادس ، حيث كان يعلم ، بفكره الثاقب، أن مفتاح حقوق الإنسان وكرامته وحرياته العامة، هو إجراء انتخابات حرة و نزيهة ، لذلك فإنه ما فتئ يذكر أن من متطلبات توطيد ما تنعم به بلادنا من استقرار سياسي والارتقاء بمستوى النضج الذي بلغه بناء الصرح الديموقراطي، إجراء انتخابات في أوانها الدستوري والقانوني العادي و يطبعها نوع من الصدقية و النزاهة. وكان جلالة الملك دائما ، بصفته الضامن للخيار الديمقراطي الوطني، يلح في عدة مناسبات، على ضرورة احترام نزاهة الانتخابات، التي حرص جلالته دوما على ضمانها في كل الاستحقاقات ، والتصدي لكل الممارسات التي قد تسيء لها ، جاعلا من نزاهة الانتخابات المدخل الأساسي لمصداقية المؤسسات التمثيلية، حريصا على أن تتحمل السلطات العمومية والأحزاب السياسية مسؤولياتها كاملة في توفير الضمانات القانونية والقضائية والإدارية لنزاهة الاقتراع وتخليق المسلسل الانتخابي. و بالفعل ، فقد نجح المغرب في تنظيم أول انتخابات في عهده سنة 2002 ، اتسمت بالشفافية والنزاهة وفق المعايير الديموقراطية المعروفة، بتوفير شروط النزاهة والشفافية للعملية الانتخابية، وضمان حياد الإدارة. كما حرص جلالة الملك على أن يجعل من مشروع بناء مجتمع ديمقراطي وحداثي أولوية تتصدر اهتمامات جلالته ، حيث جعل من تثبيت أركان الممارسة الديمقراطية وإرساء قواعدها وتدعيم آليات اشتغالها، في إطار دولة الحق والقانون، مطمحا ساميا ونبيلا يندرج في إطار منظومة إصلاحية ترتكز بالأساس على تحديث المؤسسات والهيئات السياسية ودمقرطتها وإصلاح المشهد السياسي الوطني وتأهيله بما يساير متطلبات العصر. وفي هذا الاطار عرف المغرب تشريعا عصريا يتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية ببلادنا ، الهدف منه العقلنة والديمقراطية والتقيد في إحداثها وبرامجها وطرق تمويلها وتسييرها وأنظمتها الأساسية والداخلية بقواعد ومبادئ الديمقراطية والشفافية ، كما يتوخى القانون الارتقاء بالأحزاب لتصبح رافعة قوية قادرة على تعبئة جهود وطاقات مكونات المجتمع وقواه الحية ، و أداة لإشعاع قيم المواطنة، وصلة وصل قوية بين الدولة والمواطن. كما أن القانون المتعلق بالأحزاب السياسية يندرج في إطار الحرص على توطيد صرح الدولة الحديثة في نطاق الملكية الدستورية الديمقراطية الاجتماعية، ويعد لبنة أساسية للسير قدما بالانتقال الديمقراطي إلى الأمام، وإنجاح رهانه وتأهيل العمل البرلماني ، وجعل الأحزاب السياسية، باعتبارها المدرسة الحقيقية للديمقراطية، هيئات جادة في العمل ، بما يمكن من تحرير الطاقات ونشر الأمل ، في أوساط الشباب خصوصا ، وفتح الآفاق والإسهام في إنتاج نخب كفأة ، وتخليق الحياة العامة، وإشاعة التربية السياسية ، والمواطنة الإيجابية، وابتكار الحلول وطرح المشاريع المجتمعية الناجعة. وعلى مستوى النهوض بحقوق الانسان و حمايتها ، حرص جلالة الملك محمد السادس على أن يعطي لهذا الجانب ما يستحق من العناية لما يوجد من ترابط وثيق بين التنمية الاجتماعية والديموقراطية وحقوق الإنسان، باعتبار أن الإبداع في العمل مهما كان نوعه، لا يتحقق إلا ضمن جو مفعم بالحرية في التفكير والتعبير والمبادرة. وعلى هذا الأساس أولى جلالة الملك عناية خاصة لتعزيز الحماية في مجال حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، والتنمية المستدامة، تجسيدا لالتزام المغرب الراسخ بحماية حقوق الإنسان وتعزيزها ، علما بأن دستور 2011، الذي تم إعداده بطريقة تشاركية، وبمساهمة جميع الفاعلين المعنيين، يتضمن ميثاقا حقيقيا للحريات والحقوق الأساسية، يتلاءم والمرجعية الكونية لحقوق الإنسان ، نظرا لما يكرسه من حماية للحقوق وللحريات ، حيث يتضمن ما لا يقل عن 60 مادة متعلقة بالحقوق والحريات. كما يكرس أيضا مبدأ الاستقلال التام للسلطة القضائية، ويرسي مجموعة من الهيئات التعددية والمستقلة المعنية بحماية الحقوق والحريات، والديمقراطية التشاركية والحكامة الجيدة. فلا جدال في أن النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها في المغرب قد عرف تطورا ملحوظا، في عهد جلالة الملك محمد السادس ، حيث تم إرساء أسس دولة الحق و القانون بفضل قرارات هامة وشجاعة تم اتخاذها في هذا المجال، كان أبرزها إحداث هيئة الانصاف والمصالحة في يناير 2004التي انكبت على موضوع الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان خلال الفترة بين عامي 