في بداية هذا الأسبوع الذي نودعه، رحل بالعاصمة المغربية إثر إصابته بفيروس كورونا، أحد كبار رموز خطاب الحداثة في العالم العربي، من ظل طيلة حياته العملية رافعا لواء الدفاع عن العقل والحداثة، من خلال مساهمته الفعالة في تطوير وإشاعة الفكر الفلسفي في المغرب. ولأن أسئلة الحداثة وما بعد الحداثة في اتصالها بالواقع، هي أكثر ما استأثر باهتمامه وانشغاله، فقد استحق عن جدارة لقب "فيلسوف الحداثة العربية". ولد محمد سبيلا سنة 1942 بمدينة الدارالبيضاء، من عائلة متواضعة تتحدر من قبائل الشاوية (منطقة المداكرة). نشأ في الحي الشعبي "اسْباتة"، وتابع دراسته الابتدائية والثانوية بمسقط رأسه قبل أن ينتقل إلى الرباط كطالب بشعبة الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ثم طالبا بجامعة السوربون في باريس، حيث نال شهادة الإجازة في الفلسفة. وفي سنة 1992 حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة محمد الخامس بالرباط. وعرف كأحد أهم أساتذة الجامعة المغربية المشتغلين في حقل الفلسفة المعاصرة تدريسا وترجمة. زعيم طلابي مفوه انتمى محمد سبيلا مبكرا إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حزب المهدي بنبركة وعبد الله ابراهيم، اللذان تركا أثرهما الجلي على الطالب اليساري سبيلا، فاعتبرهما بالنسبة إليه يمثلان رائدا حركة التنوير في المغرب. إلا أن دينامية محمد سبيلا وطموحاته الأولى في الزعامة الطلابية والنضال الحزبي ستتعرض للفرملة وللحد، عندما كان مرشحا قويا لرئاسة المنظمة الطلابية "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب"، خلفا للزعيم الطلابي محمد الحلوي، الذي تم اعتقاله واقتيد للتجنيد الإجباري في 1965، السنة التي بدأت بانتفاضة شعبية كبرى في المغرب (23 مارس)، وانتهت باختطاف واغتيال الزعيم المهدي بنبركة في باريس (29 أكتوبر). من عرفوه في شبابه في الفترة التلاميذية والجامعية، يحكون أن محمد سبيلا كان طاقة جبارة هائلة وشعلة حيوية. ممتلئا بالحماسة الثورية. وعضوا نشيطا في جمعية "نادي الوعي" التي ضمت العديد من الأطر الشابة التي ستؤسس المنظمة السرية "حركة 23 مارس" الماركسية. في أوج انتفاضة مارس 1965 بكلية الآداب بالرباط، وفي ظل سنوات الرصاص واشتداد آلية القمع، برز سبيلا خطيبا مفوها "تهتز لخطبه النارية الجدران". هكذا ولد "زعيم طلابي من دون منازع". يشهد اليساري أحمد الحدجامي أن "جماهيرية محمد سبيلا تجاوزت كل الزعامات الطلابية المتواجدة في الساحة حينذاك، باستثناء رئيس المنظمة الطلابية محمد الحلوي الذي كان في السجن. وكانت كل المؤشرات تذهب إلى أن سبيلا يتجه ليكون المرشح رقم واحد لخلافة الحلوي في المؤتمر الحادي عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب". ويتابع: "هنا تحركت الآلة الحزبية بكل ثقلها وعلى أعلى مستوى لإيقاف هذا المسار. فاستخدمت كل الذرائع لإسكات صوته وإبعاده من الساحة النضالية الجماهيرية والسياسية". ويختم الحدجامي شهادته بالقول: "كان يجب انتظار سنوات وسنوات قبل أن تنجب لنا الأقدار محمد سبيلا الفيلسوف الحداثي المتميز الذي يعرفه الجميع ويقدره حق قدره". برز سبيلا أيضا في صفوف حزب المعارضة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كإطار