أخرجت فرقة بصمات الفن إلى الوجود عملا دراميا جديدا تحت عنوان طاح… راح" ، هي مسرحية من تأليف وإخراج إبراهيم ارويبعة ، تشخيص رشيدة كرعان، ابراهيم فمغليل و إبراهيم ارويبعة. إلى حسيتي بالحكرة ….خاصك تخوي طاح …. راح هي مسرحية باللهجة المغربية الدارجة، مزجت في لغويتها أساليب البلاغة والصنعة والبديع، تحتسي من بساطة اللغة ما يجعل المتفرج يواضب على الفرجة دونما تكلف أو بحث عن معنى يتيه هنا وهناك أو بين المفردات، اهتمت تارة بالكلام الموزون والمقفى الذي يرن في أدن السامع ويترسخ في الذاكرة وتارة بالحكي المسترسل المشحون بكثير من الأحاسيس المشَخصة بعمق من طرف شخصياتها. السيرك كشخصية معنوية وذاتية حضور يحضر السيرك في مسرحية "طاح … راح" كشخصية رئيسة ذات دلالات وأبعاد اجتماعية ، سياسية وفنية، فالسيرك متسم بالفرجة وكثير من البهلوانية التي تطبعه وتميزه عن غيره من الفنون بغرض إدخال البهجة والمتعة. للسيرك تمثلات وتمضهرات نفسية لدى الكبار والصغار، فهو مكان خصب يبحث فيه المتفرج عن لذة الفكاهة والمتعة ليخرج من معاناة الحياة اليومية ومشاكلها، هو فضاء للاسترخاء وشحن الذات وتفريغ كل ما هو سادي والبحث عن الخلاص لاستشراف يوم جديد دون مشاكل. إلا أنه يحضر شخصية ذاتية رئيسية رمزية من خلال الفضاء والديكور ، ذات سلطة متسلطة على من حوله، فهو فضاء مكاني افتراضي متخيل ومركز الصراع ودائرته داخل المسرحية، يتجلى ملمحا طاغيا على مجريات الحكي، يتخذ سلطته من خلال التمظهرات المتخيلة لدى الشخصيات ونسجهم صراعا حوله رغبة منهم في تحقيق السلطة وإثبات الذات، فماذا لو لم نعط لهذا السيرك ( الرمز) المفترض تلك المكانة المتخيلة في عظمته وعظمة من يتحكم فيه؟.ماذا لو اعتبرناه فضاء عاديا لا يؤثر ولا يتأثر؟ ينخرط السيرك في الفضاء اللعبي ويشكل بؤرة التوتر بين الفكاهة ومرارة التأويل في قالب يغمره الإحساس بالشتات والبحث عن رغبة التملك الممزوجة بكثير من الحب الأناني . كما يحضر داتاً معنوية وقناعاً يلبسه الممثلون لتبرير الصراع المفتعل قصرا والتمويه لتحقيق الخبث الكامن في الذاتية الفردانية للشخوص، وشماعة عليها تعلق كل الحيل لشرعنتها أمام مرآة الواقع وأمام الآخرين، هو ذات تسير ولا تُسيَّر، تتلاعب بخيوط الحكي ، تخلق صراعا بين الممثلين ثارة يكون فرديا من خلال معاتبة النفس ومخاطبتها ، وأخرى ثنائيا بين الشخوص للتحايل عن الآخر أو لخوض الصراع، وثارة أخرى يتجلى ثلاثيا بين الشخوص لإثبات الذات و التحاذق كلٌّ على الآخر حسب إرادته ورغبته الجامحة المتمثلة في امتلاك السيرك لتحقيق فعل السلطة. يتخذ السيرك ملمحا حربائيا بين الشخوص وفي الفضاء اللعبي. يفتح معالم من التأويلات، وإسقاط دال لمستويات متعددة على المجتمعات العربية ، يجسد حالة الصراع الهستيري اللامتناهي حول السلطة والتسلط، صراع الكراسي والمناصب، مع إشراك الشعب قصرا في اللعبة وإخضاعه لمتلازمة الديكتاتورية ( حاكم ومحكوم ) وهو هنا مجموعة من القردة والحيوانات في إيحاء كلاسيكي جميل للشاعر العراقي أحمد مطر في قصيدته " الثور والحضيرة" هو شعب منبوذ مقهور لا