1956 و 1999، والتي تعد تجربة فريدة من نوعها و نموذجا يقتدى به في إفريقيا والعالم العربي، هدفها تحقيق مصالحة المغاربة مع ماضيهم و معالجة الخروقات و التجاوزات ، وجبر الضرر عن طريق تعويض ضحايا انتهاكات حقوق الانسان. كما أن المملكة وضعت خطة عمل وطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تشتمل على عدد مهم من التدابير الرامية إلى توطيد الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في جميع المجالات. ناهيك عن إحداث الآليات الوطنية الحمائية في القانون الجديد المنظم للمجلس الوطني لحقوق الانسان، المتعلقة بالوقاية من التعذيب أو حماية الطفولة ودعم ذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى آلية محاربة كافة أشكال التمييز ضد المرأة. كما انضم المغرب لعدد مهم من الاتفاقيات و الآليات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وصادق على أهم البروتوكولات الملحقة بها، ورفع عددا من التحفظات عن الاتفاقيات الدولية التي سبق أن صادقت عليها المملكة ، وأصدر عددا من القوانين والنصوص التشريعية التي تساهم في تطوير مبادئ حقوق الانسان، وقام بتعديل نصوص أخرى لملاءمتها مع هذه المبادئ، من أهمها إلغاء محاكمة المدنيين بالمحاكم العسكرية، واستمرار إصلاح منظومة العدالة وإحالة العديد من ملفات الفساد والرشوة على القضاء وكذا فتح تحقيقات في بعض التجاوزات المتعلقة بالتعذيب، وإعداد السياسات الحكومية في مجال حقوق الإنسان والحرص على ملائمتها مع القانون الدولي الإنساني. كما وضع جلالة الملك محمد السادس قضية المرأة ضمن أولويات الإصلاحات التشريعية والمؤسسية ، كما أبى جلالته حفظه الله، إلا أن يجعل من الأسرة المغربية، القائمة على المسؤولية المشتركة، والمودة والمساواة والعدل، والمعاشرة بالمعروف، والتنشئة السليمة للأطفال ، لبنة جوهرية في دمقرطة المجتمع باعتبار الأسرة نواته الأساسية. وقد سلك جلالة الملك ، منذ تقلده الأمانة العظمى لإمارة المؤمنين، مسلك الحكمة وبعد النظر، في تحقيق هذا الهدف الأسمى، فكلف لجنة ملكية استشارية من أفاضل العلماء والخبراء، متعددة المشارب ومتنوعة التخصصات، بإجراء مراجعة جوهرية لمدونة الأحوال الشخصية، بغية إعداد مشروع مدونة جديدة للأسرة، مشددا على الالتزام بأحكام الشرع، ومقاصد الإسلام السمحة، وداعيا إلى إعمال الاجتهاد في استنباط الأحكام، مع الاستهداء بما تقتضيه روح العصر والتطور، والتزام المملكة بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا. وهكذا ، وفي يوم الجمعة 10 أكتوبر 2003 في افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان، أعطى الملك توجيهاته السامية لإصلاح جوهري لمدونة الأسرة، لتكون مدونة منصفة للمرأة باعتبارها شقيقة الرجل في الأحكام مصداقا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام. و في سنة 2004 عرف المغرب صدور مدونة جديدة للأسرة ، عصرية ومتقدمة ، من أجل حماية حقوق المرأة والطفل ووضعية الأسرة ككل. وفي إطار الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة، فقد حظي موضوع إصلاح المهن القانونية والقضائية بأهمية خاصة في الحوار الوطني ولاسيما إصلاح مهنة خطة العدالة، حيث أوصى الميثاق في توصيته رقم 169 بوجوب الارتقاء بهذه المهنة بما يسهم في تحديثها، وفتح المجال أمام المرأة لممارستها، انسجاما مع المبدأ الدستوري المنصوص عليه في الفصل 19،والمتمثل في تحقيق المساواة بين المرأة والرجل والسعي نحو المناصفة، وانسجاما أيضا مع الالتزامات الدولية للمملكة ومصادقتها على الاتفاقيات الدولية الأساسية في مجال حقوق الانسان، وخاصة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ورفعها لكافة التحفظات عنها. وبالنظر إلى ما يميز هذه المهنة من ارتباط بالجانب الديني والفقهي، وتقاطع الكثير من مجالات اختصاصها مع فقه المعاملات، فقد اقتضى نظر جلالة الملك باعتباره أميرا للمؤمنين إحالة المسألة على المجلس العلمي الأعلى لإبداء الرأي فيها، حيث بعد اطلاع جلالته على رأي المجلس بجواز ممارسة المرأة لمهنة عدل، بناء على الأحكام الشرعية المتعلقة بالشهادة وأنواعها، والثوابت الدينية للمغرب، وفي مقدمتها قواعد الفقه المالكي واعتبارا لما وصلت إليه المرأة المغربية من تكوين وتثقيف علمي رفيع، وما أبانت عنه من أهلية وكفاءة واقتدار في توليها لمختلف المناصب السامية، فقد