محرِّك ومُجادل قوي، إلا أن "مؤامرات حزبية صغيرة" حالت دون ذلك. ولم تكن من وسيلة للحد من صعود سبيلا سوى إشاعة كونه "بوليسي". كانت هذه الكلمة الصغيرة كفيلة كي تعصف بكل مساره النضالي في الحزب وفي النقابة الطلابية. وكم هم الذين تم إيذاؤهم وظلموا بمثل هذه التهمة الرخيصة، فتم إقصاؤهم أو قرروا هم الابتعاد. ويصعب إحصاء أعداد الاتحاديين واليساريين الذين جمدوا نشاطهم وتواروا إلى الظل بعد انتقاداتهم لتوجهات الحزب ومواقفه، واتهموا ب"البوليسية". تأسيس أكبر حزب فلسفي عاد سبيلا إلى الحزب مرة أخرى، وقد يكون لأصدقائه الفلاسفة دور في العودة، وعلى رأسهم محمد عابد الجابري وسالم يفوت وعبد الرزاق الدواي ومحمد الوقيدي وعلي أومليل، وسواهم من أساتذة الجامعة المنتمين لحزب الاتحاد الوطني (الاشتراكي). لكن الفترة لم تطل به حتى ابتعد عن الحزب ليلوذ بالفلسفة وبالبحث الفكري، دون أن يهمل الاهتمام بالشأن السياسي ومتابعته. ويحضر بهذا الصدد اسم المسؤول عن التنظيم الحزبي ونائب الكاتب الأول للاتحاد محمد اليازغي، الذي أصبح في بداية الألفية كاتبا أول للحزب (2002- 2007)، ثم جرى تعيينه وزيرا في حكومة التناوب برئاسة عبد الرحمان اليوسفي وفي حكومتي التكنوقراطي إدريس جطو والاستقلالي عباس الفاسي (من 1998 إلى 2012). إذ يتهم اليازغي بكونه من كان وراء إبعاد وطرد محمد سبيلا من التنظيم الحزبي. ومن مكر الصدف أن اليازغي ذاته، هو من كان وراء استقالة محمد عابد الجابري من المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وابتعاده عن العمل الحزبي المباشر، حيث أن الجابري منذ استقطابه من طرف المهدي بنبركة في نهاية الخمسينيات، برز كقائد حزبي وظل يشتغل مسؤولا عن إعلام الحزب، من صحيفة "التحرير" إلى يومية "المحرر". وضمن هذا الإطار استطاع الجابري أن ينهض بعمل كبير في تحرير بيانات الحزب وتقاريره وافتتاحياته الجدالية، وأدبياته السياسية والفكرية. فالجابري من قام بصياغة التقرير الإيديولوجي سنة 1975، وهو من حرَّر البيان السياسي للمؤتمر الوطني الثالث (1978)، الذي حالت الرقابة دون نشره، كونه تضمن مطلب "الملكية البرلمانية". وهذا جانب هام في مسار المفكر محمد عابد الجابري لم يحظ حتى الآن بالبحث والتوثيق والعناية الواجبة. وكما يقول المثل السائر: "كم من نقمة في طيها نعمة". فقد عاد "طرد وإبعاد" محمد سبيلا من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالخير على الثقافة والفكر في المغرب والبلاد العربية. نفس الأمر بالنسبة لاستقالة الجابري، حيث تفرغا للكتابة وللفكر بعد اعتزالهما العمل السياسي وتفرغهما للبحث الفكري والأكاديمي. عوَّض سبيلا الخيبة والمرارة التي عانى منها بالتحول إلى واحد من أكبر الفاعلين في المسار التحديثي في المغرب، بل تمكن من "خلق أكبر حزب فلسفي"، كما يصفه الباحث نور الدين أفاية. وأصبح فاعلا مدنيا كبيرا، أسس جمعية فلسفية، وأدار مجلة "مدارات فلسفية" على مدى أعدادها الصادرة طيلة 18 سنة، إلى جانب انشغاله بالتدريس الجامعي والبحث والتأليف والترجمة في مجالات الفلسفة والعلوم الإنسانية، وأصبح من أبرز الذين انكبّوا على دراسة مفاهيم وقضايا كالحداثة والتحديث والنَّزعات الأصولية وحقوق الإنسان والديمقراطية