يعاني الحقل السياسي المغربي هشاشة مزمنة على مستوى المشاركة السياسية في نطاقها الواسع مما ينعكس بشكل واضح على مستوى المشاركة الانتخابية كآلية من آليات المشاركة السياسية ومؤشر واضح على مدى تجذرها في سلوك ووجدان المواطن، لكن وقبل الخوض في مظاهر ومستويات هذه الظاهرة لابد من الوقوف أولا على مفهوم المشاركة السياسية وتحديد مستوياتها... المشاركة السياسية "هي مجموع الأنشطة والسلوكيات التي يقوم بها المواطن بصفة إرادية بغية إحداث نوع من التأثير المباشر أو غير المباشر على مستوى اختيار المنتخبين محليا ووطنيا والإسهام في صناعة القرارات المتخذة من قبلهم، وهو سلوك يفترض فيه أيضا تحقيق الشعور بالمواطنة وخلق نوع من التوازن بين الحقوق والواجبات كما يتيح للمواطنين إمكانية توجيه مطالبهم وحاجياتهم إلى صناع القرارات ومحاسبة ومساءلة القائمين على تدبير الشأن العام"[1]. من خلال هذا التعريف يتضح مدى ارتباط مفهوم المشاركة السياسية بالديمقراطية فكل منهما يؤسس للآخر ولا يمكن تصور وجود أحدهما بمعزل عن الآخر، مما يسهم في ترسيخ شعور عام بالمواطنة وما يقتضيه ذلك من حقوق وواجبات ومساهمة في تدبير الشأن العام. تتخذ المشاركة السياسية أنماطا وأشكالا متعددة تبدأ بمستوى الاهتمام بالشأن السياسي ثم الدراية والاقتناع لتنتقل بعد ذلك إلى مستوى الانخراط والممارسة... علما أن كل ذلك يبقى مشروطا بتوفر بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية رحبة ومنفتحة على كل الجهود والمبادرات دون إقصاء أو تهميش... إن تخلف هذه الشروط يجعل المشاركة السياسية تتوارى تدريجيا ليحل محلها العزوف، هذا الأخير أصبح ظاهرة اجتماعية تتكرر وتنمو وتتواتر عبر الزمان والمكان مما يجعلها فعلا مستحقة للدراسة والتأمل[2]. لكن وقبل التطرق لمظاهر هذا العزوف ومستوياته لا بد من الوقوف على مصطلح "العزوف" حتى نسجل بعض التحفظ في علاقته بالمشاركة السياسية بالمغرب لأن العزوف أولا يفترض وجود حرية واختيار في إطار شيء ممكن ومتوفر وليس في إطار صعب أو مستحيل. فإذا كان هذا المصطلح مقبولا ومتداولا في بعض التجارب الديمقراطية الغربية حيث آفاق وفرص الممارسة السياسية والديمقراطية وفيرة ومشرعة فإنها على العكس من ذلك تظل مسيجة ومغلقة بإحكام في الواقع المغربي، وبالتالي فإن استعمال مصطلح العزوف قد يبدو في غير محله، لأن الأمر ليس عزوفا إراديا بقدر ما هو إبعاد قسري وإقصاء. تجاوزا لإشكال المصطلح ، يبدو أن هذه الظاهرة أصبحت مستفحلة وبدأت تأخذ أبعادا ومستويات مختلفة تصعب الإحاطة بعواقبها ومآلاتها على المديين المتوسط والبعيد حيث أنها تجد أساسها في الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعرفه البلاد والذي يؤدى إلى جعل العمل السياسي منبوذا وغير مرغوب فيه بالنظر لاقترانه بقيم وأحكام سلبية أصبحت مترسخة في ذهن المواطن على اختلاف مستوياته تجاه النظام السياسي بشكل عام والمؤسسات المنتخبة بشكل خاص كرست صورة نمطية لمرشح انتهازي يسعى وراء مصالحه الخاصة ومؤسسة حزبية لا تفتح أبوابها إلا في المواسم الانتخابية ومؤسستين تشريعية وتنفيذية يبقى دورهما ثانويا في المشهد السياسي مقابل مؤسسة ملكية تنفيذية تتدخل في كل شيء دون رقابة أو محاسبة وهو الشعور الذي استفحل بشكل كبير خصوصا بعد "نكسة تجربة التناوب التوافقي". لقد افتقدت الثقة في السياسة والسياسيين خصوصا مع واقع الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية وقصور ومحدودية البرامج والمشاريع التنموية لتكون المحصلة عزوفا سياسيا شاملا . "في إطار هذا المناخ الموشوم بهشاشة العدالة الاجتماعية يشعر بعض المواطنين وكأنهم بمشاركتهم يزكون بعض مظاهر الفساد ويدعمون مصالح ضيقة لنخب اجتماعية واقتصادية وسياسية تتناقض في جلها مع مصالحهم الفردية أو الجماعية فيكون ملجأهم الانسحاب أو العزوف ومقاطعة السياسة وأصلها وعالمها"[3]. هكذا إذن يتخذ العزوف السياسي عدة مستويات وأنماط أهمها: 1 عزوف مجاني لا مبالي بالسياسة وبالسياسيين وغالبا ما يكون هذا الموقف له بواعث سيكولوجية وسوسيولوجية إلا أنه في الغالب يمثل أقلية واستثناء. 