كلف جلالته وزير العدل بفتح خطة العدالة أمام المرأة و اتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق هذا الهدف. وهذا يكرس الخيار الديموقراطي الحداثي الذي اختارته المملكة لاسيما في مجال حقوق المرأة ورفع كل أشكال التمييز والحيف عنها، وتعزز مكانتها إلى جانب شقيقها الرجل، فالمرأة المغربية تتقلد اليوم أسمى المناصب في كل المجالات. بعد تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في العدالة الانتقالية، والاعتراف بالأمازيغية كمكون أساسي للهوية الوطنية، والإصلاح العميق لوضعية المرأة من خلال مدونة الأسرة، والتقييم الجريء للسياسات العمومية الوطنية، واقتراح الحكم الذاتي كحل واقعي وذي مصداقية لإنهاء النزاع حول الصحراء…أتى الدستور الجديد لكي يمأسس هذا النفس الإصلاحي في سياق تحولات دولية وإقليمية عاصفة، وتداعيات الربيع العربي الذي لازالت منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تعيش على وقع تداعياته. فبعد الخطاب الملكي يوم 9 مارس 2011، المحدد للخطوط الكبرى للتعديل الدستوري، تم تشكيل لجنة تقنية من الخبرات والكفاءات الوطنية، وهي اللجنة التي تكلفت بتلقي المذكرات والمطالب الدستورية لمختلف الفاعلين حزبيين، مدنيين، نقابيين…وإلى جانب هذه اللجنة تم تشكيل لجنة سياسية للمتابعة مثلت فيها جميع الحساسيات الحزبية وكانت الغاية منها خلق فضاء سياسي مواز لعمل اللجنة التقنية موكول له الحسم في الخلافات وتقريب الأطروحات المتباينة. وبعد استفتاء شعبي ديموقراطي حول مشروع الدستور ، اعتمدت المملكة وثيقة دستورية جديدة سنة 2011، تعد الأساس المتين للنموذج الديمقراطي التنموي المغربي المتميز؛ بل وتعاقدا تاريخيا جديدا بين العرش والشعب. وهو ما يتجلى فيعدد من المقتضيات الجديدة ، كدسترة الأمازيغية كلغة رسمية للمملكة، إلى جانب اللغة العربية و دسترة كافة حقوق الإنسان ، كما هو متعارف عليها عالميا، بكل آليات حمايتها وضمان ممارستها. وهو ما سيجعل من الدستور المغربي، دستورا لحقوق الإنسان، وميثاقا لحقوق وواجبات المواطنة ، والانبثاق الديمقراطي للسلطة التنفيذية، حيث تم الارتقاء بالمكانة الدستورية » للوزير الأول » إلى « رئيس للحكومة »، الذي يتم تعيينه من الحزب الذي تصدر انتخابات مجلس النواب؛ فضلا عن قيام سلطة برلمانية، تمارس اختصاصات تشريعية ورقابية واسعة ، و ترسيخ سلطة قضائية مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، تكريسا لاستقلال القضاء، ودسترة بعض المؤسسات الأساسية، و تعزيز آليات الحكامة الجيدة، و ترسيخ مبادئ الشفافية والمسؤولية والمحاسبة، وعدم الإفلات من العقاب، ودسترة مجلس المنافسة، والهيأة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة والوقاية منها. ينبغي التأكيد على أن موضوع إصلاح قطاع العدل يحظى بأهمية بالغة لدى جلالة الملك محمد السادس، وهي الأهمية التي جسدتها خطب عديدة لجلالته في مناسبات كثيرة، وتم تضمينها في التصريح الحكومي، وتجسيدها في برنامج عمل الحكومة. وهذه الأهمية تستتبع بالضرورة تحولا جوهريا في دور القضاء حتى يرقى إلى الحماية القانونية الفعلية لحقوق الإنسان، وإحكام الرقابة على الالتزامات والمعاملات في جميع المجالات، وتصريف القضايا بالسرعة المطلوبة والفاعلية المنشودة لإشاعة العدل بين الناس. لقد أصبح هذا التحول في طبيعة المهام القضائية في حاجة ملحة إلى ثقافة قضائية جديدة تستوعب كل القيم، وتعطي للأحكام الفاصلة في النزاعات المعروضة على المحاكم أبعادها المستمدة من مصدرين أساسيين، هما: أولا: الإطار الدستوري للمملكة الذي كرس مبدأ فصل السلط واستقلال القضاء، وحدد المرجعية التشريعية والأرضية القانونية التي نعمل جاهدين على تطويرها حتى تنخرط بلادنا في منظومة أرقى التشريعات المقارنة؛ وثانيا: الإرادة الملكية السامية لإصلاح منظومة العدالة المضمنة في الخطب السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس أيده الله أبرزها: -الخطاب الملكي ليوم 20 غشت 2009 بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب. -الخطاب الملكي ليوم 8 أكتوبر 2010 بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية. -الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 بمناسبة الإعلان عن الإصلاحات الدستورية و تقديم تقرير اللجنة الملكية الاستشارية حول الجهوية. وقد حدد جلالة الملك الأهداف المنشودة من هذه المقاربة المتقدمة لإصلاح القضاء في : – توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف، باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، وعمادا للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية. – تأهيل القضاء ليواكب التحولات الوطنية والدولية، ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الحادي والعشرين. -الاستجابة لحاجة المواطنين الملحة في أن يلمسوا عن قرب، وفي الأمد المنظور، الأثر الإيجابي المباشر للإصلاح. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف الكبرى، حث جلالة الملك الحكومة على بلورة مخطط متكامل ومضبوط، يجسد العمق الاستراتيجي للإصلاح، في محاور أساسية، تتمثل في ستة مجالات ذات أسبقية. وهي : – تعزيز ضمانات استقلال القضاء؛ – تحديث المنظومة القانونية؛ – تأهيل الهياكل القضائية والإدارية؛ – تأهيل الموارد البشرية؛ – الرفع من النجاعة القضائية؛ – ترسيخ التخليق. وقد أكد جلالة الملك في الخطاب الملكي السامي بشأن مسار الجهوية المتقدمة وتقديم تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية والإعلان عن الإصلاحات الدستورية ليوم 09 مارس 2011 على أهمية الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، إلى جانب تعزيز صلاحيات المجلس الدستوري، توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه. بالإضافة الى ذلك، فقد وضع جلالة الملك يوم 08 ماي2012 في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تنصيبه لأعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول الاصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، بكل دقة ووضوح، المرجعيات الأساسية لهذا الحوار الذي حدد له جلالته كهدف بلورة ميثاق وطني. وبعد حوار مثمر وإيجابي مع مختلف الفاعلين في قطاع العدالة، وضعت هذه الهيئة ميثاقا يتضمن ستة أهداف استراتيجية كبرى. وتتمثل هذه الأهداف في توطيد استقلال السلطة القضائية، وتخليق منظومة العدالة، وتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات، والارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء، وإنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة، وتحديث الادارة القضائية، وتعزيز حكامتها. وقد ضعت وزارة العدل خططا متكاملة ومضبوطة، تجسد العمق الاستراتيجي للإصلاح، وفق مقاربة شاملة ومتكاملة للمجالات الأساسية للإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة برمتها، وذلك على عدة مستويات : – دعم استقلال السلطة القضائية: تجلى ذلك بصفة أساسية في صدور القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والقانون المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض وسن قواعد لتنظيم رئاسة النيابة العامة. -تكريس النجاعة القضائية : من خلال تحقيق نتائج ملموسة لفائدة المواطن في مجالات ضمان مقومات المحاكمة العادلة، وفعالية ونجاعة القضاء وقربه، ونهج الحكامة الجيدة، وكذا ترسيخ الاحترافية، والشفافية، ونزاهة وجودة الأحكام، والرقي بمستوى الخدمات القضائية، وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم، وتبسيط المساطر والإجراءات القضائية فضلا عن تفعيل اللاتمركز لضمان الفعالية، والرفع من مستوى الخدمات الاجتماعية لقضاة وموظفي العدل. -تحديث المنظومة القانونية : حيث عملت وزارة العدل خلال سنتي 2017 و2018 على استكمال مجهوداتها في مجال تطوير وتحديث المنظومة القانونية سواء في المجال الجنائي أو المدني أو الاجتماعي أو المال والأعمال، وفي مجال حماية الملكية العقارية ومحاربة السطو على أملاك الغير. – تأهيل وتحديث الإدارة القضائية: تشتغل وزارة العدل على مشروع كبير يهدف إلى إقامة إدارة قضائية احترافية مؤهلة قائمة على اللاتمركز الإداري والمالي وإرساء مقومات المحكمة الرقمية وتحديث الخدمات القضائية والرفع من مستوى البنية التحتية للمحاكم، مع الانفتاح على المحيط الخارجي وتعزيز التواصل مع المواطن وكل الفعاليات المهتمة بشؤون العدالة. و بالفعل شرعت الوزارة في تنزيل مشروع التحول الرقمي، حيث يرتكز على أربعة محاور أساسية تتعلق بحوسبة كافة إجراءات تدبير القضايا، والتداول اللامادي للمعلومات ببين الفاعلين في مجال العدالة، وتطوير الخدمات عبر الخط لفائدة المواطنين والفاعلين الاقتصاديين، وتوفير البنية التحتية