الشامي: 8.5 مليون مغربي ما زالوا خارج التغطية الصحية والقطاع الخاص يلتهم نفقات العلاج    سيناتور أمريكي يدعو لإنهاء تواطؤ بلاده في الإبادة الإسرائيلية بغزة    تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    الجامعة تُهنئ نادي الجيش الملكي بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا للسيدات    الكاف" يعقد اجتماعا بتنزانيا شهر دجنبر القادم    نادال يودع ملاعب التنس بعد مسيرة دامت ل 20 عامًا    ابناء العرائش بالمهجر مدريد ينظيمون انشطة رياضية متميزة تهدف إلى بناء جيل صاعد يرتقي بالوعي بالقيم الوطنية في دكرى المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال    إلياس المالكي يعود إلى السجن..    طفلة برلمانية تحرج وزير الصحة حول ضعف الاهتمام بالصحة النفسية للأطفال في المناطق النائية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    تصنيف عالمي يرصد تواضع أداء "البنية التحتية المعرفية" في المغرب    صحة المغاربة في الميزان بعد اكتشاف مادة خطيرة في معلبات التونة    المجلس الاقتصادي: متوسط كلفة مريض في القطاع الخاص تفوف نظيره بالقطاع العام خمس مرات    حوادث تخلف 36 قتيلا في مدن المغرب    طنجة: حريق في ليلة ماطرة في أحد مصانع النسيج    "الهجرة السرية" تستنفر درك الجديدة    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    مجموعة "العدالة والتنمية" تطلب رأي مجلس المنافسة في مدى احترام الفاعلين في قطاع الدواجن للمنافسة الشريفة    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    أزروال يواصل تحفيز ودعم لاعبي المغرب التطواني للعودة من ديربي الشمال بانتصار    بعد ‬أن ‬وصل ‬بالملف ‬إلى ‬المنغلق ‬و‬حرض ‬على ‬الإرهاب.. دي ‬ميستورا ‬أصبح ‬جزء ا‬من ‬المشكلة ‬ولا ‬بديل ‬عن ‬الرحيل        فرح الفاسي تكشف ل"القناة" تفاصيل إدمانها القمار في "آخر اختيار"    وسط إنزال أمني مشدد.. المجلس الجماعي للقنيطرة ينتخب مكتبه الجديد    ملكة الأردن رانيا ترد بطرافة على طلب طالب جامعي    محاميان مغربيان يطالبان بإعتقال ومحاكمة نتنياهو بتهمة الإبادة الجماعية في غزة    مجلس المستشارين يشرع في المناقشة العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2025    السفارة المغربية ببلجيكا والقنصلية العامة بأنفيرس تنظمان حفل استقبال بمناسبة عيد الاستقلال    وقفة احتجاجية بالرباط للتنديد بالإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة    نائبة أميركية ترفض "متحولة جنسيا" في مراحيض النساء    أستراليا تواجه جذب منصات التواصل الاجتماعي للأطفال    نقابة تعليمية تطالب بإسقاط الأحكام القضائية ضد أساتذة    المغرب يصدر سنويا 700 ألف سيارة لأكثر من 70 دولة    الذهب يواصل الارتفاع مع تراجع الدولار    الطريق السريع تزنيت–الداخلة.. شريان تنمية جديد للصحراء المغربية أبهر العالم    بسبب "فضيحة" عقد 62 مليون سنوياً مع فندق.. حماة المال العام يطالبون النيابة العامة بالتحقيق مع الميراوي    زيلينسكي يحذر من أن بلاده "ستُهزم" إذا قطعت عنها واشنطن المساعدات العسكرية    المنتخب الوطني لمواليد 2000 فما فوق يتعادل مع المنتخب الإيفواري في بنجيرفيل        إغلاق مئات المدارس بسبب التساقطات الثلجية القوية بالمملكة المتحدة    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    أوكرانيا تستخدم صواريخ "أتاكمس" الأمريكية في ضرب الأراضي الروسية..    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    وجبات "السيبيا" ترسل أزيد من عشرة أفراد للمستعجلات في اشتوكة    ليدي غاغا سحبت قبالة واحدة من أفضل عروض الوقت الحقيقي من أي وقت مضى    "اليونسكو" تدرس إدراج الحناء في قائمة التراث الثقافي غير المادي    وزارة الصحة الروسية تطلق اختبارات سريرية لعلاج جديد لسرطان الدم    في تأبين السينوغرافيا    صحتك ناقشوها.. إضطراب النوم / الميلاتونين (فيديو)    عرض الفليم المغربي "راضية" لمخرجته خولة بنعمر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الفتاح نعوم | محنة حراس الحانات في أواخر العمر
نشر في القناة يوم 30 - 01 - 2020

كان المساء قد آل إلى نهايته، وكانت معظم وسائل النقل الرابطة بين العدوتين قد توقفت عن العمل، لكن الرباط كانت ماتزال تعد سلا بإيفاد الكثيرين نحوها، فليس كل من يقصد العودة إلى مسكنه في سلا ملزم بالانصياع لمواقيت عمل « الطرام » والحافلات، سيارات الأجرة الكبيرة وسيارات النقل السري تقوم بالواجب، إنها تلتهم الأفواج تباعا، وما يزال الكثيرون منتظرين دورهم لكي يعودوا إلى بيوتهم بعد يوم عمل طويل.