يستحق إلا الذل والانكسار. ينتصر السيرك في الأخير ليترك الصراع قائما بين الشخوص المتعاقبة عليه، ويحقق لنفسه لذة ونشوة الانتصار باعتباره مكانا مقدسا لا يمنح الفرصة لمن لا يحسن فن التدبير والتسيير، انتصار صوري يعكس الواقع ليتحقق فعل طاح … راح. الحب ومتلازمة الأحداث تأخذ المسرحية من الحب قالبا اعتمده المخرج " ابراهيم ارويبعة " شخصية معنوية أخرى داخل المسرحية. هو حب مصبوغ بكثير من الأنانية المطلقة والنرجسية المتوحشة، حطمت المفهوم التقليدي للحب، وأصبح سلاحا به تتقدم الأحداث وتتطور داخل متتالية الانتقام والرغبة في التحكم والسيادة، إن الرغبة الملحة ل" عمار" في اكتساب قلب وحب " المعلمة" لم تقف حدا أمام رغبته الجامحة في امتلاك السيرك وفرض سلطته الصورية عليه، إلا أن أنانيته وساديته جعلته يجسد رومنسية الذئب للنعاج، ويفضل حب التملك والتسلط على حب القلوب والأرواح في صراع يطبعه الكثير من الألم في حب الإثنين أو فقدان الإثنين. حب استغلته " المعلمة " رفقة " ماشينوا " للإطاحة ب" عمار " وإخراجه من دائرة السيرك ، إلا أنها سقطت في حبه وتملكها الهوى ليتخلى عنها " ماشينوا " بدوره في لحظة انتقام هستيري. للحب هنا طعم المرارة ، يحتسي من سموم الدنيا ورغبات متوحشة غايتها الاستغلال ووأد الآخر ، هنا لم نشهد حلاوة الحب المألوف، هنا الحب بضاعة، هنا الحب نرجسية تستكين في النفوس و تجسد حالة النفاق الاجتماعي ضدا في عالم أرسطوا، هنا الحب استغلال متبادل مبتذل مدلول مخنث لا يُخضِعك للتعاطف مع قيمه النبيلة، يلزمك الحياد والمشاركة عن بعد ومواكبة الإحداث عله يُغير من سيماته. لم ينتصر الحب في الأخير، بل أصبح ذميما منكسرا أمام رغبة " عمار " في السلطة والتسلط. البنية الشخوصية تتخذ شخصيات المسرحية عالمها من مكونات المجتمع العربي وتمتح منه علها تحقق غاية الانتصار للقيم . » المعلمة » شخصية محورية ومركز رحى الصراع الدائر. هي الوصية على السيرك والمالكة له، ذات شخصية متقلبة ، متذبذبة، هائجة تميل إلى حب الذات ،متسلطة بشيء من السذاجة، تعيش حالة الحيرة وعدم قدرتها على تسيير السيرك الذي ورثته ولم ترث معه آليات التسيير والديكتاتورية اللازمة لتحريك الناس ما يجعلها ضعيفة سهلة الميراث ، يرغب الكل في الانقلاب عليها و كسر شوكتها، يكمن هاجسها في رغبتها المفرطة في الحفاظ على مملكتها، تنخرط في اللعبة الذميمة على قيم الحب الذي تسقط فيه قهرا باعتبار ضعفها ووحدانيتها في مواجهة الطامعين في الملك بعد وفاة أبيها. « عمار » شخصية دينامية تتحكم في الخط الزمني للأحداث، تُسرعه، تبطئه، تتلاعب بكل شيء، هو المهرج الموكول له إمتاع الجمهور، متيم ب"المعلمة" آثر حب السلطة والمملكة والتملك على حبها ، يرغب في امتلاكها وامتلاك مملكتها، متثاقل في ردة فعله تجاهها، يتعامل بكثير من الدهاء والطنز البلدي مع مجريات الأحداث ، طامع في تحقيق الانقلاب وفرض سيطرته على المملكة، علاقته ب " ماشينوا" سطحية تتوحد في الانقلاب، ولكل طريقته في كيفية تحقيقه. يعيش " عمار" الثورة ضد المالكة للسيرك، محركه في ذلك تذمره من طريقة تسيرها