المعلوماتية القادرة على تخزين وحفظ المعطيات المتزايدة في الاضطرار وضمان انسيابية الخدمات واستمراريتها، بالإضافة إلى توفير كافة ضمانات الأمن المعلومياتي للأنظمة والمعطيات. وعلى مستوى تدبير ملف الهجرة ، وضعت المملكة سياسة جديدة للهجرة، يقودها جلالة الملك محمد السادس وتنفذها الجهات الحكومية بتعاون مع المنظمات العاملة في مجال الهجرة، تروم إلى تسوية أوضاع المهاجرين السريين المقيمين بالمغرب في سبيل إعادة إدماجهم وتمكينهم من حقوقهم الإنسانية، سواء في العيش الكريم أو الصحة أو التعليم أو الشغل ، وذلك انسجاما مع الالتزامات الدولية للمغرب في مجال الهجرة وحقوق المهاجرين. فبفضل هذه السياسة الجديدة التي دعا إليها جلالة الملك منذ سنة 2013، عملت السلطات المغربية على تسوية وضعية آلاف المهاجرين السريين، وغالبيتهم الساحقة من المهاجرين من جنوب الصحراء و الساحل ، إذ تمكنت هذه الفئة من الحصول على بطاقة الإقامة، فأصبحت تعيش بالمغرب بشكل قانوني، ومن الاستفادة من التعليم والتكوين المهني، ومن الحصول على الحق في العلاج في المستشفيات، والحق في السكن والعمل. إن السياسة الجديدة للمغرب في مجال الهجرة بمثابة استراتيجية إنسانية تهدف إلى تعزيز حماية حقوق المهاجرين واللاجئين بالمغرب، ما جعلها تحرز تنويها من لدن العديد من البلدان الإفريقية، التي أعربت عن دعمها وانخراطها الكامل في الدينامية التي أطلقها المغرب. كما حظيت بتقدير خاص من الاتحاد الأوروبي وقادة الأممالمتحدة (الأمين العام للأمم المتحدة والمفوضة السامية لحقوق الإنسان والمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين). كما أن هذه السياسة ، التي أشرف عليها جلالة الملك ، تعد سياسة حكيمة ورائدة، تمت من خلالها مراعاة المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التي صادق عليها المغرب، والاعتراف بشكل ضمني بأهمية المهاجرين في تطوير الاقتصاد الوطني، عبر اشتغالهم في مجموعة من المجالات الاقتصادية وانخراط البعض منهم في مشاريع استثمارية وترويج أموالهم بالمغرب. وعلى المستوى الاجتماعي ، جعل جلاله الملك للمجال الاجتماعي، كما هو الشأن بالنسبة للحقل السياسي مكانة مركزية. وفي هذا الإطار، جعل جلالة الملك من أولويات سياسته، تفقد كل جهات المملكة ، متتبعا في كل الأقاليم المشاريع والبرامج التنموية الهادفة إلى تكريس التضامن الاجتماعي و محاربة الفقر. و نشير في هذا الصدد إلى مبادرة التنمية البشرية التي أطلقها جلالة الملك في 18 مايو 2005 ، والتي تهدف إلى محاربة الفقر و تكريس التضامن الاجتماعي ،حيث تعد النموذج والمثال الحي للشراكة الثلاثية الناجعة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. هذه المبادرة التي أدمجها جلالة الملك في صميم السياسات الحكومية، تحولت إلى مدرسة للتكوين وللتنافس بين جهات المملكة على التدبير الأمثل والمعالجة الميدانية، بعيدا عن الممارسة البيروقراطية، للصعوبات المحلية التي يعانيها السكان وخاصة في المناطق البعيدة التي تفتقد ضرورات العيش الكريم. فضلا عن ذلك ، فإن هذه المبادرة بما حققته من منجزات ومكاسب شكلت إحدى الآليات الأساسية والمحورية في المجهود الذي بذلته المملكة لمحاربة الإرهاب والتطرف العنيف باعتبارها ساهمت في تمكين مجموعة من الشرائح الاجتماعية التي كانت تعاني من الهشاشة والتي تكون في الغالب مستهدفة ومعرضة أكثر للاستقطاب من طرف الجهات التي تحض على العنف والتطرف من الاستفادة من فرص الشغل التي أحدثتها ومن المشاريع المدرة للدخل التي تم إطلاقها وغيرها من المبادرات الأخرى . اعتمد المغرب ، منذ الهجمات الإرهابية التي وقعت في الدارالبيضاء في 16 مايو 2003 ، سياسة أمنية استباقية واستراتيجية متكاملة و ناجعة ضد الارهاب. ونذكر في هذا الاطار، الاستراتيجية الشاملة والمتعددة الأبعاد التي اعتمدتها المملكة في هذا المجال و التي ارتكزت على ثلاثة عناصر أساسية همت بالخصوص إعادة هيكلة الحقل الديني وتفعيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بالإضافة إلى دعم وتقوية المقاربة الأمنية . إن المقاربة الأمنية التي تشرف على تنفيذها المصالح الأمنية المغربية حققت نجاحات مهمة في صد الهجمات الإرهابية ومكنت المغرب بالتالي إلى جانب مجموعة من الدول الصديقة من تجنب العديد من الأعمال الإرهابية حتى قبل وقوعها ، علما بأن هذا المجهود الأمني الذي