رابعا- إسلامية القضية الفلسطينية: فلسطين أرض إسلامية وهي جزء من الوطن الإسلامي الكبير، هذه هي زاوية النظر التي يجب، في نظر الشيخ الابراهيمي، التعاملُ من خلالها مع القضية الفلسطينية. وهذا يُبيِّن أصالة النظر لديه، وعمق التحليل عنده، خاصة عند استحضارنا أن النزعة الطاغية في المرحلة التاريخية التي عاش فيها هي النزعة القومية في ثوبها العروبي التي كانت تعتبر القضية الفلسطينية شأنا قوميا خاصا بالعرب والعروبة، لا شأنا إسلاميا يفرض على كل المسلمين تحريرها. يوضح ذلك مخاطبا فلسطين وعَبْرها المسلمين قاطبة بقوله: " يا فلسطينُ إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتكِ جروحا داميةً، وفي جفن كل مسلم جزائري في حقِّكِ كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعةً من وطني العربي الصغير. وفي عنق كل مسلم جزائري لك – يا فلسطين – حقٌّ واجب الأداء، وذمام متأكَّدُ الرعاية، فإن الذنْب ليس ذنبُه وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحُول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقِبلته" (نفسه ص 435). لكن هل القول بإسلامية القضية الفلسطينية و إسلامية الصراع العربي – الإسرائيلي معناه تهميش البعد الوطني الفلسطيني وإهمال طاقاته وإمكاناته في المعركة؟ ليس ذاك هو مما يقصده الابراهيمي إنما يقصد، بتعبير د. محمد عمارة، أن " إسلامية الصراع "واقع" يضيف الإمكانات الإسلاميةَ للإمكانات الوطنيةِ الفلسطينية والطاقات القومية العربية ... فهو يَرْفِدها، ولا ينتقص منها، ويدعمها، ولا يضعفها، لأن البعد الإسلامي والدائرة الإسلامية هي واحدة من دوائر الانتماء لإنساننا، تضُمُّ، وتحتضن، وتدعم الدائرة الوطنية والدائرة القومية" ( من كتاب –إسلامية الصراع حول القدسوفلسطين – ص 23). خامسا- في الرَّدِّ على أباطيل الصهاينة في فلسطين: كثيرة هي المغالطات التي يبني عليها الكيان الصهيوني ما يزعمه حقا له في فلسطين، أغلبها ديني يستند على التراث اليهودي المحرَّف، وبعضها أقاويل سياسية كاذبة، وبعضها الآخر مقولات تاريخية مغلوطة، وقد فند كثير من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر ذلك كله بالأدلة الدامغة، مثل الفيلسوف الفرنسي المسلم ( رجاء كارودي)، و عبد الوهاب المسيري، وجمال حمدان، وحامد ربيع، وفهمي هويدي وآخرون، غير أن مما استرعى انتباهي، وأنا أبحث في كتابات الابراهيمي حول فلسطين، أن هذا العالم الكبير تفرد بالتنبيه إلى جوانب لم يتنبه إليها غيره على ما أعتقد، وهي: أ- اليهود، عبر تاريخهم، لم يسعوا يوما إلى تحرير فلسطين من نير أنواع الاستعمار الذي تعرضت له في مراحل متلاحقة من تاريخها، كالبابليين والرومان والصليبيين، عكس المسلمين الذين سعوا دائما إلى تحريرها واسترجاعها إلى حظيرة الإسلام أين تتمتع جميعُ الديانات السماوية، خاصة المسيحية واليهودية، بحسن المعاملة، والحماية، والرعاية لشؤونها ومواريثها في القدس و فلسطين. يقول رحمه الله: " ما بالُ هذه الطائفة تدَّعي ما ليس لها بحق وتطْوي عشرات القرون لتصل – بسفاهتها- وعْدَ موسى بوعد (بفور)، وإنَّ بينهما لمدا وجزرا من الأحداث، وجذبا ودفعا من الفاتحين؟ ما بالها تدعي إرثا لم يَدفع عنه أسلافُها غارةَ بابل، ولا غزو الرومان، ولا عادية الصليبيين؟