قد يبدو موقف مقاطعة الانتخابات في ظاهره صائبا، خاصة حين يعتمد على مبررات ظعف شروط تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، و شبه غياب رهان انتخابي، يهدف الى مشاركة فعلية في صناعة القرار السياسي واقتسام السلطة، مع أن ضعف هذين الشرطين يجب أن يكون حافزا للتدافع السياسي والانخراط في المجابهة من أجل توفيرهما وليس سببا في الانسحاب والمقاطعة. و عند النظر الى موقف المقاطعة هذا، من جانب نتائجه السلبية على الاحزاب والتنظيمات السياسية المقاطعة نفسها، وعلى واقع المواطنين الاقتصادي والاجتماعي، سينكشف على حقيقته الوهمية و جوهره الخاطئ ولا مردوديته السياسية ، و تكلفته التنظيمية الباهضة على هذه التنظيمات السياسية المقاطعة، فهذا الموقف الذي يتخذه الكثيرون عزوفا واهمالا، ويتبناه القليلون تحت تأثير دعوة بعض الاحزاب والتنظيمات المقاطعة، يتناقض- من وجهة نظرنا الخاصة- مع القواعد الموجهة للسياسة الشرعية، القائمة على مخالطة الناس وخدمتهم من كل المواقع و المجالات ، و مدافعة الفساد و المنكرات في كل القطاعات و الفضاءات، وبكل الوسائل الشرعية السلمية والامكانيات. هذا ما سنتناوله بنوع من التحليل و قليل من التفصيل، بدءا بفحص ما ترتب عن موقف المقاطعة هذا ، الذي دأبت على اتخاذه العديد من التنظيمات السياسية بالمغرب مند الاستقلال. و مرورا بطرح موقف المشاركة والمقاطعة في اطار أهم قواعد السياسة الشرعية. وصولا الى تحليل التداعيات الواقعة و المنتظرة لسلوك المقاطعة على الأوضاع الداخلية لهذه الأحزاب والتنظيمات. فالسياسة تقاس المواقف فيها بالنجاعة و المردودية التي تنتج عن القرارات و المواقف و السلوكات التي يتخذها و يمارسها السياسيون، أفرادا كانوا أو تنظيمات. وهذا ما يعرف حاليا في علم الادارة و التسيير بالتدبير بالنتائج. بمعنى ضرورة قياس و تقويم وتقييم المواقف السياسية بما يترتب عنها من نتائج ايجابية لصالح الشعب والوطن و المواطن ، ولصالح الهيئة السياسية المعنية بتلك المواقف التي تتخذها من كل القضايا و النوازل السياسية، في انسجام تام مع مبادئها، و هذا ما يسمى بالبراكماتية في السياسة، و البراكماتية هنا بمفهومها الايجابي، وليس بالمعنى الانتهازي الميكيافيلي. ومن هذه المواقف : موقفا المشاركة أو مقاطعة الانتخابات. فبالمنطق السياسي الصرف، وبالرجوع الى تاريخ المغرب السياسي يمكننا أن نتساءل على النتائج التي حققها المقاطعون للانتخابات في المغرب، منذ استئناف ما يسمى بالمسلسل الديموقراطي سنة 1976 من خلال مقاطعاتهم لجميع الانتخابات التي اجريت في المغرب. وهنا لابد من الادلاء بأمثلة عن هذه الهيئات التي اتخذت المقاطعة خيارها الى اليوم ، وعلى رأسها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، برئاسة المرحوم الاستاذ عبد الله ابراهيم، لقد كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية حزبا عتيدا مهاب الجانب، يتوفر على قواعد جماهيرية واسعة ( له دراع نقابي قوي هو الاتحاد المغربي للشغل - امتداد كبير في جيش التحرير - أطر عليا...) و نخبة سياسية مثقفة و نوعية، و مند جنوحه الى مقاطعة الانتخابات و سلوك جناح منه للأسلوب الانقلابي في الوصول الى الحكم، تعرض و هو في صراع مرير مع النظام لانحسار سياسي، و نزيف كبير في مختلف الجوانب، حتى أدرك المرحومين، عبد الرحيم بوعيبد و عمر بن جلون، الموقف سنة 1975، بتنظيم المؤتمر الاستنائي، ليعلنا عن تأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ويغيرا من توجه الحزب نحو الخيار والنضال