2 عزوف ناجم عن بدائل استقطاب متعددة تتجلى في الانشغالات اليومية، وبعض أشكال التدين والتصوف أو الانخراط في العمل الجمعوي والثقافي والأندية الرياضية والفنية... فقد أشارت دراسة لمركز الدراسات الاجتماعية والاقتصادية تحت عنوان "التسويق السياسي والواقع الانتخابي" أن 96 % من الشباب الذين شملهم الاستطلاع أكدوا عدم انتمائهم السياسي وأن 98 % غير منتسبين إلى أي نقابة عمالية[4]. وهم يفضلون هذه البدائل على العمل السياسي فيما يتردد آخرون على المقاهي والملاهي وتعاطي المخدرات وباقي مظاهر الانحراف أو التطرف. وفي هذا الصدد يقول الأمير هشام "مادامت القناعة لم تحصل لدى المغاربة بأن الانتخابات تمكنهم من التأثير على القرار السياسي والاقتصادي، فإنهم سيواصلون تفضيل وسائل أخرى للعمل والتعبير من قبيل الهجرة والتعاطي للأنشطة غير المنتظمة والتكتل في شبكات للتضامن"[5]. 3 عزوف ناتج عن عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية، حيث ارتفاع نسب كل من الفقر والبطالة والأمية في بلد له من الثروات والفرص الطبيعية والبشرية ما يجعله في وضعية أفضل، لكن سوء التوزيع وسوء التدبير على مستوى السياسات العامة جعل الفوارق تشتد وتتسع بين أقلية محظوظة تحتكر السلطة والثروة وفئة عريضة تعاني جميع أشكال التهميش والهشاشة ، فيما تراجعت وتآكلت الفئة الوسطى التي كانت إلى عهد قريب رائدة المشاريع والشعارات التغييرية والإصلاحية. "إن التغيير الاجتماعي له علاقة وطيدة بالتغيير السياسي وموقف المواطن من الممارسة السياسية رهين بمردودية هذه الممارسة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي"[6] كما أن الأرقام والنسب التي تصدر عن الجهات المختصة سواء المحلية أو الدولية لا تبعث على الاطمئنان، فنسبة الفقر تبلغ حوالي 15% من العدد الإجمالي للسكان خصوصا بالعالم القروي، والبطالة حوالي 27%، ونسبة الإنفاق العمومي على الصحة لا يتجاوز 1.2% من الناتج المحلي الخام حيث أن وفيات الأطفال تبلغ حوالي 40 حالة من كل 1000 مولود مقابل 5 فقط في بلجيكا و 7 في اسبانيا، أما وفيات الأمهات عند الولادة فتصل إلى 220 حالة في كل مائة 1000 ألف حالة مقابل 40 في الأردن و 10 في بلجيكا، ونسبة التسول خصوصا بالعالم القروي تصل إلى حالة واحدة في كل 150 شخص، أما الأمية في صفوف الكبار (أكبر من 15 سنة) فتبلغ حوالي 48 % فيما المتوسط العربي لا يتجاوز 21 % ... [7]. لقد صدر مؤخرا تقرير لمؤشرات التنمية البشرية صنف المغرب في المرتبة 129 من أصل 187 دولة وذلك خلف دول تعاني أوضاعا سياسية وأمنية خاصة كفلسطين والعراق ومصر...[8]. كل ذلك ساهم في الإعراض عن الممارسة السياسية والانتخابية بشكل خاص لأن المواطن ينظر إلى جدواها وفاعليتها من خلال مستواه المعيشي فالفقر والأمية عدوان لكل ممارسة ديمقراطية سليمة[9]. 