، مؤكدا على أن التراثَ يستحقه من دافع عنه وحامى دونه" إلى أن يقول: "ما دافع بابلَ إلاَّ انحسارُ الموجة البابلية بعد أن بلغت مداها، وما دافع الرومانَ إلاَّ عُمَرُ، والعربُ، وأبطالُ اليرموك وأجنادين، وما دافع الصليبَ وحامليه إلاَّ صلاحُ الدين وفوارس حطين" "إن العرب على الخصوص، والمسلمين على العموم، حرروا فلسطين مرتين في التاريخ، ودافعوا عنها الغارات المجتاحة مرات، وانتظم مُلكُهم إياها ثلاثةَ عشر قرنا، وعاش فيها بنو إسرائيل تحت راية الإسلام وفي ظل حمايته آمنين على أرواحهم، وأبدانهم، وأعراضهم، وأموالهم، وعلى دينهم، ومن المحال أن يَحيف المسلمُ الذي يؤمن بموسى على قوم موسى" (نفسه ص 436). ب- عنصر ثان، ذو طبيعة قانونية، يستشهد به الابراهيمي لإثبات تملك المسلمين للقدس وفلسطين وهو التملك عن طريق الحيازة. يقول رحمه الله: " ولو أن السيوف الانجليزية أُغمِدت، والذهب الصهيوني رَجع إلى مكانه، وعُرضت القضية على مجلسِ عدلٍ وعقلٍ لا يستهويه بريقُ الذهب، ولا يرهبه بريق السيوف، لقال القانون: إن ثلاثة عشر قرنا كافية للتملك بحق الحيازة" (نفسه ص 436). وفي موضع آخر يقول: " ونحن نريد فلسطين كاملة بالاستحقاق الذاتي، لأننا آخرُ ورثتِها، ولأننا واضعو اليد عليها بالحوز والتصرف كما يقول فقهاء القانون. والصهيونيون يريدونها كذلك كاملة بالحُلم، والطَّمع، والتمني والتباكي، والاحتيال، والاستعانة بالأعداء، وشراء الضمائر الرخيصة" (نفسه ص 448) ج- عنصر الدين: إذا كان الصهاينة يدَّعُون حقا دينيا لهم في فلسطين فإن العلامة الابراهيمي يرد عليهم بمنطق يجمع بين الدين والعقل فيقول: "إن أحق الناس بمدافن الأنبياء هم الذين يؤمنون بجميع الأنبياء" ، وفي موضوع آخر يوضح بأنه إذا كانت فلسطين، كما يقول اليهود الصهاينة، منسكا للديانات السماوية الثلاثة، وقبلة لأهل تلك الأديان جميعا، ف" إن أحقُّ الناس بالائتمان عليها العربَ، لأنهم مسلمون، والإسلام يُوجب احترام الكتب والكِتابيين، ويوجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، ويضمن إقامة الشعائر لليهود والمسيحيين، لا اليهود الذين كذَّبوا الأنبياء وقتلوهم، وصلبوا – بزعمهم – المسيح الصادق، وشرَّدوا حوارييه من فلسطين، وكفروا بمحمد بعدما جاءهم بالبينات " ( نفسه ص 445) ح-عنصر التاريخ: حقائق التاريخ شاهدة بدورها على أن فلسطين للعرب والمسلمين، في ذلك يقول الشيخ: " يقول التاريخ إن العرب لم ينزعوا فلسطين من اليهود، ولم يهدموا لهم دولة قائمة، ولا ثلُّوا لهم عرشا مرفوعا، وإنما انتزعوها من الرومان، فهم أحق بها من كل إنسان". و " إن فلسطين أرض عربية لأنها قطعة من جزيرة العرب، وموطن عريق لسلائل من العرب، استقر فيها العرب أكثر مما استقر فيها اليهود، وتمكن فيها الإسلام أكثر مما تمكنت اليهودية، وغلب عليها القرآن أكثر مما غلبت التوراة، وسادت فيها العربية أكثر ما سادت العبرية" (نفسه ص 436). خامسا- تحرير فلسطين بين عجائب الروح وغرائب المادة: يكاد ينطبق ما سطره الابراهيمي في هذه النقطة على المعركة الدائرة اليوم في قطاع غزة بين مجاهدي حركة حماس وفصائل المقاومة وبين جيش الكيان الصهيوني، الأولون يملكون قليلا من السلاح والعتاد، وكثيرا من الإيمان والثقة في نصر الله، في حين يملك الجيش الصهيوني أحدث ما أنتجته المصانع الأمريكية والغربية من أسلحة فتاكة، وتكنلوجيا متطورة، ومع ذلك فإن الإيمان انتصر على السلاح، والروح انتصرت على المادة، والحق علا على الظلم. وقد قارن الابراهيمي بين ما يملكه الصهاينة من عناصر القوة وما يملكه العرب منها فقال: " ولكن فات أولئك البانين كلَّ شيء على الماديات أن هناك سلاحا أمضى من جميع الأسلحة المادية، وأنه الشرط الأول في نفعها وغنائها، وهو سلاح الروحانيات، من إيمان بالحق، واعتداد بالنفس، وحفاظ على الكرامة، وتقديس للشرف، وإباء للضيم، ومغالاة بالتضحية والفداء، واستخفاف بالظلم والظالمين. و فَاتَهم أن العرب وإِنْ نَزُر حظُّهُم من القوى المادية التي لا يستهين بها إلاَّ جاهلٌ، فإنَّ حظَّهم موفور من القوى الروحية التي لا يستهين بها إلا مغرور. وستتقابل القوتان في فلسطين: قوة الروح ومعها الحق، وقوة المادة ومعها الظلم والباطل. وسيرى العالم أيَّتُهُما تُحطم. وأيَّتُهُما تتحطم؟ وكأن الله جلت قدرته أراد أن تجري التجربة الثانية للسلاح الروحاني امتحانا لقدرته على المقاومة في أرض فلسطين منبعِ الروحانيات على يد وارثيها بالفرض من إسماعيل وابراهيم، وسيُصارف العربُ اليهودَ مادة بمادة حتى إذا بطلت خاصية المادة فضَلُوهُم بتلك الذخائر الروحانية التي اختصوا بها، وستكون العاقبة للروح وعجائبه لا للمادة وغرائبها " ( نفسه ص 444). وليس معنى ذلك، في رأي الابراهيمي، أن يقتصر المجاهدون على قوة الروح وحدها دون الإعداد والاستعداد، بل الدعاء والاستعداد مترابطان ومتلازمان. يقول رحمه الله: " أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم. لا تظنوا أن الدعاء وحده يرد الاعتداء. إن مادة دعا يدعو لا تَنْسخ مادة عدا يعدو. وإنما ينسخها أعَدَّ يُعِد، واستعَدَّ يستعِد، فأعِدُّوا واستعِدوا تزدهر أعيادكم وتظهر أمجادكم " (نفسه ص 470). سادسا – المال والرجال هما واجب العرب لفلسطين: يُقدِّر الامام الابراهيمي عاليا الأعمال التضامنية التي بادر إليها حكام العرب حينئذ على مستوى الأممالمتحدة و كذلك مقالات التنديد والاستنكار التي أجمعت عليها "الصحف والألسنة والأقلام" من "بغداد إلى مراكش "، أو مبادرات الشعوب لعقد المؤتمرات و"التنادي إلى الاجتماعات والمظاهرات "، واجتماع الزعماء السياسيين وممثلي الحكومات العربية ( لاحظ أن كل هذه الأمور هي ما يجري اليوم للتضامن مع قطاع غزة). لكن هل هذا يكفي؟ هل ما ذُكِر هو كلُّ ما لفلسطين على العرب من حقوق؟ يرى الإمام الابراهيمي، علاوة على ما سبق، أن الطريق الأصوب هو "فتح باب الموت على مصراعيه" أي أن الكفاح المسلح هو سبيل التحرير، وهو ما قام به عرب فلسطين ( يقصد في أواسط القرن الماضي) وشرعوه لجميع العرب. لكن العرب خذلوا الشعب الفلسطيني ولذلك تساءل الشيخ بمرارة ظاهرة: " أعمال عرب فلسطين (= المقاومة المسلحة) مُقدِّمةٌ فأين الكِتاب؟ وطليعةٌ فأين الكتائب؟ وواجبٌ فأين مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب؟ " ( نفسه ص 454). وعند هذه النقطة يلتمس الشيخ العذر للفلسطينيين لكنه يُحمِّل المسؤولية للعرب والمسلمين في كل بقاع الأرض "ما على عرب فلسطين – عدا ذلك- من سبيل، إنما السبيل على العرب في مشارق الأرض ومغاربها، حكوماتٍ وقادةً وشعوبا، رجالا ونساء، وليست القضيةُ قضية جماعة أو حكومة أو قُطر، إنما هي مسألة العرب جميعا، لا يستبرئون لعهد العروبة وأمانتها إلا بالقيام بها جميعا. ثم هي بعد قضية استعمار أحول، رِجْله في فلسطين وعَيْنه على العراق والخليج وأعالي اليمن، وعَيْنه الأخرى على مصر، فإذا لم يبادر العرب بالاصطلام بادرَهم بالالتهام: هما خُطَّتا: إمّا إسارٌ ومنةٌوإما دمٌ، والموت بالحر أجدر. ليت شعري إن هذا القول ليصدق أشد ما يكون الصدق على ما يقع اليوم في غزة ذلك أن أبطال حماس والجهاد وباقي الفصائل المقاومة قد أبلوا البلاء الذي لا بلاء بعده في الدفاع عن القدس والأقصى لكن أين الكتائب العربية والإسلامية التي تحمي ظهرهم، وتقاتل إلى جانبهم؟ يحدد الابراهيمي ما يجب على المسلمين أن يبادروا به نصرةً لفلسطين في أمرين: المال والرجال. يقول رحمه الله: " إن الواجب على العرب لفلسطين يتألف من جزءين: المال والرجال، وإن حظوظهم من هذا الواجب متفاوتة بتفاوتهم في القرب والبعد، ودرجات الإمكان وحدود الاستطاعة، ووجود المقتضيات وانتفاء الموانع، وإن الذي يستطيعه الشرق العربي هو الواجب كاملا بجزئيه لقرب الصريخ، وتَيَسُّر الإمداد، فبين فلسطين ومصر غلوة رام، وبينها وبين أجزاء الجزيرة خطوط وهمية خَطَّتها يد الاستعمار، وإذا لم تحمها الجامعة فليس للجامعة معنى. وإذا لم تهتبل لمحوها هذا اليوم فيوشك أن لا يجود الزمان عليها بيوم مثله " (نفسه ص 455). وقد صدقت نبوءة الابراهيمي ذلك أن الجامعة العربية أهدرت الفرصة المتاحة لها يومذاك فبقيت مشكلة فلسطين بكل تعقيداتها إلى اليوم. والواجب المطلوب ينقسم، بحسب الفئات المخاطبة ، إلى واجب الدول، وواجب الحكام، وواجب المثقفين، وواجب الشعوب. بخصوص واجب الدول العربية فقد حدده في التصميم، والاعتزام، والحسم، والنظام، والإجماع. أما واجب زعماء العرب فقد لخصه في الاتفاق، وتوقي عيوب الزعامة، وتجميع قوى العرب الروحية والمادية نحو فلسطين، وعدم الانشغال بالجزئيات عن الكليات كما يريد لهم العدو الصهيوني. أما رجال الفكر و صناع الثقافة فقد أوضح الابراهيمي أن دورهَم يتجلى في تأجيج نار النخوة والحفاظ عليها، وإثارة الهمم الراكدة، والمشاعر الراقدة، وأن ينفُخوا في الأمة روحا جديدة فيها كل ما في التيار الكهربائي من نار ونور. وأخيرا فإن على الشعوب العربية الإسلامية واجبا يتمثل أن تبذل لفلسطين كلَّ ما تملك من أموال وأقوات، وأن تندفع كالسيل للقضاء على بني صهيون. سابعا – مقترح عملي لدعم فلسطين بالمال: ينطلق الابراهيمي عليه رضوان الله من قاعدتين، الأولى هي الحزم والفعالية بعيدا عن التقصير والأقوال الفارغة، يشرح ذلك قائلا: " إن مما يُرهب عدوك ويحمله على احترامك، أن تكون عاقلا حازما، وأن تكون فعَّالا لا قوَّالا"، مذكرا في هذا السياق بأن مما يَتَّهم به الغربُ العربَ أنهم "أمة أقوال لا أفعال". والقاعدة الثانية هي أن كلَّ غال رخيصٌ في سبيل فلسطين. لذلك بادر إلى اقتراح عملي وإجرائي لدعم فلسطين بالمال يقوم على تكوين لجان مركزية في كل عاصمة عربية تتفرع عنها لجان فرعية في الأقاليم تكون مهمتها جمع الأموال لفائدة فلسطين. يقول رحمه الله: " إن صوم أسبوع في الشهر، وادخار نفقاته لفلسطين، لمما يسْهُل على الفقير، وإن هجر الشهوات أسبوعا من الشهر وإرصاد نفقاته لفلسطين لما يسهل على الغني، وإن هجر الملاهي المبيدة للمال شهرا كاملا ووقف ما كان يُنفَق فيها على فلسطين لأمرٌ ميسور للغني والفقير معا، وإن التعفف عن كماليات الحياة عاما كاملا وشراء شرف الدهر بقيمها لأمر غير بعيد عن همة العربي، وإن النور الذي أشرق في نفس عثمان بن عفان فخرج من ماله وجهز جيش العسرة لَغيرُ غريب عن نفس المسلم" ( ص459). وحتى يكون الابراهيمي قدوة لغيره من أبناء الأمة فقد أعلن أمام الملأ أنه متبرع لفلسطين بكل ما يملك، يقول في ذلك : " ... ولكنني أملك من هذه الدنيا مكتبة متواضعة هي كل ما يرثه الوارث عني، وإنني أضعها خالصا، مخلصا، بكتبها وخزائنها، تحت تصرف اللجنة التي تشكلت لإمداد فلسطين، ولا أستثني منها إلا نسخة من المصحف للتلاوة، ونسخة من كل من الصحيحين للدراسة" (ص459). رحم الله العلامة الابراهيمي وأجزل مثوبته فقد كان قدوة في العلم، قدوة في العمل، وقدوة في الجهاد.