الديموقراطي، ويشارك الحزب في الانتخابات منذ 1976، ويستعيد قوتها الجماهيرية والسياسية و تأثيره الفكري والثقافي وبذلك تم انقاذ تجربة سياسية يسارية و وطنية رائدة الانهيارو الاندثار. هذه التجربة التي قدمت الكثير للشعب المغربي من موقع المشاركة والمدافعة، ليبقى الاتحاد الوطني اطارا وقوقعة فارغة، مصرا على موقف المقاطعة الى اليوم، سائرا في طريق الانعزال ، وربما الاندثار، حيث لم يعد معروفا من طرف99,99 من المغاربة، بعدما كان هو الحزب الأول في المغرب، خلال سنوات الستينيات من القرن الماضي. أما اذا انتقلنا الى باقي التنظيمات اليسارية الجديدة، فوضعها التنظيمي و الجماهيري اليوم، رغم هامش الحرية الموجود حاليا، أسوأ بكثير مما كانت عليه سابقا، وهي تعاني ويلات القمع والمنع و الاعتقال، ولعل منظمة الى الامام الماركسية، خير مثال على ذلك ، حيث تشردمت بعد صراع قوي مع النظام، لتكون النتيجة هي العديد من التنظيمات والفعاليات، في منتصف التسعينيات الماضية، ولم يبقى منها اليوم سوى حزب النهج الديموقراطي بقيادة عبد الحريف، الذي لا زال وفيا لموقف المقاطعة، التي جعلته حزبا دون قواعد جماهيرية، ونفس الامر بالنسبة لمنظمة 23 مارس الماركسية أيضا، والتي لم يضمن لها الاستمرار سوى انتقالها الى المشاركة سنة 1983، عندما تحولت الى منظمة العمل الديموقراطي الشعبي، بزعامة المقاوم محمد بنسعيد أيت ايدر، وتبنت موقف المشاركة، لتتحالف فيما بعد مع بعض الفصائل و الفعاليات المنحدرة من منظمة الى الامام والاتحاد الاشتراكي، ليؤسس الحزب الاشتراكي الموحد، برئاسة بن سعيد أيت ايدر سابقا ومحمد مجاهد حاليا، هذا الحزب الذي شارك في الانتخابات السابقة لسنة 2007 البرلمانية و سنة 2009 الجماعية ، ويقاطع الانتخابات الحالية، مما أدى الى انسحاب العديد من المناضلين منه اليوم، ليشاركوا في الانتخابات في أحزاب أخرى، ومن المنتظر أن يعرف نزيفا من الانسحابات في المستقبل، لما قد يترتب من صراعات داخلية عن تداعيات مباشرة لموقف مقاطعة الانتخابات. ونفس المصير سقط فيه حزب الطليعة بعد انشقاقه من حزب الاتحاد الاشتراكي سنة 1982 ، حيث دخل في مسلسل مقاطعة الانتخابات، الذي جعله بدوره حزب صغيرا و منعزلا، بدون قواعد جماهرية، ولم يدخل الانتخابات الا سنة 2007، دون أن يحقق أية نتائج تذكر، وليعود الى المقاطعة اليوم مرة أخرى. اذن فمقاطعة الانتخابات لا تجلب للاحزاب السياسية الا الصراعات الداخلية بين المؤيدين للمشاركة و المناهضين لها، مما يؤدي الى الانشقاقات، كما حدث بمنظمة العمل الديموقراطي، حين انشق عنها الحزب الاشتراكي الديموقراطي، بقيادة عيسى الورديغي، بعد الاختلاف حول دستور 1996، أو ما يترتب عن ذلك، في أحسن الاحوال، من الانسحاب التدريجي للطرف الذي يشكل أقلية، مما يساهم في اضعاف الهيئات السياسية، خاصة اذا استحضرنا عنصر غياب الديموقراطية الداخلية بهذه الهيئات، في اتخاذ المواقف والقرارات و في انتخاب مسئوليها وهيئاتها التسييرية . هذا بعض أثر المقاطعة على الاحزاب و التنظيمات التي مارستها منذ أكثر من ثلاثة عقود . فالنتيجة هي التشردم التنظيمي، والانعزال الجماهيري. لقد كانت النتيجة الحقيقية لأزيد من ثلاثة عقود من مقاطعة المؤسسات المنتخبة من طرف جزء من اليسار هي المزيد من الضعف و التشردم و الانعزال، في الوقت الذي يزداد فيه النظام قوة وتمددا ليكتسح ويجرف العديد من نخب هذا اليسار نفسه، التي التحقت بالعديد من مؤسسات النظام الحقوقية والاجتماعية. في جملة موجزة لقد تغير المقاطعون ولم يتغير