4 عزوف موقفي: "مبني ومؤسس وواع بأهدافه ومراهناته السياسية والاجتماعية ويتوزع هذا الموقف بين عدة تيارات وقوى مجتمعية إسلامية ويسارية وأمازيغية يبقى أهمها موقفي كل من جماعة العدل والإحسان الإسلامية وموقف حزب النهج الديمقراطي اليساري . بالنسبة للأولى تعتبر المقاطعة حسب أدبياتها شكلا من أشكال المشاركة السياسية بل هي في عمق وصلب المشاركة السياسية وليس موقفا سلبيا. يقول الأستاذ فتح الله أرسلان الناطق الرسمي للجماعة عن المشاركة السياسية: "وأذكر أن العمل السياسي كما تفهمه الجماعة لا ينحصر في العمل الانتخابي -الذي رفضنا الانخراط فيه- ليس بموقف مبدئي لأننا من أنصار المشاركة في الانتخابات، لكننا نشترط أن تكون لهذه الانتخابات مصداقية وأن تؤدي إلى قيام مؤسسات حقيقية من برلمان وحكومة وغيرهما، أما إذا كانت الانتخابات مسرحية لا يستفيد منها، في أول الأمر وآخره، إلا النظام القائم، الذي يحتكر كل السلط فإننا نرفض ذلك"[10]. كما جاء في دعوة الجماعة لمقاطعة الاستفتاء على دستور 2011: "...إن الدستور المفروض لا يعطي المواطن أهم حق في الدولة الديمقراطية الحقيقية حق محاسبة ومتابعة من يحكم لأن كل السلطات جمعت في يد سلطة واحدة فوق الدستور، سلطة تتحكم في دين المواطنين ودنياهم دون حسيب ولا رقيب، مما سيؤدي إلى مزيد من إضاعة الحقوق وينعش الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويبقي المغاربة في حياة البؤس والقهر والفقر والبطالة، وانعدام المقومات الأساسية للعيش الكريم... ليبقى المجال مفتوحا لاستمرار احتكار حفنة من المفسدين لخيرات البلاد"[11]. موقف سيتم التأكيد عليه مرة أخرى في بيان المقاطعة الذي صدر بمناسبة الانتخابات الجماعية ل(4 شتنبر 2015) " .... أما في السياق المغربي، وللأسف الشديد، فإن المخزن يصر مرة أخرى على محاولة إلهاء القوى السياسية واستغفال الشعب المغربي والالتفاف على مطالبه بانتخابات صورية تكرس النزعة التسلطية وتفتح الباب واسعا للسلب والنهب والتلاعب بمشاعر المغاربة وإرادتهم دون حسيب أو رقيب من خلال مؤسسات شكلية وبرامج تنموية وهمية وعقيمة، ليس لها من وظيفة إلا إخفاء الوجه البشع لنظام الفساد والاستبداد"[12]. في مقابل موقف جماعة العدل والإحسان الذي يؤطره موقفها التقليدي من النظام السياسي القائم وعلاقتها المتوترة به منذ نشأتها، نجد حزب النهج الديمقراطي ذي المرجعية اليسارية يتبنى خيار المقاطعة كوسيلة للتعبير عن مواقفه السياسية سواء تعلق الأمر بالاستفتاءات الدستورية أو الانتخابات ويبرر عبد الله الحريف الأمين العام السابق للحزب هذا الخيار باعتبار" ما يجري في البلاد ما هو إلا استمرار لسنن النظام الاستبدادي السائد وبالتالي يجب مقاطعته كأقل ما يمكن أن يقوم به كل رجل ديمقراطي لأن الانتخابات ستعيد إنتاج نفس الممارسات السياسية السابقة التي تتسم بالفساد والقمع ومجابهة المطالب الشعبية بالصد والرفض"[13]. كما علل بيان للحزب قرار مقاطعته الانتخابات 2011 بأن ذلك "نابع من كون الانتخابات القادمة ستجري على أساس دستور مخزني ممنوح ومرفوض وتحت إشراف وزارة الداخلية ولوائح فاسدة وتقطيع مخدوم ونمط اقتراع في صالح الأعيان"[14].وجاء البيان الأخير للحزب الداعي لمقاطعة الانتخابات الجماعية شتنبر 2015 تأكيدا لمواقفه التقليدية: "...لهذه الأسباب كلها، لا نستغرب أن تكون أغلب الفئات الشعبية، خاصة الشباب، عازفة عن المشاركة في الانتخابات والمؤسسات الرسمية، وترى في ذلك عبثا واستخفافا وإلهاءً. وعزوفها سياسي بالأساس وليس انتخابيا، وسببه سياسات المخزن التي عملت منذ عقود على تجريف المشهد السياسي من كل جدوى ومصداقية"[15] من خلال ما سبق لابد من الإشارة إلى أن مقاطعة السياسة في إطارها الرسمي المؤسساتي لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها عزوفا سياسيا بل إنها أحيانا أقوى وأبلغ تعبير يتجاوز أثره أثر المشاركة العادية. يقول محمد ضريف: "الأكيد هو أن عملية التغيير في البلاد يساهم فيها سواء الذين يشاركون فعليا في هذه الانتخابات أو الذين قرروا المقاطعة أيضا"[16].