تبذله المملكة لمواجهة التحديات الإرهابية والتطرف العنيف لقي إشادات واسعة وتثمينا كبيرا من طرف العديد من الدول من فرنسا إلى إسبانيا مرورا بمنظمة الأممالمتحدة. وبخصوص إصلاح الحقل الديني في المغرب ، و الذي يسهر عليه جلالة الملك بصفته أميرا للمؤمنين ، فإن هذا الاصلاح ارتكزعلى مجموعة من الآليات منها تكوين الأئمة وتدبير المساجد وتكوين المرشدين والمرشدات إلى جانب تكريس وتجذير التنوع والتعدد في المجتمع المغربي عبر تثمين مختلف المقومات والروافد . وعلى مستوى السياسة الخارجية المغربية على الصعيد الافريقي ، يضع المغرب إفريقيا في صلب أولويات سياسته الخارجية و أن الملك محمد السادس لطالما دعا الى تنمية ذاتية لإفريقيا « ذات بعد إنساني » ، ترتكز على التعبئة الجماعية للبلدان الإفريقية لكسب رهان الوحدة وإرساء ريادة إفريقيا على المستوى الدولي . وهكذا ، فإن السياسة الإفريقية للمغرب تقوم على تعزيز شراكات مفيدة للطرفين مع البلدان الافريقية، وكذا على الانخراط الجاد للمغرب في خدمة قضايا القارة. وقد خصص التقرير للتنمية المستقلة لافريقيا،. فالاستقلال الذاتي لا يعني أن تكون مستقلا، وإنما يجسد قدرة إفريقيا على أن تقرر ما تريد لنفسها وأن تسمع صوتها في المحافل الأممية. وكان الملك محمد السادس قد ذكر، في خطابه أمام القمة ال 28 للاتحاد الإفريقي يوم 31 يناير 2017، « لقد حان الوقت لكي تستفيد إفريقيا من ثرواتها. فبعد عقود من نهب ثروات الأراضي الإفريقية، يجب أن نعمل على تحقيق مرحلة جديدة من الازدهار »، مضيفا: « بلدي اختار تقاسم خبرته ونقلها إلى أشقائه الأفارقة. وهو يدعو، بصفة ملموسة، إلى بناء مستقبل تضامني وآمن ». يتضح أنه رغم الجهود السياسية العظيمة على المستوى الداخلي، نجد جلالته يقوم بأنشطة مكثفة في المجال الخارجي، يأخذ الكثير من جهده وفكره، ومن المسلم به أن مثل هذه المداخلة لا تسع لذكر كل إنجازات جلالة الملك في مجال السياسية الخارجية. فعلى الصعيد الافريقي، نذكر بالخطاب التاريخي لجلالة الملك محمد السادس أمام قادة الاتحاد الإفريقي في يناير 2017، على إثر عودة المغرب إلى الحظيرة الافريقية ، حيث أكد جلالته بالمناسبة على أن المغرب لم يغادر إفريقيا، وإنما غادر مؤسسة إفريقية في ظروف تاريخية معينة. فالزيارات التي قادها الملك محمد السادس(نحو 30 دولة في 50 زيارة متنوعة) ، توجت بمجموعة من الاتفاقيات والمشاريع شملت مختلف المجالات والقطاعات الحيوية، وفي الإجمال بلغ عدد الاتفاقيات الموقعة بين المغرب والعديد من البلدان الإفريقية أكثر من 590 اتفاقية، ساعدت المغرب من توسيع نفوذه الاقتصادي والمالي في القارة. كما طور المغرب بفضل رؤية جلالته تصورا فعالا لتعاون جنوب-جنوب مع إفريقيا، حيث أصبح حاليا المستثمر الإفريقي الأول بالقارة الإفريقية . لقد أصبحت القارة الإفريقية تحظى بأولوية متقدمة في السياسة الخارجية المغربية، خصوصا بعد عودة المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، التي تمكن من خلالها من تطوير علاقاته مع دول القارة على المستوى السياسي والاقتصادي، ولم يعد مقعده فارغا كما كان من قبل.كما استعاد المغرب ، بفضل جهود جلالة الملك محمد السادس ، ثقة الدول الإفريقية في قدرة هذا البلد على توظيف إمكانياته وموارده لخدمة مصالح القارة في إطار من الشراكة المتكافئة وتعزيز بنية السلم والأمن في القارة. وتشير الدراسات حول نتائج التوجهات الجديدة في السياسة الخارجية المغربية تجاه إفريقيا إلى أن المغرب تمكن خلال أقل من سنتين، بناء على روابطه التاريخية مع القارة الإفريقية، من استعادة مكانته ودوره الرائد في الاتحاد الأفريقي من خلال حضوره و مشاركته في أجهزة الاتحاد و اللجان المتخصصة المنبثقة عنه ، كانتخابه مثلا عضوا في مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي. و على مستوى الإصلاح الإداري ، فكما شغل إصلاح الإدارة حيزا هاما في فكر الراحل الملك الحسن الثاني، فإن الملك محمد السادس لم يغيب هذا الأمر عن توجيهاته السامية وفي خطبه الملكية . ففي خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2000، أكد جلالة الملك على دفع بعجلة الإصلاح الإداري بكيفية قوية وفي هذا الصدد يقول: «إننا ننتظر من حكومتنا ترسيخ دولة القانون، بإعطاء دفعة قوية للإصلاح الإداري والقضائي، والسهر على تخليق الحياة العامة وثقافة المرفق العام، وسنتعهد