النظام. والنسبة لموقف التنظيمات الاسلامية من المشاركة في الانتخابات أومقاطعتها. فالمفروض فيه أن يكون مؤطرا برؤية شرعية واضحة. فالاصل في الشرع الاسلامي هو المشاركة و المخالطة، وليس المفاصلة والمقاطعة. ففي الحديث، عن يحيى بن وثاب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم هوأعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " (الحديث صححه الشيخ الألباني). فالمشاركة السياسية عامة ، وفي الانتخابات خصوصا، تدخل في اطار المخالطة والصبر على أذى الناس . وفي العمل السياسي يتم الاحتكام وجوبا الى قواعد السياسة الشرعية، و أهمها و أجلها على الاطلاق قاعدة " جلب المصالح و درء المفاسد " . فمقصد السياسة في الشرع هو "جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها"، ولذلك يجب أن يكون موقف المقاطعة أو المشاركة محكوما بهذه القاعدة الشرعية الجليلة. فهي تنقسم الى شطرين : الأول هو "جلب المصالح و تكثيرها"، وهذا هو ما يجب على الانسان أو الحزب الذي يتولى تدبير الشأن العام، من موقع التسيير أو المشاركة في التسيير، برئاسة الحكومة أو المشاركة فيها، أو يتحمل مسؤولية تسيير المجالس المنتخبة برئاستها أو المشاركة في تسييرها. و يشير الشطر الثاني من القاعدة الشرعية من خلال " دفع المفاسد وتقليلها" الى مسؤولية الأحزاب على التصدي و مقاومة الفساد و فضحه، اذا لم تستطع الوصول الى موقع المسؤولية والتسيير، مما يحتم عليها موقف وموقع المعارضة الناصحة و الناقذة و المصوبة ، أي أن وجودها في موقع المعارضة يفرض عليها دفع المفاسد ، واذا لم تستطع درءها بشكل كلي، فما عليها الا العمل على تقليلها. و من هذا المنطلق يجب الحكم على المشاركة من خلال المكاسب التي تتحقق منها لصالح الوطن والمواطن، في اطار قاعدة جلب المصالح، عندما يصل الحزب المعني الى موقع المسؤولية، ومن خلال دفع الضرر و رفعه كليا أو جزئيا بالتقليل من حجمه، بمحاصرة الفساد و فضح المفسدين، ومضايقة الاستبداد والتشهير بالمستبدين، من موقع المعارضة، ولا يمكن أن يتم ذلك بفعالية أكبر، وبنجاعة أكثر، و بمردودية أرفع، الا من خلال خيار المشاركة، والتواجد في المؤسسات المنتخبة بمختلف مستوياتها و مهامها، ومنها البرلمان و الحكومة و المجالس المحلية و الغرف المهنية . وما دامت هذه التنظيمات الاسلامية ليست بدورها سوى تنظيمات سياسية كغيرها من التنظيمات الاخرى غير الاسلامية. و جعل الاسلام مرجعية لها وحداثة تجربتها لن يجعلها في منأى عن الخضوع للسنن والقوانين الاجتماعية، التي تسري على باقي التنظيمات السياسية و المدنية. فسيرها على نفس مسلك التنظيمات السياسية المقاطعة، سيجعلها مستقبلا تعيش نفس أوضاع التنظيمات اليسارية المقاطعة، ولن تنفعها مرجعيتها الاسلامية في الحيلولة دون السقوط في نفس المصير، خاصة و أن موقف المقاطعة هذا، في غالب الأحيان، لا يقوم الا بتكبيل و تجميد العديد من الطاقات و الأطر الأكثر حيوية، التي تنضم الى هذه التنظيمات السياسية في بداية مسارها، وسرعان ما تغادر و تنسحب في صمت وهدوء، بعدما تشعر بنفسها معطلة و مكبلة، لعدم وجود فرص النشاط و العطاء والابداع، في مجالات البناء و الاشتغال على الملفات الحقيقية والميدانية، بانتاج البرامج و تقديم البدائل ، حيث يقتصر عمل هذه الاطر و الطاقات في صياغة خطب النقذ و الانتقاذ و انتاج خطاب المعارضة و الاعتراض. و تجميد الطاقات والكوادر داخل التنظيمات السياسية الذي يفرضه سلوك المقاطعة، وانسحابها في ما بعد، يجعل هذه التنظيمات كذلك غير جاذبة للأطر