31 ماي, 2018 - 11:14:00 لاشك أن المقاطعة الشعبية لبعض المنتجات الاستهلاكية ببلادنا تعد سابقة نوعية في تاريخنا المعاصر، وتعبيرا حضاريا عن انتفاضة سلمية في وجه غلاء المعشية وتدهور الخدمات الاجتماعية نتيجة اعتماد الحكومات المتعاقبة لاختيارات رأسمالية تستنزف باستمرار القدرة الشرائية للمواطنين وتعجز عن توفير الحماية الاجتماعية لفئات واسعة منهم، وتغدق بالمقابل على اللوبيات الاقتصادية والتجارية المتحكمة في السوق الوطنية بامتيازات ريعية تضاعف أرقام معاملاتهم التجارية على حساب جيوب الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وقد عرف التاريخ تجارب رائدة في المقاطعة الشعبية الاقتصادية، أشهرها الحملة الشعبية التي قادها المزارعون الإيرلنديون ضد وكيل الأراضي الزراعية لأحد اللوردات الانجليز، يدعى تشارلز كونينكهام بويكوت، والذي أطلق اسمه كمرادف لعملية المقاطعة التجارية أو الاقتصادية أو الاجتماعية منذ نهاية القرن التاسع عشر، ثم حملة الزعيم الهندي غاندى الذي دعا مواطنيه إلى مقاطعة البضائع القادمة من المستعمر بريطانيا، وحثهم على صنع ملابسهم بأنفسهم قائلا كلوا مما تنتجون والبسوا مما تصنعون، إضافة إلى الدرس الذي قدمه اليابانيون للبشرية من خلال المقاطعة الاستهلاكية والاقتصادية الواسعة للبضائع والمنتجات الأمريكية، البلد المنتصر في الحرب، وعملوا على تشجيع الاستثمار الداخلي والإنتاج الزراعي والصناعي والخدماتي ببلادهم. وفي حملة المقاطعة التي يعرفها المغرب منذ أكثر من شهر، والتي بدأ يكبر معها حجم الخسائر التي تتكبدها الشركات المعنية وتخوف المؤسسات الرسمية من اتساع رقعة المقاطعة الاقتصادية وتأثيرها على الاقتصاد الوطني، في ظل تمسك فئات واسعة من الشعب بممارسة هذا الفعل الاحتجاجي، وعجز الحكومة المغربية التي تبدو غير موفقة تماما في التفاعل مع هذه الحملة. فمنطق التجاهل والتخوين الذي تتعامل به الجهات الرسمية مع المبادرات الشعبية، ومنها حملة المقاطعة، منطق لا يستقيم ومناخ الانفتاح الذي يميز القرن الواحد والعشرين. إذ أن الشباب المغربي اليوم، وإن كان يعيش جغرافيا في مكان ما من المغرب ولو في القرى النائية من المغرب العميق، فإن الإمكانيات التي تتيحها وسائل الاتصال الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي تجعله مواطنا عابرا للحدود الجغرافية، مطلعا ومتفاعلا مع ما يجري حوله في العالم. وهي معطيات تمكنه من مقارنة مستويات الوضع الاجتماعي المعيش والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين. فأدوات التواصل الجديدة تعتبر عاملا قويا في إنجاح حملات التعبئة لعمليات المقاطعة، وتعطي للمواطن المستهلك مجالا للتضامن والانخراط الجماعي في تكتلات افتراضية لبلورة موقف أوفعل أو رد فعل معين بهدف ممارسته وتجسيده على أرض الواقع. ويتضح أن دافع المقاطعة الشعبية لبعض المنتجات الاستهلاكية ببلادنا يرتبط ببعدين أساسيين: أولهما يتمثل في مواجهة الارتفاع غير المعقول للأسعار وغلاء المعيشة في ظل غياب آليات حماية المستهلك أمام جشع بعض الشركات الانتاجية والتسويقية، أما البعد الثاني فمضمونه يجسد وعيا سياسيا رافضا لاستمرار زواج المال بالسياسة، ورافضا لنتائج الاختيارات الرأسمالية للحكومة المغربية وإذعانها لإملاءات المؤسسات المالية الدولية. وإذا كانت المقاطعة الاستهلاكية والاقتصادية تعبر عن سلطة "الفرد المستهلك" أكثر ما تعبر عن سلطة "الفرد