ليس من عادتي أن أخوض في سجالات محسوم من يقف وراءها، وليس من عادتي أن أرد الا على من تجاوز حدود اللياقة والأدب وظن أن السكوت – النابع عن الاقتناع المطلق باحترام الأخ والرفيق والصديق والزميل – يعتبر ضعفا او جبنا او خوفا من أشياء متخيلة. اسمحوا لي أن أتقاسم معكم جزءا من المواقف والادبيات التي يتعين على نخبنا المحلية والوطنية ان تعتمدها كآلية للاشتغال مع كافة المكونات التي تتقاسم معها جزءا من تدبير الشأن العام وتركب معها سفينة التنمية في بحر متلاطم الأمواج. قد نفهم او نتفهم توجيه دعوات المقاطعة ضد مؤسسات تجاوزت حدودا معينة، وقد نستوعب تأثر القدرة الشرائية للمواطن -الذي نحن جزء منه- بسبب جشع بعض كبريات الشركات والمؤسسات المختلفة الأشكال والإنواع، وقد نعي كون بعض المؤسسات التي تشتغل بوطننا الحبيب تقدم خدمات حيوية للمواطنين تبالغ في الضغط على الجيوب، وتضاعف أرباحها على حسابهم. لكن … !! ما يستعصي على الفهم والاستيعاب، هو ان توجه سهامك كسياسي ضد طرف سياسي آخر بناء على خلفيات تحكمها هواجس انتخابية لا أقل ولا أكثر، وتعمل على إطلاق معركة قذرة ضد أصناف معينة من المنتجات دون غيرها. ما يستعصي على الفهم هو ان يعمل الآخر / حامل مشروع الاستئصال الجديد على دهس كافة مقومات العمل المشترك بداعي الحرية، وضرب عرض الحائط جميع الأدبيات التي تفرض اجتناب منطق الاجثتات وخلط الأوراق وإلباس المؤسسات المواطنة لبوس الخيانة والتخوين ! ما يستعصي على الفهم هو أن نحكم المنطق الانتخابي في جميع التصرفات والسلوكات ضد مؤسسات تشغل وتتعامل مع أزيد من 400 ألف مواطن في عدد لا يستهان به من الأرياف والجبال والفيافي والمدارس والقرى المختلفة، ونرهن حساباتنا بالزمن الانتخابي ونبتعد عن ممارسة الفعل التنموي -الذي يعتبر أساس تواجد الهيئات المدبرة للشأن العام- بشراكة مع كافة الفرقاء الذين شاءت الظروف ان يجتمعوا لتدبير المرحلة سياسيا وإداريا وتنمويا. أين نحن من دعوات المقاطعة المبنية على اساسا حماية هوية الوطن والمواطنين من خطر التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن اختراقات السلع الاسرائيلية الموائد المغربية. أين نحن من النموذج الهندي الذي دعى من خلاله السياسي الكبير غاندي إلى مقاطعة الاستعمار البريطاني عبر حث المواطنين على استعمال المغزل اليدوي في صنع ملابسهم الخاصة، ولعل التاريخ يذكر مقولته الشهيرة « كلوا مما تنتجون والبسوا مما تصنعون وقاطعوا بضائع العدو »، والعدو هنا خارجي ودخيل على الوطن !! أين نحن من اليابان التي خرجت محطمة من الحرب العالمية الثانية، وأبى شعبها وفاعلوها السياسيون والحكام الا ان ينفتحوا على السلعة الوطنية ويقاطعوا شراء السلع الأمريكية رغم انتصارها العسكري في الحرب التي أتت على الأخضر واليابس، فعملوا على تقليص الاستيراد خارج اليابان، وتشجيع الصناعة والزراعة والخدمات المحلية والوطنية. أين نحن من دولة كوبا التي توجد على مشارف الولاياتالمتحدةالامريكية، عندما قالت لا لهيمنة البيت الأبيض على مقدراتها الاقتصادية، ومنعت لأزيد من اربعة أربعة عقود إقامة علاقات اقتصادية طبيعية مع الدركي الأقوى بالعالم، الى ان كبدت الشركات الأمريكية خسائر بملايين الدولارات. هذه بعض التجارب العالمية المضيئة للمقاطعة المؤثرة على قرارات السلم والحرب بين الدول الطاغية والشعوب المستضعفة، أما أن تقاطع منتجا وطنيا بخلفيات سياسية مقيتة -لان صاحبه او اصحابه يختلفون معي سياسيا وايديولوجيا – يشتغل فيه أبناء الوطن فهو لعمري خيانة وطامة كبرى سيؤدي ثمنها حتى المطبلون للمقاطعة. لكن … ! كيف يمكن ان تقنع أبناء الجلدة الواحدة بالابتعاد عن المزايدة الرخصية التي سيؤدي ثمنها الوطن بكلفة عالية وغالية، علما ان من يحرك دواليب السياسة عكس الاتجاه التنموي الراشد قد يشرب غدا من نفس الكأس، ويتجرع مرارة التأثير السلبي لهذه الدعوات، ويتأثر لا محالة غدا بنفس الأساليب التي ارتآى توظيفها ضد خصومه (إن جاز لنا ان نوظف منطق الخصومة في السياسة المغربية ) الأيديولوجيين والسياسيين !! بعضهم يأبى الاعتراف للآخر بالحق في الوجود والحق في الاختلاف، وبعضهم يرمي بسهام التخوين ضد كل المخالفين والملتزمين مع المواطنين في قضاياهم الحيوية، فيما يأبى البعض الآخر الصعود من القاع الذي ازدحم وتراكمت فيه كل الممارسات الحاطة. وعلى سبيل الختم، أقول رغم أن الحديث ذو شجون، إن الموقف الناقد للتّصرّفات السّلبيّة و الإيجابيّة بطريقة ودودة، يرمي من خلاله صاحبه الى تصحيح وتصويب أخطاء محتملة في حال وجودها، مرحب به لأنه سيؤدي لامحالة الى استمرار النجاحات وتصويب مسار الاخفاقات، أمّا الانتقاد الذي يرمي الى تصيّد مقصود للأخطاء بهدف إبراز السّلبيّات والنواقص والتغاضي عن الإشراقات الكثيرة بالوطن ، سيكتوي بناره مطلق النيران قبل الضحية الذي يتلقى طعنات غادرة ممن يدعي الصفاء والطهرانية مظهرا، ويعتمد الإقصاء والاستئصال منهجا وسلوكا..