برعايتنا السامية الموصولة هذا المفهوم الذي قطعنا الخطوات الأولى لتفعيله، والذي ينتظر بذل مجهودات متواصلة ومتأنية حتى يصبح تشريعات عصرية وثقافة متجذرة وسلوكا يوميا وفعلا تلقائيا». وهكذا أصبحت دولة القانون مرجعية مهمة في المنظور الملكي للإصلاح الإداري، إذ أن جل الخطب الملكية تؤكد على ضرورة بناء المجتمع الحداثي الديمقراطي وما يفرضه ذلك من تجديد وعقلنة أساليب الإدارة. وفي الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الإستراتيجية الوطنية لإدماج المغرب في مجتمع الإعلام والمعرفة المنظمة بتاريخ 23 أبريل 2001 أكد جلالته بأنه: «…سيظل إصلاح الإدارة العمومية وعصرنتها من بين الرهانات الرئيسية التي يطرحها تقدم بلادنا، إذ يتعين أن نوفر لأجهزتنا الإدارية ما يلزم من أدوات تكنولوجية عصرية بما فيها (الانترنت) لتمكينها من الانخراط في الشبكة العالمية..». كما تضمنت الرسالة الملكية الموجهة إلى الوزير الأول بتاريخ 9 يناير 2002 مايلي : «أن النهج القوي للإصلاح الإداري المنشود يستوجب تحديداً جديداً للأهداف المعينة على الجهاز الإداري تحقيقها». ومن أجل إعادة النظر في مهام الإدارة على ضوء التوجه الجديد للدولة، أكد الملك محمد السادس على ضرورة تأسيس تصور شمولي لمسألة التحديث الإداري بكل آلياته وقواعده، حيث احتل التواصل إحدى المجالات الأساسية لتحديث التدبير العمومي ، بالإضافة الى تبسيط الإجراءات وتحيين النصوص الإدارية وتحديث التدابير وتعبئة الآليات القانونية والتربوية والتواصلية للحد من البيروقراطية، ومن غلو السلطات التقديرية للإدارة واستعمال الوسائل الكفيلة للاعتناء بتكوين الموظف تكوينا مستمرا حتى تتسنى رقابة سلوكه ومجازاته إذا أحسن ومعاقبته إذا أساء ». وفي السياق نفسه يؤكد جلالة الملك أن دمقرطة الدولة والمجتمع لن تتم إلا بمحاربة جميع أشكال الفساد والرشوة والريع الاقتصادي وكذا تخليق الحياة العامة وتحسين مناخ الأعمال، وانتهاج الحكامة الجيدة بتفعيل المبادئ والآليات التي ينص عليها الدستور، وعلى رأسها ربط تحمل المسؤولية بالمساءلة والمحاسبة. وتخليق الحياة العامة بالتصدي لكل أشكال الفساد والرشوة والريع الاقتصادي والسياسي والاحتكار. كما أكد على أن الإصلاح الشامل والمندمج للإدارة العمومية يكتسي طابعا استعجاليا، داعيا إلى وضع مفهوم الخدمة العمومية في صلب النموذج التنموي الجديد. وأبرز جلالة الملك، في رسالة وجهها إلى المشاركين في الملتقى الوطني للوظيفة العمومية العليا، الذي افتتح أشغاله يوم الثلاثاء 27 فبراير2018 في الصخيرات، أن الإدارة المغربية، المركزية والمحلية على السواء، تمر اليوم بمنعطف جديد وحاسم، يتطلب من القائمين عليها الانخراط الحازم في عملية التحول الاقتصادي والاجتماعي التي تشهدها المملكة. وأشار إلى أن إصلاح الإدارة أضحى ضرورة بهدف الرفع من أدائها، وتوجيهها للتكيف مع المتغيرات الوطنية، واستيعاب التطورات العالمية، والمساهمة في رفع التحديات التنموية التي يواجهها المغرب. كما شدد على أن إصلاح الإدارة وتأهيل مواردها البشرية سيساهم لا محالة في إرساء الركائز الأساسية للنموذج التنموي وفي جعل الإدارة أداة فاعلة في تطوير السياسات العمومية في مختلف المجالات. النموذج التنموي الجديد، ففي افتتاحه للدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة للبرلمان 12 أكتوبر 2018، أكد الملك محمد السادس، أن « النموذج التنموي للمملكة أصبح غير قادر على تلبية احتياجات المواطن المغربي ». وأضاف الملك في خطابه أن « المغاربة اليوم يحتاجون إلى التنمية المتوازنة والمنصفة التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب، وتساهم في الاطمئنان والاستقرار والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية، التي يطمح إليها كل مواطن؛ كما يتطلعون إلى تعميم التغطية الصحية وتسهيل ولوج الجميع إلى الخدمات الاستشفائية الجيدة في إطار الكرامة الإنسانية ». ومن خلال خطابه، وضع الملك أسس تصور للنموذج التنموي الجديد المنشود، حيث ارتكزت على ضرورة تسريع تفعيل الجهوية المتقدمة ونقل الاختصاصات والكفاءات البشرية المؤهلة والموارد المالية الكافية. فضلا عن العمل على إخراج نظام اللاتمركز الإداري، وملائمة السياسات العمومية مع الخصوصيات المحلية. وركز أيضا على ضرورة إشراك كافة القوى الحية والفعاليات والكفاءات الوطنية في إعداد هذا المشروع