ألقى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور أحمد توفيق الدرس الحسني الأول، كما جرت العادة، انطلاقا من الحديث النبوي الشريف: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها." ألقى أحمد توفيق درسا مكتوبا بعناية ومقروءا، كعادته في إلقاء محاضرات مكتوبة، وهو اختيار يميل إليه كثير من المفكرين والمحاضرين لأسباب كثيرة، فنية وتداولية. وإذا كانت النصوص التي تنتجها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في عهد الوزير عبد الكبير العلوي المدغري ، رحمه الله، تبرز فيها لمسة أدبية ورشاقة في التعبير، مع أن الوزير المدغري، كان قليل المحاضرة أصلا، وينحدر في تكوينه الأكاديمي من القانون والدراسات الإسلامية، وكأنها تمر من يد أديب يجودها قبل إصدارها، فإن النصوص التي تنتجها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية اليوم تغلب عليها المسحة التاريخية، وهي شديدة الارتباط بالتكوين الأكاديمي للوزيرأحمد توفيق، ولكنها مسحة تاريخية ممزوجة بنفس في الحكي والتفصيل، تبرز فيها الموهبة السردية للروائي/الوزير توفيق. لذا فإن محاضرات الوزير أحمد توفيق، أو قل نصوصه المقروءة لاتشد إليها إلا كل مولع بالتاريخ ومتمرس على تلقي الحكي. لهذا تجد أحمد توفيق لايحاضر ولكن يؤرخ ويحكي ويسرد في محاضراته، بنفس مدهش واستقصاء طويل يتعب من يستمع إليه. ويرجع السبب في هذا النمط من الكتابة إلى أن التاريخ، بمعنى الخلفية، كان ممزوجا في ثقافتنا الإسلامية بحقول علمية وبأجناس تعبيرية أخرى، وكان منذ نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا، جزءا من الأدب. ولم يفترقا إلا عندما اندست بينهما النزعة الوضعية وحرضت كل واحد منهما للبحث عن (علميته) الضائعة. هذا عن التاريخ والأدب أما الحديث عن أحمد توفيق: المؤرخ والروائي، فلم يفترقا، بل تعاضدا لبناء لغة أحمد توفيق الوزير، برغم حرصه على إخفاء شخصية الروائي عند ممارسة مهامه الوزارية، وعند إنتاج خطابات شارحة لها، وإبراز شخصية المؤرخ لدعم موقفه، وتوفير بنية استدلالية لأفكاره في مجال تدبير الشأن الديني بالمغرب. لهذا من يقرأ رواياته : (جارات أبي موسى)، و(غريبة الحسين)، و( جيران أبي العباس)، تحديدا، سيكتشف المحبرة التي غمس فيها قلم الدرس الحسني المكتوب بعناية فائقة.كان هذا التمهيد ضروريا، بنظري، للتأكيد على أن المتلقي يوجد أمام كاتب من عيار ثقيل، ينتج نصا مكثفا ومركبا، ليس في قدرة كل واحد فك شفراته، وهي كثيرة. نص يتعاضد التاريخ والأدب لإكسابه صلابة في الاستدلال. يذكرك الوزير توفيق بوزراء وولاة العصر العباسي الذين جمعوا بين المسؤولية الإدارية والسياسية والكتابة والإنشاء والإبداع والتنظير؛ مثل الوزير ابن العميد(367ه)، كان يلقب بالجاحظ الثاني، وكان وزيرا لركن الدولة البويهي ، وكذا الصاحب بن عباد (385ه/995م)، الكاتب ووزير الملك مؤيد الدولة البويهي.وعليه لم يكن نص/درس أحمد توفيق نصا لغويا وحسب، بل كان خطابا (بمفهوم ميشيل فوكو)، مملوءا بالمضمرات وبالسياقات وبالمصطلحات وبالتعريفات وبالعبارات وبالإشارات وبالاستدراكات وبالانتقادات وبالاستشرافات... ويكفي أن يجمع المستمع/وكذا القارئ المصطلحات/والمفاهيم المفاتيح المستخدمة في الدرس ليعرف حمولته واتجاهاته ومقاصده. أذكر منها: القرآن الكريم، الحديث النبوي، إمارة المؤمنين، نظام إمارة المؤمنين، الأمة، الأمانة، الدين، التدين، تجديد، أهل السنة، العلماء، جماعة المسجد،النص/ النصوص، الفهم، أدوات الاجتهاد، العمل، المذاهب، النهج النبوي، الأخلاق، التخليق، الاعتراض المتطرف، الخوارج، السياسة، التزكية، المقاولون المسلمون، الليبرالية، الحياة