والتقنية وما بعد الحداثة. لا محيد عن الحداثة إن الحداثة لدى المفكر محمد سبيلا تندرج في إطار منظور استراتيجي بوصفها مدخلاً أساسياً للتفكير في جوهر المعضلات السياسية والاجتماعية والفكرية، ومسار يفرض نفسه كطريق لا محيد عنه. وهي تشكل قضية مركزية بالنسبة للمدرسة الفلسفية المغربية. وفي رأيه أن المغرب دخل في سيرورة الحداثة سياسياً وفكرياً. وأن "الحداثة على المستوى التقني قابلة للتعلم، غير أنها أصعب على المستوى الفكري". إذ "ليس هناك وصفة أو أفكاراً جاهزة للحداثة، بل هناك اجتهادات". وفي نظر سبيلا ليست "ردود الفعل العنفية في المجتمعات العربية سوى تعبير على أن هذه المجتمعات "دخلت في التحديث السياسي والاقتصادي بسرعة أكثر من التحديث الثقافي والفكري". من هنا اهتمام المفكّر سبيلا بنقد الحداثة وأوهامها، انطلاقا "من زاوية الحياة ومشكلات التربية والسعادة ومُقاوَمة العجز". فالحداثة هي الثورة الصناعية، وهي سيادة العلم والمنطق العلمي في طريقة التفكير، وهي الأداء الديمقراطي في مجال السياسة وتدبير الشأن العام. وكما أوضح سبيلا في إحدى محاضراته، حيث أن "انتشار فكر الحداثة يسير بوتيرة أبطأ من انتشارها تقنياً". ويؤكد سبيلا أنه "إذا كان للمثقفين في الغرب العذر في انتقاد الحداثة والدعوة والتنظير لما بعد الحداثة لأنهم عاشوها واستفادوا منها لمدة ثلاثة قرون وفي إطارها حققت بلدانهم الكثير من التقدم فلا عذر للمثقف العربي أو المغربي في رفض الحداثة لأننا في بداية الانخراط فيها ولأننا نحن المستفيدون منها بالدرجة الأولى ولسنا ضحاياها، ولأننا عندما نلتفت حوالينا فإننا نجد أن ما يحيط بنا هو ما قبل الحداثة". سبيلا واليسار والإرهاب يصح عن محمد سبيلا، ما قال هو مرة عن رفيقه محمد عابد الجابري: "رغم تفرغه للفكر والثقافة فقد كان له نوع من الحنين القوي للعمل السياسي وانتمائه إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية". وكمثقف ملتزم، كان يستجيب لدعوات جمعيات المجتمع المدني، وكان له حضور ورأي في صراعات اليسار، وهو على فراش المرض تابع مؤشرات انفراط عقد فيدرالية اليسار الديمقراطي، إذ سبق له أن قال في مداخلة حول "اليسار والحداثة": "اليسار اليوم في حاجة إلى إعادة اللحمة التاريخية لمكانها ومعانقة الأفق الفكري الذي تشكله إسهامات المدرسة الفلسفة الحداثية المغربية". لذلك فإن الحركة اليسارية، في رأي سبيلا "مدعوة إلى النهوض من رمادها والانفتاح على عطاءات المدرسة الفلسفية الحداثية المغربية التي انبثقت من صلب الصراع السياسي". لكن بعض اليساريين اتهموا محمد سبيلا بالردة وبالرجعية. مثل المعتقل السياسي السابق عبد الرحمان النوضة، (من القيادات التاريخية لمنظمة "إلى الأمام" الماركسية)، الذي لم يتردد في نعت اجتهاد محمد سبيلا ب"العمل اليميني، والتِّيه الفكري، والانحراف القِيمي". وأضاف عبد الرحمان النوضة إن "انحطاط أفكار محمد سبيلا ترتبط عضويا بالانحطاط السياسي والأخلاقي الذي سقط فيه حزب الاتحاد الاشتراكي، رغم أن محمد سبيلا ابتعد عن هذا الحزب منذ سنوات". ويأتي هذا الرد العنيف على تصريحات لمحمد سبيلا ورد فيها: "الاشتراكية هي مجرّد وهم". وأن "المناضل الاشتراكي لا يختلف في جوهره عن الإرهابي الإسلامي". * كاتب مغربي