وطمعه في مملكتها، تنتهي غطرسته بعدم الانتصار لنفسه ولا لحبه. نتيجة حتمية لكل من ينزع عن نفسه ثوب العفة والقيم النبيلة. » ماشينوا » شخصية تتخذ قوتها بتوالي الأحداث، تطل بكثير من الخفة والبداهة ، تسير الوقائع في هدوء تام، تعكس نمط الشخصية التابعة المتحايلة، تنبع حيويتها من الكاريزما التي منحها لها المؤلف ، خنوعة، مهيٍجة لباقي الشخوص، متواطئة ضد الكل، تحضر بقوة لحظة ضعف " المعلمة" تبحث عن التوازن لصالحها . علاقتها ب" المعلمة" عميقة ، تُظهر الخنوع لاكتساب ودها ، لها طريقة سلسة في الإقناع. أما علاقتها ب " عمار " يعتريها شيء من الغشاوة، يستميلها نحوه ويهيجها ضد " المعلمة" بلباقة متحاذقة. شخصية " ماشينو" ذات أقنعة متعددة، منافقة تواقة إلى الخديعة أكثر مما تبدوا عليه ، تكمن قوتها في براءتها وزئبقيتها في التعامل مع باقي الشخوص، لها تعامل أشبه بتعامل أبناء عمومتنا معنا، تُضمر المكر إلى النهاية، في الحقيقة هي المحرك الفعلي لوقائع المسرحية فلولاها لبدت عادية لا معنى لها. تعتبر العلاقة الصراع بين شخصيات المسرحية علاقة جدلية، تعيش حربا باردة في ما بينها تحت طائلة فرق تسد، هو مبدأ نهجته كل شخصية مع ذاتها في سبيل إقصاء الآخر والإنفراد بالمملكة الصراع، صراع يحتكم إلى تغيير معاني المفاهيم لتلبس ثوب الرذالة والإقصاء والنفاق مقابل قيم الحب والنبل. طاح .. راح، تعري نموذجا لواقع مُعاش بكثير من التمسرح تُعري « طاح .. راح » الواقع المُعاش في قالب ميلودرامي يمزج بين التراجيدية والكوميدية السوداء ، تسخر من الواقع، تقوضه لصالح أنانية سادية تطغى على سير الأحداث، أسلوب نهجه المؤلف المخرج ليسبر عوالم المجتمعات العربية بفنية متناهية، يجعلنا نتعاطف مع أبطالها ونكرههم في ذات الوقت، إحساس مُشبع بكثير من الفردانية وحب الذات، نتفاعل معهم ، ولا نحزن لأي منهم، ببساطة لأننا نرى فيهم مرآة لصورنا من داخل المجتمع، هي صور لا نحبها، نتعالى عليها ، نخفيها على أنفسنا حتى لا نعاتبها، مركبة تركيبا يمزج بين لعبة السيرك والسياسة، تحمل قيم الخبث والمكر والخداع ، تزيف المعاش لتفضح الواقع، تتناسل أحداثها تباعا لتبصق على أقنعة تزكم اليوميَ فينا ، أقنعة تتساقط في متوالية الحياة، تخلف وراءها صراعا لا يؤمن بالقيم، هي صراع القيم ضد القيم، تلعب فيها المأساة دور الملهاة، نهايتها أقرب إلى أوديب، حيث انتهت رغبة " المعلمة" في احتواء الإثنين بفقدان كل شيء في " السقطة التراجيدية" للأحداث بعد أن أودَى بها الغرور وحب ما لا يلزم. تطرح المسرحية سؤالا جوهريا معلقا بين السماء والأرض، يتجسد في العالم الثالث وتبحث عن المتعة التي يمكن أن يجنيها المرء من الحكم في دولة أشبه بجهنم، دولة لم يبقى فيها إلا الأشلاء وبقايا بشر منثور تحت الثرى، هي هستيريا الركض وراء السلطة والكراسي، حب القوة والتمظهر ، لا تعترف بأي شيء ولو حَكم جهنم التي لا زرع فيها ولا مطر، هو إغراء على ممارسة الحكم يغوي الناس بمحاولة المنافسة على السلطة ، هي سقطة تراجيدية أنهت آمال الأبطال في محاولة السيطرة على السيرك عن طريق المكر والخداع .