تتقدم سيارة كبيرة الحجم نحو مكان تجمهر الراغبين في الانتقال نحو حي « قرية ولاد موسى » الشعبي المكتظ، الممتد على هوامش سلا، وتشرع في تكديس كل من شاء الذهاب إلى هناك على متنها، لا يبدو أن سائقها وصاحبه قد حدّدا عددا معينا من الركاب.
تمتلئ السيارة الرثة عن آخرها، ويشرع أحد الشابين في استخلاص الأجرة، سريعا يباغته أحد الركاب المحاذين للباب الخلفي بالقول أنه دفع لصاحبه الموجود خلف مقود السيارة، هذا الأخير ينتبه سريعا ويترجّل متوجها نحو هذا الشخص باللكم والسب، يبدو أن هذا المتسكع الخمسيني ذو الثياب البالية يكذب وكان يريد الاحتيال على الشابين، والواضح أنهما يعرفانه جيدا.
معظم الركاب احتجوا على الشاب، لم يسمح الناس كالعادة بأن يعتدي شاب ثلاثيني على رجل ذي جسد منهك، بالرغم من وقوعه تحت تأثير مخدرات كيماوية رخيصة تملأ نتانتها المكان، هي ذاتها التي تستخدم عادة للحم تجاويف إطارات السيارات، الشاب بدوره هبَّ سريعا للإيضاح بنبرة ملؤها الصراخ: « أعرفه جيدا مذ كنتُ طفلا، لقد كان ذا بنية جسدية قوية، وكان يعتدي على المارة بدون سبب، ويسلب الضعفاء أشياءهم.. إنه يدفع الآن ثمن طغيانه في الماضي ».
كلمات السائق الذي استخلص أجرته من الشخص وعاد إلى مقدمة السيارة أسكتت الجميع، مشاعر الأسى تملأ العيون، بعض من عبارات « الوعظ » يترامى على احتشام بين الجالسين. « لو نظر إليه من يُقبلون اليوم على مثل أفعاله في الماضي لأحجموا سريعا عمّا هم فيه »، تقول سيدة قابعة في عمق السيارة وهي تقلب ناظريها بين سيدتين تقابلانها على الكرسي الخشبي الطويل الذي نصب السائق ثلاثا منه، بدورهن ترمق السيدتان المعني بالأمر مؤكدتين في صمت موعظة نظيرتهن.
« من كان يتخيل أن هذا المتسكع الأشعث الأغبر قد كان يوما « صعصعا » في حيه »، يتساءل أحد الركاب مردفا بالقول: « هو نفسه لم يتخيل ان أمره سيؤول إلى ما آل إليه اليوم ». غيمة كثيفة من الأحاديث شغلت الركاب سابحين على تخوم الموضوع، يكاد كل حاضر أن يكون قد شارك على طول الرحلة برواية قصة لشخص يعرفه مر من نفس المسار، لا غرو فالمجتمعات حبلى بالقصص على ذات الشاكلة، « لا شيء يدوم على حاله، والقوة والصحة لا يدومان »، كتلة مواعظ هي تكاد تقترب من التشفي أحيانا لم تنته إلا مع بلوغ الرحلة نهايتها.
هنا في « قرية ولاد موسى » الحي الشعبي القديم الذي نما على أطراف سلا منذ عقود محتضنا هجرات القرويين من جميع أنحاء المغرب، كل شيء فيه يوحي وكأن الزمن متوقف والمشاهد نفسها تتكرر كل يوم، فيما موجات « الكريساج » واستقواء « الفتوات » السابحين في جحيم المخدرات لا تتوقف عن الانبراء بين الفينة والأخرى، ولا تمضي سوى عقود قليلة حتى يجد هؤلاء انفسهم موضوعا لحكايات الوعظ والتشفي إياه، وقد تآكلت عضلاتهم وأصيبت قاماتهم الطويلة بضمور مخزي، لا يعود للكثيرين منهم حينئذ سوى استجداء المارة بعض الدريهمات دونما الاكتراث لأي استهجان أو شفقة.
« الدكالي » من سكان « قرية ولاد موسى » الأقدمين، وجهه مألوف هنا، جلبابه المسجى بعباءة شتوية غليظة على الطراز الإيطالي، وحذاؤه الضخم، شواخص تعوِّض ما ضاع ربما من ضخامة جسمه التي كانت هي علامته المميزة يوما ما، حلت الآن لحيته البيضاء وما يعتمره على رأسه محل ما كان، ف »الدكالي » يقضي اليوم كل لياليه على ناصية مطبخ إحدى حانات الرباط، هناك كان يعمل لسنوات حارسا ليليا حينما كانت شروط جسده تسمح بذلك، اليوم تآكلت عناصر هيبة الماضي، ولم يبق سوى الرسمُ ممَّا كان.
« لم أكن أتخيل أن قوة الشباب ستستحيل بي هكذا »، يروي الدكالي وهو يشبك أصابعه تارة ويفردها أخرى، « أنظر بعين الرأفة للشباب الذين يمضون من مسار كنت ماشيا فيه قبل خمس وعشرين سنة »، يعقب ثم يصمت لبرهة لمبادلة أحدهم بالسلام إذ يمر بجوار مقهى شعبي اعتاد ارتياده، هنا تختلط عليه الأزمنة وتداعب أطيافُها مخيلته، فيهزه الحنين إلى ما مضى مكتفيا بابتسامة خفيفة ونظرة لم تتجاوز الأفق الذي تحده سريعا كومة المباني العشوائية التي يكتظ بها المكان.
بسبب الدكالي وبفضل منه يعمل « مصطفى » حارسا في ذات الحانة، هذا الأخير بدوره يمتلك قدرات جسدية تمكنه من العمل في هذه المهنة، « هكذا أفضل من البقاء فريسة الضياع في حي شعبي مثل هذا، أو المضي في اتجاه الاعتداء والسلب على الآخرين »، يوضح مصطفى مبررات عمله هناك، « فمعظم الشباب الذين ينغمسون في أعمال السلب والنهب وقطع الطريق باستعمال القوة يقعون في شرك ثالوث سيء: قوة الجسد، والبطالة والاحتياج، ثم الإدمان والرفقة السيئة »، يمضي مصطفى في الشرح، واصلا امتنانه ل »الدكالي ».
بالنسبة لمصطفى امتهان حراسة الحانات تنقذ الكثيرين من البطالة والضياع، فالأمية والفقر والاستعداد العضلي أشياء قد تدفع مجتمعة إلى مسارات سيئة، لكن تلك المهنة ليست أمرا جيدا في المغرب، لأن العامل هنا يعمل خارج ضوابط القانون، وكثيرا ما يضطر إلى استعمال القوة ضد أحد السكارى الذين يتسببون في مشاكل داخل المحل، وإذا حدث أي ضرر نتيجة ذلك فإنه يواجه عقوبات قاسية، أما إذا لم يتدخل لمنع المشاكل ولو باستعمال القوة فإنه مصيره قد يكون الطرد من العمل.
مخاطر كثيرة تواجه هذه الفئة، وغالبا لا يستفيد الواحد من هؤلاء من أي نظام للاحتياط الاجتماعي يحميه حينما يصل إلى سن التقاعد، بل إنه إذا لم يوفر أي قدر مالي طيلة حياته، أو يتمكن من تعليم أبنائه ليكون بمقدورهم مساعدته، فإن مصيره سيكون بعد عقود ماثلا في أن يبقى مركونا في مرحاض أو مرآب ما مقابل أي دريهمات، فيما يجد كثير من ممتهني السلب والسرقة باستعمال القوة أنفسهم بعد مرور المدة نفسها على قارعة الطريق يستجدون المارة، وقد أنهكت أجسادَهم مُددُ السجون الطويلة، وتآكلت قواهم بفعل سلطان الزمن.
*باحث وكاتب مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.