الجديدة على المدى المتوسط، و غير مغرية للطاقات الشابة ، على المدى البعيد، مما يحكم على هذه الاحزاب بالشيخوخة. ولعل أخطر ما في سلوك وموقف المقاطعة، هو أنها تقوم بتأجيل وتعطيل صعود و ظهور العديد من الأمراض الاجتماعية، التي تخترق التنظيمات السياسية، الى السطح و خروجها الى العلن، حيث تكون في حالة كمون خلال فترات المعارضة و المقاطعة، ولا تظهر للعلن الا من خلال المشاركة و الولوج الى المؤسسات. ومن بينها الرغبة الجامحة في احتلال المواقع المتقدمة، و الطمع في تصدر اللوائح، والتقدم الى المناصب. وحضوض النفس هذه، غالبا ما يتم صياغتها في قوالب منطقية، وبمبررات سياسية، و وفق مساطر تنظيمية، حتى تكون مقنعة، مما يفتح المجال أمام كل الاحتمالات، من الاعتراضات والانسحابات، و في أسوأ الحوات انشطار التنظيمات ، في ظل غياب الديموقراطية الداخيلة و الآليات الشورية لحسم الاختلافات، وقبل كل شيئ غياب الاستعداد النفسي بقبول النتائج و القرارات ، التي تسفر عليها الآليات الديموقراطية الداخلية داخل هذه الاحزاب و الهيئات، مع العلم أن أي تنظيم سياسي قد يكون منسجما ومتراصا، في فترات و مراحل المعارضة و فترات المواجهة مع النظام، و قد يكون موحد الرؤية و المواقف في وضع المعارضة والمقاطعة، حيث القضايا تكون كلية و محدودة، ولا تستوجب الجهود الكبيرة والاختلافات الكثيرة و الأراء المتعددة. هذا ما يكون مغايرا في وضع انخراط الحزب في خيارالمشاركة، حيث تتعدد القضايا وتتكاثر، وتكون أكثر تفصيلا وتدقيقا، مما يحثم كثرة الاجتهادات، و تكاثر الاراء، ومن تمة توسع حجم الاختلافات، مما يفتح الباب أمام الصراعات و الانشقاقات، في جو تغيب فيه الآليات الديموقراطية في اتخاذ القرارات داخل مؤسسات هذه الاحزاب و الهيئات. أما تأثير تلك المقاطعة على واقع والشعب و الوطن و المواطينين ، فيدفعنا الى التساءل عن ماذا استفاذ الشعب المغربي من مقاطعة الأحزاب و التنظيمات السياسية المشار اليها أعلاه من موقف المقاطعة، الذي نهجته تلك الأحزاب منذ بداية السبعينيات الماضية الى اليوم على أقل تقدير؟؟ هل استطاعت مقاطعة هذه التنظيمات والاحزاب للانتخبات أن تغير شيئا في واقع المغاربة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي شيئا ؟؟ فانسحاب بعض القوى السياسية، المنبثقة من رحم الشعب، من المشاركة في المؤسسات المنتخبة بمقاطعة الانتخابات، ترك المجال فارغا، و الفرصة سانحة، للمفسدين من المافيات الانتخابية واللوبيات الاقتصادية، للانفراد بثروات البلاد والعبث بها و تبذيرها ونهبها، ومكن هاته المافيات من ممارسة عبثها و نهبها وفسادها آمنة مطمئنة، من غير ازعاج و لا مضايقة، ولا ناه و لا منذر، و لا منتقذ ولا منقذ . فرغم الاحتجاج الذي تقوم به الأحزاب و التنظيمات المقاطعة من خارج المؤسسات، فانه قليل الأثر بالمقارنة مع هذا الاحتجاج نفسه لو مورس من داخل المؤسسات.، دون الحديث عما تحول المقاطعة دونه من التوفر على المعلومة و البيانات حول الملفات ذات العلاقة بتدبير الشأن العام. خلاصة القول أن موقف وسلوك مقاطعة الانتخابات في معظم نتائجه، من خلال ما تبث وتأكد من تاريخ تجربة المقاطعة بالمغرب مند الاستقلال، كانت وبالا على الاحزاب والتنظيمات السياسية التي اتخذت هذا الموقف، ولم تساهم بذلك في أي تغيير من واقع الفساد والاستبداد. وسلوك بعض التنظيمات الاسلامية لنفس النهج، بعيدا عن أهم القواعد الشرعية الموجهة للعمل السياسي، سيجعلها تلقى نفس مصير نظيرتها اليسارية التي سبقتها الى هذا الموقف وهذا المسلك.