هي قصة حب وعشق مرتبط بأولى التساقطات المطرية بمدن الشمال، ترتبط الوجبة تاريخيا بالبرد، وما إن يذكر البرد القارس في المخيلة الشعبية الطنجاوية، إلا وتحضر البيصارة كمنقدة ومخففة من وطئة شدة البرد، ومنعشة لأفئدة العديد من سكان الشمال، وخصوصا الطنجاوين منهم. بالأسواق الشعبية » كاسابراطا » أو « سوق الداخل » أو » الفندق » أو « السوق د برا » تصطف محلات ومطاعم لا تلبي حاجيات الزبائن إلا بوجبة البيصارة المعطرة بالزيت البلدي، وطبق الزيتون الحار، معلنة توحد كل الفئات الطبقية على مائدة واحدة. بسوق د البراني أو ما يصطلح عليه حديثا بساحة 9 أبريل، تجد محلا بسيطا معروف لدى كل ساكنة طنجة وخصوصا أبناء المدينة القديمة، لا يسع المحل إلا 8 زبائن و 4 زبائن بالخارج، يتناولون بنهم وحب « بيصارة الفول » التي تحمل في طياتها تاريخ هذا المحل الذي كان يلبي رغبات زبائنه منذ فترة الحماية، حيث كان الزبائن في « طنجة الدولية » آن ذاك من مختلف جنسيات العالم، لكن الإسبان الأكثر إقبالا على هذه الوجبة التي تكتنز تاريخ المورسكيين المغاربة المستقرين بشمال المغرب. داخل المحل، التقينا هشام شفيق، 35 سنة، متزوج وأب ولطفين، تناول وجبة البيصارة المعطرة بزيت الزيتون ويتأوه بلفظ الجلالة « الله »، هشام قال في تصريح « للصحراء المغربية » أنه يختار وجبة البيصارة في محل « العياشي » المتواضع ل3 مرات في الأسبوع كإختيار في وجبة الفطور، معللا ذلك لأسباب صحية لكون البيصارة تساعد على تنقية الجسم من الشوائب، وتسخن الإنسان خصوصا في فصل الشتاء. يقول هشام، أن وجبة البيصارة في المطاعم تختلف عن نظيراتها في المنزل، مضيفا أنه تربى منذ القدم رفقة عائلته على تناول هاته الوجبة، والتي يطبخها لأطفاله ومنزله كل نهاية أسبوع، مبزرا انها صارت تدخل ضمن الموروث الثقافي والطعامي لسكان الشمال الأصليين. وتبدأ الأسر الطنجاوية بتحضير وجبة إرتبطت منذ القدم بالبرد، نظرا لقدرتها الكبيرة على محاربته، فيما يبحث عنها أخرون في المطاعم الشعبية، المعدة خصيصا لتقديم هذا النوع من الوجبات، ف "البيصارة" وحدت الأغنياء والفقراء وتعد من أبرز الوجبات التي تؤثث الطاولة الطنجاوية سواء في وجبة الغذاء والعشاء، والفطور ايضا في بعض الحالات، حيث أن لذتها وفوائدها العديدة، جعلت منها الأكلة المفضلة لسكان الشمال، ودواء فعالا لنزلات البرد. وتعد البيصارة، عبارة عن فول مجفف مجروش يفضل أن يكون من النوع البلدي، تتم إزالة القشرة عنه ليتم طهوه في الماء مع فصوص من الثوم والتوابل وزيت الزيتون، وتقدم ساخنة مع خبز الشعير أو القمح، وبعض المرفقات من بصل وزيتون، وفلفل حار في بعض الأحيان. وللبيصارة، كغيرها من الأكلات العالمية الشهيرة، متخصصين يتقنون إعدادها ويتفنون في إضفاء لمساتهم الخاصة عليها، حيث نجد في مدينة طنجة محمد بلعباس صاحب المطعم المعروف "موتشو"، والذي إعتاد على تقديم هذا الطبق لأزيد من 39 سنة، إكتسب من خلالها زبناء أوفياء، وعشاق مولوعين تراهم جالسين بكراسي وطاولات مطعمه صيفا وشتاء. وبهذا الخصوص، يقول بلعباس، إنه قصته مع مهنة "البيصاري" إنطلقت عندما افتتح مطعمه الصغير سنة 1975، والذي ما زال يحتفظ فيه بطاولاته وكراسيه البسيطة، بقلب سوق كاسابراطا الشعبي، حيث أن الإقبال الكثيف على هذه الوجبة دفعه إلى الإستمرار ومحاولة تطويرها بإضافة توابل مختلفة تزيدها لذة. ويضيف بلعباس أن الزبائن يفضلون استهلاك هذه الوجبة ساخنة، مع بضع حبات من الزيتون وقطع صغيرة من البصل، لا سيما خلال وجبة الغذاء، بينما يفضلونها لوحدها خلال الفطور، مبرزا أن ما يتم تداوله من مهارة صاحبه في إعداد "البيصارة"، فضلا عن التكلفة الرخيصة للوجبة التي لا تتعدى 5 دراهم، هي العوامل التي تشجع الناس خصوصا من الفئات الشعبية على استهلاك هذه الوجبة بشكل واسع، بالإضافة لمذاقها اللذيذ، فإن للبيصارة منافع أخرى على المستوى الصحي. ويعتبر أخصائيو التغدية أن هذه الأخيرة تحتوي على الألياف والفيتامينات وكذا البروتينات، شأنها شأن باقي القطاني الأخرى، مؤكدا أن أهميتها تتجلى بشكل واضح في فصل الشتاء، نظرا للقيمة المضافة التي تقدمها لتوفرها على سعرات حرارية، تمد الجسم بالطاقة وتساعده على تفادي موجات البرد التي تعرفها هذه الفترة، معتبرين أن البيصارة أيضا مفيدة للقلب، ومانحة للجسم مناعة ضد الأمراض، حيث أن الأجداد أدركوا ذلك في وقت مبكر، قبل أن يؤكد ذلك الطب المعاصر، من خلال تجارب وأبحاث، أظهرت أهمية هذه المادة على المستوى الصحي. وسواء كان الفصل صيفا أو شتاء، فللبيصارة عشاقها في منطقة الشمال وكذا في بعض الدول الأوروبية التي تحتوي على جالية طنجاوية كبيرة، كما الحال في إسبانيا وبلجيكا، الأمر الذي يجعلها رمزا من رموز المنطقة، وموروثا يندرج ضمن الثقافة الشعبية، التي تذكر هؤلاء بموطنهم الأصلي.