المواطن"، فإن التكامل بين هذين السلطتين يمكن أن يفتح أفقا جديدا في عملية التغيير الديمقراطي السلمي والحقيقي ببلادنا، بشكل يضمن تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية وتوفير شروط العيش الكريم لكل فئات الشعب المغربي. فتأثير المقاطعة الاقتصادية يرتبط بحجم استعمال سلطة "الامتناع عن الاستهلاك" من طرف المواطنين باعتبارهم مستهلكين. وكلما كان انخراط المواطنين في حملات المقاطعة الاقتصادية مكثفا إلا وكان حجم تأثيرها كبيرا. لكن هذا التأثير يبقى محصورا على مجال السلع أو الخدمات موضوع المقاطعة، ولا يمس تأثيرها كل مناحي الحياة العامة. هذه الأخيرة، أي الحياة العامة، تتأثر بشكل كبير بمدى قدرة المجتمع على توسيع مساهمة "الفرد المواطن" والتي يمارسها من خلال سلطة "المشاركة السياسية"، التي لا تساهم فقط في التأثير على القرار السياسي أو الاقتصادي بل تصل إلى مستوى معاقبة وتغيير صانع القرار نفسه. ومعلوم أن عمليات الفساد الانتخابي والسياسي تزدهر كلما ضعفت سلطة "الفرد المواطن" عبر امتناعه أو عزوفه عن المشاركة الانتخابية، إذ إن سماسرة العمل السياسي ولوبيات الفساد الانتخابي يطمحون دائما إلى الإبقاء على نسب المشاركة الانتخابية في مستوياتها الدنيا حتى يتمكنوا من التحكم في النسبة القليلة المشاركة عبر الوسائل غير المشروعة. لكن اتساع هامش "المشاركة" الانتخابية المكثفة للمواطنين سيقوي سلطة "المشاركة السياسية" التي ستجعل مهمة التحكم في الخريطة الانتخابية مستحيلة، وتضعف تأثير عمليات التزوير وشراء الذمم، وتفتح بالتالي إمكانية أن تصبح السلطة السياسية بيد الشعب، عبر انتخابات ديمقراطية بنسبة مشاركة شعبية واسعة لانتخاب جماعات محلية تعبر عن توجهات المواطنين، وتفرز برلمانا يمثل فعليا الشعب وحكومة تحظى بالشرعية والسند الشعبي الواسع. وسيكون للإمكانيات التواصلية المتاحة اليوم دور كبير، على المدى القريب، في التأثير الفعلي سواء على مستوى القرار الاقتصادي والسياسي أو على مستوى صناع هذا القرار. وإذا كانت حملة "مقاطعون" إيجابية على مستوى تكريس ممارسة احتجاجية حضارية ستؤدي حتما إلى مراجعة بعض دوافعها، كمراجعة الأسعار أو تحسين جودة المنتوجات أوغيرها من الإجراءات، فإن حملة "مشاركون" في العمليات الانتخابية المقبلة ستربك حسابات لوبيات التحكم والفساد الانتخابي التي تفرز لنا صناع قرار لا تربطهم، في الغالب، أية علاقة بهموم الطبقات الشعبية. وكخلاصة بسيطة، فبقدر تمسك فئات واسعة من الشعب المغربي بخيار "المقاطعة" الاستهلاكية لبعض المنتوجات من خلال انخراطها الواعي في حملة "مقاطعون"، فإن هذه الفئات الشعبية المتضررة من نتائج الاختيارات السياسية غير الموفقة للحكومة المغربية، هذه الفئات نفسها مطالبة بالعمل على تقوية وتطوير خيار "المشاركة" السياسية في المحطات الانتخابية المقبلة عبر تبني الانخراط المواطن والمسؤول في حملة "مشاركون". ولا شك أن تكامل "مقاطعون" استهلاكيا، و "مشاركون" انتخابيا، والتي تجمع سلطتي "المواطنة والاستهلاك" في يد المواطن المغربي، ستفتح أفقا رحبا في اتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير شروط العيش الكريم لكل المواطنات والمواطنين وتملك مفاتيح السلطة السياسية والتحكم الشعبي في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والمساهمة في البناء الديمقراطي الحقيقي ببلادنا. محمد نبيل اسريفي، أستاذ جامعي، جامعة إبن طفيل، القنيطرة