الجديد انطلاقا من روح الدستور. فخطاب الملك حول النموذج التنموي الجديد، فتح نقاشا واسعا حول التنمية الاجتماعية والاقتصادية بالمغرب، حيث أصبح التفكير في نموذج تنموي جديد من صلب أولويات الحكومة والفاعليين المؤسساتيين والسياسيين وغيرهم. وعلى مستوى تنزيل الجهوية الموسعة ، فقد اختار المغرب الجهوية المتقدمة لتكون محور النموذج التنموي الاقتصادي الوطني ، لأن الجهوية مدعوة اليوم لتصبح مجالا ترابيا يملك صلاحية تدبير الشؤون المتعلقة بمستقبل المغرب، في إطار الوحدة الترابية للمملكة. فالجهوية المتقدمة ليست مجرد تدبير ترابي أو إداري، بل هي تجسيد فعلي لإرادة قوية على تجديد بنيات الدولة وتحديثها، بما يضمن توطيد دعائم التنمية المندمجة لمجالاتنا الترابية، ومن ثم تجميع طاقات كافة الفاعلين حول مشروع ينخرط فيه الجميع. كما أن الجهوية، في منظور جلالة الملك، ليست مجرد قوانين ومساطر إدارية، وإنما هي تغيير عميق في هياكل الدولة، ومقاربة عملية في الحكامة الترابية، فهي تمثل أنجع الطرق لمعالجة المشاكل المحلية، والاستجابة لمطالب سكان المنطقة، لما تقوم عليه من إصغاء للمواطنين، وإشراكهم في اتخاذ القرار، لا سيما من خلال ممثليهم في المجالس المنتخبة. وهكذا عرف المغرب صدور القانون التنظيمي للجهات ليساهم في تدعيم مكانة اللامركزية الجهوية،و التنصيص على مقومات ومبادئ تراعي الخصوصية المحلية وتنفتح على التجارب المقارنة و السعي لتحسين سبل استفادة المواطن من الخدمة العمومية والبحث عن كيفية إدماجه في تنمية ترابه المحلي ، مع ضرورة العمل وفق منهجية تشاركية لبلورة خطط، وبرامج جهوية لإدماج الشباب، و مراعاة التكامل، والانسجام مع الاستراتيجية الوطنية المندمجة للشباب، ومع برامج التنمية الجهوية. وتعتبر قضية الصحراء المغربية من القضايا الأولى التي يتبناها المغرب ملكا وشعبا، فقد أعلن المغرب في عام 2007 المبادرة المغربية للتفاوض حول الحكم الذاتي لمنطقة الصحراء، تميل هذه المبادرة، التي يقودها جلالة الملك محمد السادس،والمستوحاة من روح الانفتاح، إلى تهيئة الظروف لعملية حوار ومفاوضات تؤدي إلى حل سياسي مقبول للطرفين. هذه المبادرة، تحظى بتعامل إيجابي على المستوى الدولي، تدعمها الولاياتالمتحدةوفرنسا وإسبانيا والعديد من الدول والمنظمات من بينها منظمة عدم الانحياز، تحظى بتعامل إيجابي على المستوى الدولي لكونها أساس لأي حل لهذا النزاع في إطار سيادة المغرب ووحدته الوطنية والترابية. كما أن قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن ملف الصحراء تؤكد مصداقية وجدية المبادرة المغربية للحكم الذاتي، وتثمن جهود المغرب لحل هذا النزاع الإقليمي، و أن أكثر من 40 دولة عبرت في الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة، عن دعمها للمقترح المغربي. فقد عزز المغرب، بفضل توجيهات جلالة الملك، موقفه في قضية الصحراء من خلال مجموعة من المؤشرات على مستويات عدة لاسيما بالمنظمات الدولية والاقليمية ومواقف القوى الفاعلة، مشيرا إلى تراجع عدد الدول التي كانت تعترف بالجمهورية المزعومة من 80 دولة في التسعينات، إلى أكثر من 30 حاليا. وجدير بالذكر الى أن بعض وسائل الإعلام الغربية تتعمد مواصلة ارتكاب أخطاء وتضليل الرأي العام من أجل تبخيس ما تحقق في المغرب من إصلاحات كبرى، في الوقت الذي يواصل فيه جلالة الملك حفظه الله تحقيق الإنجازات على جميع الأصعدة. وفي هذا الصدد ، كشف أحد الكتاب الفرنسيين عن « عجز السياسي الجمهوري الأوروبي عن فهم مرونة حاكم يتميز بشعبيته وقدرته على توحيد صفوف شعبه، ونجاحه في ضمان التوازن في الصحراء الكبرى وإضفاء الطابع المغربي عليها. ولا يستطيع هذا الأوروبي استيعاب قدرة ملك المغرب على التحكم في صراعات النفوذ، وعدم اهتمامه بالتفاهات وتجسيده لنظام ملكي تنفيذي بصدد التحول من ديمقراطية شكلية إلى ديمقراطية حقيقية، ويري الكاتب أنه إذا لم يطالب أي شخص، حتى خلال الفترات التي توسّعت فيها رقعة الاحتجاجات الاجتماعية طيلة السنوات العشرين الماضية، بسقوط النظام، فإن ذلك يعود إلى الحب الذي يكنه الشعب لمحمد السادس « . إن ما تم ذكره من أمثلة بخصوص الإنجازات التي تحققت في عهد جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ،تعد قليلة ، بالنظر إلى حجم الإنجازات التي تحققت على أرض الواقع . *مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية