ما يقع بجامعات أمريكية من مظاهرات نصرة للفلسطينيين أصاب العديد من العرب والمسلمين المتعاطفين مع القضية، بأحاسيس وجدانية مفعمة بالأمل والفخر. لأنهم يشاهدون اليوم أنه: * في عقر دار أقوى دولة في العالم وأكثرها دعما للمشروع الإسرائيلي التوسعي الاستعماري، هناك احتجاجات بل هي احتجاجات من الفئات الأكثر تعلما وأكثرها استماتة بالحقوق ونصرة لمشروعيتها؛ * ليست فقط احتجاجات عابرة منتشية لشباب فاضت عليهم الحرية والطيش والفراغ وليست احتجاجات اشعلها مندسون فلسطينيون وعرب معادون للسامية، وليست احتجاجات فقر وحقد على السيستيم. بل احتجاجات نظمتها النخبة من طلبة جامعات راقية من فئات اجتماعية متوسطة وفوق متوسطة وطلبة حائزين على امتيازات الاستحقاق العلمي والاجتماعي؛ * ليست احتجاجات "عرقية" أو إثنية ذات طابع ديني أو إيديولوجي واضح. هناك طلبة من أصول عربية طبعا وهناك معهم طلبة من أصول متنوعة وديانات مختلفة، بل هناك محتجون يهود (معادون للصهيونية) وهذا ما أفقد بروباغوندا "معاداة السامية" التي يروجها تنظيم الهيسبارا (الصهيوني) كل بنياتها المنطقية. لكنني أنظر من شرفة مختلفة الزاوية نسبيا لكل ما يحدث. أن يحتج الطلبة الأمريكيون ضد بطش أمريكا هو أمر ليس جديدًا. سبق للأمريكيين الطلبة والمثقفين أن احتجوا ضد الميز العنصري فأسقطوه بالرغم من توغله الثقافي والمؤسساتي دواخل المجتمع الأمريكي. وسبق للطلبة الأمريكيين أن احتجوا ضد حرب الفيتنام وفظاعاتها الإنسانية فأوقفوها بالرغم من أنها كانت قرارا أمريكيا جيوسياسيا وسياديا عظيم الأهمية. كما أوقفت احتجاجات جامعات أمريكا نظام الميز العنصري (الأبارتهايد) بالعالم بالرغم من كل ملايير الدولارات التي أنفقتها أمريكا لتغذية والانتفاع منه. الحضارة الأمريكية العظيمة أنجبت الجريمة العظيمة (توفيق الحكيم) وأنجبت كذلك الثورة العظيمة (هربرت ماركيوز). ثورة الجامعة الأمريكية الجامحة ستكون طبعا، بالنظر لخطورتها الهيكلية، فريسة القمع والضغط المضاد والتسفيه والتشويه من طرف كل اللوبيات المنتفعة من الغطرسة الأمريكية في العالم (عسكريا واقتصاديا). * أول الضغط يأتيها، دوما، من أحهزة حفظ الأمن العام. وهي متأقلمة معه تاريخيا. ولسريالية القدر فإنها احتجاجات تكبر اضطرادا واتساعا مع كبر واتساع القمع الأمني. وهذا أول معضلات السيستيم الأمريكي الذي يعلم أن احتجاجات الجامعات لما يعجز عن قمعها أو إرشاءها في مهدها فإنها تتحول كما حرائق الغابات الشمالية العظيمة. 120 طلب معتقل بجامعة كولومبيا و 100 معتقل بجامعة نيويورك و 60 معتقل بجامعة ييل وهناك أخبار واردة عن اعتقالات في صفوف أساتذة من هارفارد وماساشوستس و غلق ردهات وساحات جامعية... وهي حالات طوارئ أمنية لم تعمل سوى على زيادة مساحة الاحتجاج. * مصدر الضغط الثاني يأتيها من الإعلام. خصوصا ذلك الإعلام الأمريكي المحافظ والمسيطر على صناعة الرأي العام. منذ اليوم الأول أطلقت هذه الأرمادا الإعلامية وابل اتهامات خطيرة ضد الطلبة المنظمين للاحتجاج، منها اتهامهم بمعادات السامية ثم اتهامهم بخلخلة نظام الأمن العام وتهديد سلامة المؤسسات والمواطنين بل واتهامهم بالإرهاب و دعم حركة مقاومة "إرهابية". وأطلق ناتانياهو ووزيره في الخارجية ووزيره في الإعلام (بشكل سافر وغير محترم لسيادة دولة) "أوامره" ليهود أمريكا بالانتقال فورا لمستوى التأهب المسلح لحماية الرعايا اليهود والمؤسسات اليهودية كمقاومة ضد "هذا الإرهاب" المشتعل في الجامعات. نسيت منظمة الهيسبارا الصهيونية ونسي اليهود المسيطرون على غالبية الاعلام الأمريكي الأرثودوكسي أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي أريد لها أن تكون لعبة في أيادي مراهقين بلا أفق، تحولت اليوم إلى أسلحة "دمار شامل" تفتك بمن كان يفتك، وتقهر من كان يقهر، وترعب من كان همه الوحيد هو إرهاب البشر وإخافتهم. العالم بأسره يعلم مشروعية القضية الفلسطينية أولا ويعلم بل ويتجاوب ثانيا مع مشروعية الاحتجاج الطلابي الأمريكي... وكنار في هشيم ستنتقل الاحتجاجات الطلابية ثالثا إلى باقي جامعات العالم. ثم هناك متغير حاسم في هذه الحركات، وقليل من يتناوله، وهو مرتبط بأصول وجنسيات الطلاب المحتجين...لقد انقلب السحر على الساحر: فلما كانت امريكا تعوض الشباب العراقي والفلسطيني والفيتنامي والكوبي والرواندي والهندي... بالإجلاء الذاتي والهجرة مقابل منح دراسية سخية وكوطات تسجيل بتمييز ايجابي، هاهي اليوم تحصد غلة هذه السياسة حيث وجدت ان كل بؤر التوتر الدولي الذي تفتعله USA هي بؤر تصدر وترسل إلى قلب امريكا طلابا جامعيين مجنسين وممنوحين ومستقرين يلعبون اليوم دورا بارعا "كسفراء انتفاضات العالم".