الطيبة، التحكيم المرضي... وأما أسماء الأعلام البارزين، ولكل واحد منهم ايحاءاته الخاصة، في الدرس فنذكر منهم: السيوطي، وأبي حامد الغزالي، والإمام مالك، وأحمد خان(داعية هندي)، ومصطفي عبد الرازق، ومحمد عبده، وسيدي محمد بن عبد الله، ومولاي عبد الرحمن، وسيدي محمد بن عبد الرحمن، ومولاي الحسن، ومولاي عبد العزيز، والحسن الثاني ( وكلهم من ملوك الدولة العلوية)، وCharles Larmor (فيلسوف أخلاق أمريكي، صاحب كتاب: The Morals of Modernity)، وصاحب كتاب: الدولة المستحيلة ، هكذا ورد على لسان الوزير توفيق!(والمقصود: وائل حلاق)، وAlasdair Chalmers Maclntyre (فيلسوف وعالم أخلاق اسكتلندي، اشتهر كتابه: After Virtue (بعد الفضيلة)...تعطي هذه المفاهيم وأسماء الأعلام المضمنة في درس الوزير توفيق عناصر الخريطة الذهنية للدرس ولصاحبه. وينطلق الدرس من مسلمتين أساسيتين هما: أن إمارة المومنين أدت أمانتها في جميع مجالات مسؤوليتها، وأنها حمت اختيارات الأمة المغربية من خلال تجديدها. لذا سيركز الدرس على إبراز جوانب الحماية والتجديد، من خلال مستويات ثلاثة، هي: نقد دعوات التجديد كما عرفها التاريخ الإسلامي قديما وحديثا، وعرض تجديد الدين في إمارة المؤمنين، واستشراف آفاق التجديد في الدين في ظل التحديات المعاصرة. قام الدرس الحسني لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور أحمد توفيق على ثنائية الهدم والبناء من أجل التأسيس لباراديغم التجديد الذي يقترحه، هدم الموجود وبناء المفقود وتثبيته من أجل استشراف مستقبل موعود، في إطار ثنائية الماضي والمستقبل التي أطرت الدرس برمته. لذا حرص الدرس على الاشتباك مع دعاة التجديد ممن سبقوا، من خلال عرض نماذج بعينها، ومقاربات محددة، من حيث الفكرة والتعريف والمصطلح والمنهج، مع نزعة ميالة إلى ( التخطئة) بارزة في الدرس. ثم إن من يتتبع ذاكرة الدروس الحسنية لن يغيب عنه درس حسني في الموضوع نفسه واستلهاما من الحديث نفسه ألقاه الشيخ يوسف القرضاوي في حضرة الملك الحسن الثاني، رحمهما الله. ألقاه الشيخ القرضاوي في رمضان1403 /1983. لذلك فالربط بين الدرسين مهم جدا لاكتشاف علاقات الاشتباك بما ينم عن سياقات مختلفة، ومقاصد مختلفة، وأفق مختلف، ومتلق مختلف، مع وحدة المكان، والمناسبة، والحديث/المرجع.وجد الوزير نفسه مضطرا للإجابة عن سؤالين مركزيين لا يتجاوز هما عادة أي باحث في موضوع تجديد الدين انطلاقا من حديث أبي هريرة، وهما: من ينطبق عليه اسم المجدد؟ وما المقصود بتجديد الدين؟ وتحدد الإجابة عن السؤالين جزءا من مقاصد المجيب، وبعض المؤشرات عن اختياراته الفكرية، أو قل تحيزاته. وحرص الوزير على الإجابة عن كل سؤال من خلال عرض اختيارات متعددة لكنها تبرز اختياره هو ورؤيته. فالمجتهدون في الدين قد يتعددوا في القرن الواحد، أي قد يكون المجدد حاكما، مثل عمر بن عبد العزيز، أو عالما مثل أبي حامد الغزالي. واختيار الأمثلة في الدرس جزء من الرؤية، ومكون استدلالي أساس فيها، وليس اختيارا اعتباطيا للتمثيل وحسب. فالحاكم يجدد من خلال إحياء العدل في الأمة، والعالم من خلال الاجتهاد في فهم النصوص. أما التجديد المقصود فإما أن يكون (استعادة) للتجربة النبوية وعهد الخلفاء الراشدين ( أبوبكر وعمر تحديدا في الدرس)، أو يكون ( نظرا) في الأمور المتغيرة والقابلة للتجديد في الدين. وقد استثنى الوزير نصي القرآن الكريم والحديث النبوي، من هذا النظر، بحكم ثباتهما، فالنص القرآني تكلف الله بحفظه، والنص الحديثي بذلت فيه جهود معتبرة، بما يجعلهما نصين مستمرين في الزمان. ويكون النظر في الأمور المتغيرة بفهمها، أو العمل بهما، من خلال أدوات الاجتهاد، وهو مايتجسد قديما وحديثا في وجود المذاهب، وفي تدبير الاختلافات في قضايا فروع الدين. فالمشكل لم يعد في النص الثابت والمحفوظ، ولا في التنوع في النظر، بوجود أدوات الفهم، ولكن في الوضع الذي يعيشه المسلمون اليوم، وهو وضع الاستضعاف أمام الغرب وحضارته، هذا الوضع النفسي/الاجتماعي/الموضوعي هو الذي حرك المسلمين للبحث في سبل الخروج منه. لذا لم يكن المشكل يوما في النص الديني بل في الواقع الإسلامي الموضوعي في سياق اختلال موازين القوة الحضارية مع الغرب. وعرض الأستاذ توفيق للأجوبة المقترحة في الموضوع، فإما التبعية التامة للغرب، أو الرفض التام له، أو التكيف معه بأقل الأضرار. وكان من أهم ماورد في الدرس تقديم مقترح جديد، مما سنقف عليه لاحقا. ولم يفت الأستاذ أن يذكر بأن سؤال التجديد طرح عن أهل العقائد والملل الأخرى، نصارى ويهود وبوذيين وكونفوشيوسيين. مع بروز سؤال النقد في المجال التداولي المسيحي، من خلال موجة نقد الفساد في المؤسسات السياسية والدينية في مرحلتي النهضة والأنوار، واستكمال بناء معمار (العقلانية الأوروبية الجديدة). وأما بخصوص دعوات التجديد التي عرفها العالم الإسلامي فقد اختار الأستاذ أحمد توفيق أمثلتها بعناية، ذكر بعض الرواد بالاسم، مثل: أحمد خان، ومحمد عبده، وعلي عبد الرازق، وذكر بعض التوجهات (التجديدية) على العموم. والملاحظ في عرض الوزير أنه تعامل مع الحركات التجديدية باختزال كبير، وبسلبية كبيرة، في إطار مفهوم الهدم الذي ذكرناه سلفا، من أجل نموذج تبشيري جديد. فقد اختزل الدرس حركات التجديد في رغباتها كما فهمها الأستاذ أحمد توفيق، مع ملمح نقدي يقوم على الاتهام، وهو يجمع بين الحركات التجديدية بمختلف مرجعياتها في صعيد واحد، مع استهداف بارز، في هذا المستوى من الدرس، لما يعرف ب(القراءات الجديدة للدين)، وكثير منها منزعه مستند إلى بعض المفاهيم التحليلية الماركسية، أو إلى بعض مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل: علم اجتماع المعرفة، وتاريخ الأفكار، وتحليل الخطاب، والنظرية النقدية... فبعض دعوات التجديد، بنظر أحمد توفيق، تنطلق من دعوى التجديد للتجرأ على الأصول، وإنكار السنة مرجعا، واعتماد التأويل من أجل التلاؤم مع (المراد العقلي) في قضايا الربا والعقوبات البدنية والمرأة. ومنها من يرفض اعتبار القرآن مدونة قانونية، ورفض تدخل الشرع في الجزئيات.وخص الأستاذ توفيق الشيخ محمد عبده بنقد خاص لما أورده في (رسالة التوحيد) من خلال منزعه التفسيري بما يتناسب مع المعارف الحديثة. وينتقد الأستاذ توفيق هذا المنزع التنظيري الذي لم يفد المسلمين في واقعهم، وهو منزع (تبعيد) مخالف للنهج النبوي القائم على (القرب الميداني، أو قل: التقريب) في التربية والبناء. والملاحظ في هذا المحور أن الأستاذ توفيق تجنب ذكر أي واحد من رواد التجديد في المغرب، والدرس برمته فيه قدر كبير من تهميش الصوت المغربي في التجديد الديني في الفكر والتربية، مما سنشير إليه لاحقا في سياق خاص. بل ابتدأ حركات التجديد بتجربة أحمد خان الهندي(1817-1898). وهو نموذج غير معروف في المغرب، بل يمثل مدرسة قائمة بذاتها هي مدرسة شبه القارة الهندية. فهل يفهم من درس الأستاذ توفيق استدعاء مرجعي جديد على الفضاء المغربي، وهو التجربة الهندية في تجديد الدين. وهي تجربة استدعيت في مصر بما أحدث مشاكل كثيرة في الفكر والمنهج والحركة والتربية. وكلنا يتذكر استدعاء تجربة أبي الأعلى المودودي في تعريف مفاهيم: الخلافة، والدولة، والجهاد، والوطن، والتربية حتى... ثم لماذا اختار الأستاذ التوفيق التمثيل بأحمد خان، ولم يمثل بنماذج أخرى من الدائرة الفكرية نفسها، مثل: ولي الله الدهلوي(1703-1762)، ومحمد إقبال(1877-1938)، وفضل الرحمان(1919-1988)، وأبي الحسن الندوي(1914-1999)، وغيرهم؟ أتصور بأن أحمد خان يستجيب لأفق الدرس الذي قدمه الوزير توفيق، ويناسب تطلعاته ومقترحاته في السياقات المعاصرة التي يعيشها الشأن الديني في المغرب اليوم. فأحمد خان عاشت أسرته، كما عاش هو نفسه، قريبا من البلاط الإمبراطوري المغولي في الهند. كان يملك رؤية في التغيير تستند إلى الدين، نعم، لكن لا أتصور بأن السياق الديني المغربي، الرسمي أو الشعبي، قادر على تحمل تبعتها ومداها في الظرفية الحالية. هذا إذا افترضنا أن عملية الاستدعاء في الدرس، تمثيلا، ليست اعتباطية. فقد عرف أحمد خان بأفكاره المثيرة، وبتجديده الديني الصادم لليقين العام للمسلمين. لذلك جوبه بنقد لاذع له وبالتحريض عليه. فمثلا، يرى أحمد خان أن الوحي ليس شيئا ينزل على النبي من الخارج، بل هو عبارة عن نشاط العقل الإلهي في النفس والعقل القدسي البشري. كما يذهب إلى أن الوحي باللفظ وليس بالمعنى. كما عرف عليه رفض الإجماع، ويشدد على مرجعية العقل، واعتبر الواقع أساسا للتفسير، ويرفض الدعوة للخلافة، ولذلك رفض اللقاء بجمال الدين الأفغاني عند زيارته للهند، وقد نقده الأفغاني في رسالته: الرد على الدهريين. كما كان يقول بإمكانية استمرار الوحي من خلال تجارب خاصة. وكان ضد المقاومة المسلحة للإنجليز، ويعنون مشروعه التربوي والتجديدي ب: تهذيب الأخلاق. ويرفض كل نزوع سياسي على أرضية الدين. (تنظر كتبه: تفسير القرآن، و:خطابات أحمدية، وتنظر دراسة وافية أنجزها عنه المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي في كتابه: مقدمة في علم الكلام الجديد، الفصل الثالث بعنوان: الفهم الجديد للوحي لدى مفكري الإسلام في الهند). قد تبدو أفكار أحمد خان غريبة في سياقنا التداولي، بل قد تفجر نواة ( تجربة التدين المغربي) لكنها تجربة مغموسة في السياق التداولي الهندي بتجربته الدينية متعددة المشارب والجذور والمساحات والتطلعات الميتافيزيقية. ليست هذه هي المرجعية الوحيدة التي يستدعيها درس التوفيق بل هناك مرجعيات أخرى مما سنذكره لاحقا. انتهى الوزير توفيق إلى أن حركات التجديد التي اشتهرت في العالم الإسلامي كانت حركات تنظير بعيد عن الواقع. افتقدت المعرفة الوظيفية بحقيقة مقولات: (الإسلام صالح لكل زمان ومكان) ومقولة( لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ماصلح به أولها). فقد افتقدت هذه الحركات إلى التشخيص المناسب وفهم الواقع المعاصر، خصوصا مايتعلق بالغرب. فإذا كان التجديد لايقصد به التجديد الشامل للدين، كما تدعي الحركات التجديد ية المخاصمة للدين، فإن الغرب نفسه ليس غربا واحدا، إذ تقتضي معرفته التمييز بين تفوقه القائم على العلم المادي وعلى تطبيقاته الصناعية، ثم المقارنة بين مثله ونماذجه الأخلاقية وبين أفاعيله في السياسة بمايحصل من مآسي في العالم باسمه. وفي المقابل يقدم لنا الغرب نموذجا ايجابيا ، بنظر الوزير التوفيق، هو النموذج الليبرالي، وهو قابل للاستلهام في شقه النافع. ويحتاج هذا الاستلهام إلى تركيب وصفة تجمع بين الشق النافع في الليبرالية وبين الجذر الديني الذي تقوم عليه إمارة المومنين في المغرب. وهو ماعمل الوزير التوفيق على صياغته في المحورين الثاني والثالث من درسه، يتعلق الأول ب( تجديد الدين في إمارة المومنين، ماضيا وحاضرا) والثاني ب(آفاق التجديد واستشراف المستقبل في الدين). وهو تركيب ينطوى على الكثير من التناقضات العملية والنظرية، والإحراجات الفكرية في السياق التداولي الإسلامي والمغربي تحديدا، أو على الأقل يحتاج إلى تفاصيل أخرى، ربما مما لم يسمح به سياق إلقاء الدرس، زمانا ومكانا، ولكنه يفتح نقاشا جديا حول حقيقة الخلفية النظرية التي يستند إليها مقترح الأستاذ التوفيق، ليس في هذا الدرس فقط بل في دروس أخرى ألقاها في حضرة الملك، وقد ترجمتها أو قد تترجمها إجراءات تدبيرية في الشأن الديني بشكل أوضح مستقبلا، جزئيا أو كليا. يتحدد التجديد في الدين ماضيا عند الوزير التوفيق في إطار إمارة المؤمنين في منجز الدولة العلوية التي تميزت، بنظره، بتقديم برامج إصلاح ميدانية. وأما التجديد في الدين حاضرا فيحدده في العقدين الآخيرين من الحكم بالمغرب، وهو يقصد فترة الملك محمد السادس تحديدا، وكذلك فترة توليه هو، أي الوزير التوفيق، مسؤولية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتدبير الشأن الديني. وكان الدرس، في هذا المستوى، أقرب إلى تقديم حصيلة برنامج إصلاح الشأن الديني خلال العقدين الآخيرين. لايمكن فهم برنامج الإصلاح الديني الذي قادته الأسرة العلوية في المغرب، بنظر الوزير التوفيق، إلا بفهم منجزاتها الكبرى ذات الطابع السياسي، وهي: استعادة الوحدة السياسية للمغرب بعد التفكك الذي حصل أواخر الدولة السعدية(1548-1660)، وإعادة الأمن والاستقرار، وممارسة التحكيم المرضي بين مختلف عناصر المجتمع، ومواجهة الأطماع الأجنبية في الشرق والشمال. ورافق هذه المهام الكبرى إجراءات ميدانية في مستوى تجديد الدين سماها الوزير توفيق (علامات) لبناء الجذر الديني/ التعاقد بين السلطان والرعايا. وكانت هذه العلامات عبارة عن ( نصائح سلطانية) في شكل رسائل، أرسلها ملوك علويون هم مجددو قرونهم في المغرب، بنظر الوزير التوفيق. وحددها في ثمان رسائل، الأولى أرسلها سيدي محمد بن عبد الله باعتباره مجدد القرن الثاني عشر، والثانية والثالثة أرسلها مولاي عبد الرحمن، والرابعة سيدي محمد بن عبد الرحمن، والخامسة مولاي الحسن، والسادسة والسابعة مولاي عبد العزيز، والثامنة الحسن الثاني بمناسبة القرن الخامس عشر الهجري. وتضمنت الرسائل السبعة السابقة، خصوصا السادسة والسابعة، معاتبة الناس على التفريط في الدين وعدم الاهتداء بالعلماء، وتضمنت كذلك لوم العمال والقضاة على فتورهم وعدم تحمل مسؤولياتهم في تنزيل مقتضيات الدين، بإقامة العدل، وإقامة كل مسجد وإمام مشارط في كل حي. وأما رسالة الملك الحسن الثاني(وجهها سنة1981) فكانت أكثر وضوحا في التعبير عن الجذر الديني للنظام السياسي في المغرب، بمنظوره التجديدي. فقد عبر فيها الملك على أن الله أكرم المسلمين بدين صالح لكل زمان ومكان، وشريعة لاتحتاج إلى إدخال أي تعديل على مبادئها، وإنما يتوقف الأمر على استيعابها، عبر وساطة العلماء والمفكرين المستوفين لشروط الاجتهاد دون ضغوط وبلاشروط خارجية. لذلك ورد في نص الرسالة( وهي بالمناسبة موجهة للمغاربة ولعموم المسلمين) قول الملك الحسن الثاني :" معاشر المسلمين: لقد أكرمنا الله بدين متين الأساس راسخ البنيان، صالح لكل زمان ومكان، وما من شعيرة من شعائره، ولاشريعة من شرائعه، إلا وهي مؤسسة على تقوى من الله ورضوان(...)وأن نعيد للتربية الدينية والخلقية ماكان لها من الاعتبار والأهمية في تنشئة الأجيال، وأن نجعل من الأم المسلمة أما مثالية تعتز بأن تكون هي المربية الأولى للناشئة والأطفال(...) وأن نجعل من المدرسة والكلية والجامعة، إلى جانب المسجد، الملتقى المفضل للعلم والإيمان". وأما في عهد الملك محمد السادس فقد حدد الوزير التوفيق علامات التجديد الميداني خلال العقدين الأخرين في عشرين نقطة/محطة تجديدية، هي: تثبيت لقب رئيس الدولة أميرا للمومنين، وتثبيت شرعية الحكم على أساس البيعة، والتزام الحاكم بالضرورات الشرعية أو قل: الكليات الخمس، وحفظ الدين من خلال توفير شروط الصلة مع الله، وحماية النفس بتوفير الأمن من الخوف على الحياة، وحماية العقل بصيانة المعروف الجماعي ضد الفوضى، وحماية المال بالاقتداء المنهجي بالأولين الذين فهموا مقتضيات ذلك في حدود عصرهم، وحماية العرض بضمان الكرامة الإنسانية من خلال توفير الحاجات الأساسية، والحريات العامة بما يتعلق بالسلوك في إطار التشريعات التي تقرها الدولة مما يعتبر من مستلزمات العصر، والاجتهاد في إطار عقيدة إمارة المومنين التي عبر عنها الملك بقوله:( لاأحرم حلالا ولا أحل حراما) واعتبار المجلس العلمي الأعلى مرجعا جماعيا للفتوى مع الأخذ، منهجيا، بماهو مطابق للعقل من جهة المصلحة، وحماية الأسرة على قاعدة المودة والسكينة دعما اجتماعيا وإصلاحا حقوقيا وتجديدا قانونيا، والعناية بالمرأة مناضلة إلى جانب الرجل، ورفع الحرج عن ضمير المسلمين مما سببه بعض المتكلمين في الدين ( ينظر درس حسني ألقاه الوزير التوفيق، بعنوان: الكلام في الدين:أسسه وتجلياته، 3رمضان 1431/14غشت 2010) عندما ادعوا، بنظر الوزير التوفيق، أن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت، مع أن القرض اليوم يلتجئ إليه الناس، أو الدول حتى، للضرورة أو الاستثمار، وتكون الفائدة بقدر النمو الاقتصادي في البلد المعني، ثم إن حكمة القرآن في التصدي لاستعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة وهو الربا. لذلك تجلى تجديد الدين في المعاملات المالية في إمارة المؤمنين من خلال إحداث المعاملات المالية التشاركية( وقد أصدر المجلس العلمي الأعلى حوالي 170 فتوى في الموضوع). ومن علامات التجديد التي أوردها أيضا الوزير التوفيق في إطار إمارة المؤمنين العناية بالمسألة الاجتماعية في إطار برامج تضامنية، وكذا الاهتمام بالمسألة الثقافية من خلال تعزيز الارتباط بالأرض والبيان في القول، واعتبار آيات الجمال في الكون والطبيعة، ورعاية التعدد الثقافي واللغوي بين مكونات الأمة المغربية، وحماية القيم الروحية عبر دعم الزوايا وشيوخها وترميم الأضرحة والاحتفال بذكرى المولد النبوي، وحماية الخصوصية المغربية في إطار الانتماء للأمة الإسلامية، ورعاية نهج الوسطية في العقيدة، وحماية الأرض كجزء من حماية الدين، وصيانة الروابط العلمية والروحية مع إفريقيا وتعزيز المشترك العقدي والمذهبي من خلال تدابير مكملة عبر إحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. كان إذن المحور الثاني من درس الوزير التوفيق أقرب إلى عرض حصيلته في تدبير الشأن الديني أمام الملك. وهي حصيلة انعكست بنظره على تدين الناس وعلى حياتهم، بما يحقق فارقا منهجيا وميدانيا مع دعوات التجديد التي بقيت محصورة في مقارباتها النظرية، سواء في فهم التجديد أو في مواجهة الغرب الأيديولوجي. وانتقد الوزير التوفيق في هذا السياق مفهوم (التوحيد السلفي) الذي تحول إلى وصفة سحرية لكنها معطلة لحالة التدين وعلاقته بحياة الناس. لذلك اقترح الوزير التوفيق إطارا تربويا ونظريا موجها للتجديد الميداني الذي تسير على خطاه إمارة المؤمنين في تجديد الدين، باعتباره أفقا استشرافيا، وهذا الإطار التربوي هو التصوف من أجل تحويل المؤمن إلى (إنسان جديد، مصطلح مفتاحي ورد في الدرس)، عبر التزكية بما هي تحرير للإنسان حتى يحب لأخيه مايحبه لنفسه، وعبر الذكر إعمالا له من أجل ايقاظ همة الذاكر. فهذا الموجه التربوي يساعدنا، بنظر الوزير التوفيق، على تجاوز عقدة الهوة بين الدين والتدين، أو قل بين المثال والسلوك، وتحقيق الربط الاستلزامي بين كمال الدين وجودة التدين. وجودة التدين هي العمل بالدين، والتحلي بالتوحيد كسبيل للحرية، وتحقيق الحياة الطيبة التي وعد الله بها الإنسان على شرط الإيمان والعمل الصالح، على قواعد: محاسبة النفس، والشكر برهانا على الإيمان، وآداء حقوق الله والغير والنفس، واعتبار العمل بالقانون من المعروف والإخلال به من المنكر، وتجنب الإسراف والتبذير. تفتحنا هذه المرجعية التربوية، بنظر الوزير التوفيق، على باراديغم جديد هو التوجه التخليقي والإنسان الجديد، بأفق عملي جديد يأخذ فيه العلماء المبادرة بالنزول إلى الميدان، انطلاقا من المسجد، وفي إطار إحياء (جماعة المسجد). يقتضي هذا التوجه التخليقي التواصل والتعارف مع من يوجدون خارج الدائرة الإسلامية، بحكم التزامات الدولة مع العالم، لذا حرص الوزير التوفيق على تكميل الإطار التربوي بإطار نظري جديد على ( التدين المغربي) وعلى المعرفة الدينية المغربية، الرسمية أو الحركية أو الشعبية، أو حتى الأكاديمية. وهو ماظهر في المرجعيات والأشخاص الذين صرح بهم الوزير التوفيق في درسه، وهم: وائل حلاق(فلسطيني مسيحي)، وصاحب كتاب (الدولة المستحيلة)، وتشارلز لارمور Charles Larmor( فيلسوف أخلاق أمريكي)، و ألسدير ماكنتاير Alasdair Maclntyre(فيلسوف أخلاق اسكتلندي). فهذا الثلاثي ينتمي إلى فئة فلاسفة الأخلاق المعاصرين، من الفضاء الأنجلوساكسوني، الأمريكي تحديدا. ثم إن الإثنين الأخيرين يمثلون توجها ليبراليا حداثيا، ويؤسسون لأطروحاتهم الأخلاقية من داخل النموذج الحداثي الصلب، ومازالوا يؤمنون بالحاجة إلى هذا النموذج برغم أزماته وانسداداته، وما سببه بنظر لامور نفسه من الفزع والرعب للإنسان. لذلك جاءت اقتراحاتهم في إطار تصور أكبر يتعلق بالفلسفة السياسية الليبرالية القادرة اليوم على ترميم جدار الحداثة المتهاوي. وجاءت مقترحاتهم في إطار الصراع المستمر الذي دشنته الحداثة أو قل عاشت فيه بين أخلاقها وأخلاق الدين. إن الإطار المرجعي الذي ينطلق منه لارمور وماكنتاير إطار حداثي استقلت فيه الأخلاق عن الدين كما استقلت عنه العلوم، فكيف يمكن تركيب هذا المرجع الحداثي على مرجع تربوي/صوفي يستمد أخلاقه من الدين، فلارمور في كتابه (أخلاق الحداثة) يعالج مشاكل مجتمع حديث تخطى الدين، ويوجد في ماوراء الدين، عالم لم يعدالإله قادرا فيه على تولي شؤونه، ولكن من دون أن يعني ذلك أن إنسان اليوم، في ظل الحداثة الصلبة، قادر على أن يكون وريث الله في تدبير العالم. إن نقاش الأخلاق في درس الوزير التوفيق هو نقاش في الدين، أو في التدين، أو هكذا يفترض، أما نقاش لارمور فهو نقاش في الفلسفة السياسية. فهل هذا يعني أن الباراديغم التوجيهي الجديد للتدين المغربي يستند نظريا على أفكار الفلسفة السياسية، وليس الأخلاق الإسلامية كما تعودنا في الميراث الفقهي والفكري الإسلاميين؟ إن فلاسفة الأخلاق المعاصرين لايجيبون عن أسئلة الدين بل عن أسئلة الحداثة، لذا كانت عناوين بحوثهم تدل على ذلك، فميشيل فوكو كان يبحث عن الاهتمام بالذات واستعمال الملفات في الحداثة، وهابرماس كتب في (أخلاق الحداثة) ، وفرانسوا ليوتار(1924-1998، عالم اجتماع فرنسي) في المختلف، وكتب جاني فاتيمو (1936-2023، فيلسوف وسياسي إيطالي) عن (نهاية الحداثة)، وتشارلز تايلور عن (عظمة الحداثة وبؤسها). وبرغم الموقف الوسط الذي كان يقف فيه لارمور في مجموعة من النقاشات الحادة في علاقة الأخلاق بالدين، فإنه كان يقول باستقلالية الأخلاق عن الدين، وبأن الحداثة هي مصدر تفكيرنا الأخلاقي،( ينظر كتابه: استقلالية الأخلاق، 2008).كما انحاز إلى الأخلاق العقلانية على حساب العدالة الإلهية، وقال بعدم تجانس الأخلاق... لقد قدم لارمور مدونة أخلاقية غنية ومتشعبة، ومملوءة بالنقد والسجال والتنظير، لكنها تفتقد إلى نقطة الارتكاز والثبات التي يوفرها الدين في النماذج الأخرى مثل النموذج المغربي، لذا كان النص الأقرب إلى الأفق الذي يتكلم عنه الوزير التوفيق هو منجز الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، والذي سيستغرب كل متتبع لدرس الوزير التوفيق تغييب أطروحته الأخلاقية وعدم استثمار هذا المنجز في البناء الاستدلالي الذي قدمه درس الوزير. مع أنه ذكر كتاب المفكر الفلسطيني وائل حلاق (الدولة المستحيلة)، وهو كتاب يهدم إحدى قواعد البناء التي ذكرها الوزير في درسه وهي اعتبار احترام قوانين الدولة الحديثة معروفا والخروج عنها منكرا، فكتاب الدولة المستحيلة هو أقرب إلى بيان حرب ضد الدولة الحديثة في المجتمعات الإسلامية، وإعلان انفصال لا رجعة فيه بين الحداثة والإسلام. فإذا كان لارمور يعالج أزمة الحداثة الأخلاقية بأدوات الحداثة، فإن وائل حلاق يشدد على أن هذه الحداثة وأدواتها أعجز على معالجة مشاكلنا، لذلك وضع عنوانا فرعيا لكتابه هو: الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي. لذا كان الكتاب المناسب لأطروحة الوزير التوفيق هو الكتاب الآخر لوائل حلاق بعنوان: (إصلاح الحداثة: الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة طه عبد الرحمن). فمشروع طه عبد الرحمن هو المناسب في هذا السياق، وليس كتب رموز فلسفة الأخلاق المعاصرين، لأنهم، وهم مفكرون عظماء بالمناسبة، يجيبون عن أسئلة حداثتهم، ومن غير المنطقي استحضارهم في سياقات لاتتحمل إجاباتهم، مثل السياق الديني المغربي، وإلا هل يمكن أن نسمع غدا في المسجد فقيها، أو واعظا ومرشدا، أو إماما في الجمعة، يحيل المصلين على لارمور، وماكنتاير، أو يشرح لهم منهجهم الأخلاقي، كما يحيل على الإمام مالك وعلى الغزالي وعلى القاضي عياض... فإذا كان الكلام في الدين من دون ضوابط مرجعية يشوش على اليقين العام للمؤمنين، وإذا كان استثمار الدين في السياسة يسمم الدين والسياسة معا، فإن الحديث في الدين بمنظورات مجتثة من سياقاتها، ينبئ بخطر على باراديغم دين المجتمع وتدينه، بما يهدد الأمن الروحي للمواطنين، وبما يسبب أتعابا لإمارة المؤمنين في تدبير الشأن الديني في هذه الظروف الصعبة فكريا ودينيا. إن استثمار مفاهيم الفلسفة السياسية الليبرالية في معالجة قضية التجديد في الدين قد زج بدرس الوزير التوفيق في نقاش أقرب إلى السجال السياسي، فهي مفاهيم صلبة مستخرجة من تاريخ معقد من خصومة الحداثة والدين، بما يزيد في تسييل الدين تصورات ومفاهيم وقواعد ومعاملات(التسييل، من السيولة، تنظر أطروحة الفيلسوف البولندي زيغمونت باومانZygmunt Bauman(1925-2017)) ، واقتلاع كل ثابت في الدين، وتحويله إلى منظومة من (اللايقين)، بما يشكل خطرا على النسق الديني برمته. وقد برز هذا النوع، ربما غير الواعي وغير المقصود في درس الوزير، في ختامه، عندما قال، من غير سياق منسجم وتنبيه مسبق، بأن (تسديد التبليغ) هكذا، يخفف من كلفة التدبير السياسي، ومعرفا السياسة بأنها تدبير الضعف الذي خلق عليه الإنسان، وأن النفقات العمومية تكون على مقدار هذا الضعف، وإذا تقوى الإنسان بالتربية على محاسبة النفس والشكر على انفاق الجهد والمال فإن تكلفة التدبير السياسي ستنخفض لامحالة. كما أن اكتساب المناعة ضد التشويش الداخلي والخارجي باسم الدين وضد أنواع الفتنة يساعد على مواجهة التحديات. لقد انزلق الدرس بفعل فتنة الفلسفة السياسية من معالجة شؤون الدين إلى تبرير السياسة بالدين. ولا أتصور أن كل ما ادعيته في هذا التحليل يقصده الوزير في درسه، ولكنه يحفز على التأويل في ذلك الاتجاه، بما يتطلب المزيد من الدقة في التعبير وفي المعالجة وفي ضرب الأمثلة وذكر الإحالات.