في إحدى مقالاتنا السابقة تطرَّقنا إلى بعض أهم العناصر المشَكِّلة لرؤية العلامة المغربي عبد الله كنون لموضوع القدسوفلسطين. و اليوم، ولمزيد من استجلاء رؤى قادة النهضة، والإصلاح، في العالم العربي الحديث، لنفس الموضوع، سنتطرق في هذه المقالة إلى فكر رمز آخر ينتمي إلى إحدى دول المغرب الكبير، الجزائر الشقيقة، وهو العلامة محمد البشير الإبراهيمي، الذي يُعدُّ ثاني اثنين قَادَا الأمةَ الجزائرية على طريق التحرير انطلاقا من قيمها الحضارية والثقافية المؤسَّسة على إسلام الكتاب والسنة، بعيدا عن فِكْرَيْ التقليد والتغريب، أولهما الإمام عبد الحميد بن باديس مؤسس ورئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، و أحد رواد حركة التجديد الإسلامي الحديثة، وثانيهما الشيخ محمد البشير الابراهيمي نائبه في الجمعية ورفيقه في درب النضال الوطني والتعبئة الشعبية، الذي يقتعد بدوره مكانة وأَيُّ مكانةٍ بين رجال الفكر والدعوة، وقادة النهضة والإصلاح في العصر الحديث. ومما يستلفت نظر الباحث أن استحقاقات التحرير والجهاد ضد المستعمر الفرنسي للقطر الجزائري، ما كانت لتمنع الشيخ الابراهيمي من الاهتمام الواسع بآلام وآمال إخوانه في بقية أقطار العالم الإسلامي، وعلى رأسها قضية فلسطين، مُجسدا بذلك أقوى ما يكون التجسيد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". وهذا لعمري أبلغُ رد على دعوات الانعزالية البغيضة و القطرية المقيتة التي يستند إليها رافعو شعار "فلسطين للفلسطينيين". أولا- فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه وسلم عند المسلمين: من المعاني الأساسية في علاقة الإنسان المسلم بفلسطين أنه ليس مُخيَّراً بين أن يُحِب فلسطين أو لا يحبها، بين أن يهتم بها أو يتجاهلها، بين أن يسعى لتحريرها أو يقعد عن ذلك. الأمر ليس كذلك لأن حبَّ فلسطين هو من صميم العقيدة، وعلامة من علامات صدق الانتماء إلى هذا الدين، وهو مبنِيٌّ على حشد هائل من المواريث الدينية، قرآنا، وسنة، وتاريخا، وحضارة. يقول العلامة الابراهيمي مخاطبا فلسطين ومُبرزا هذه المعاني: "يا فلسطينُ إذا كان حبُّ الأوطان من أثر الهواء، والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب، فإنَّ هوى المسلم لكِ أنَّ فيكِ أُولى القبلتين، وأن فيكِ المسجدَ الأقصى الذي بارك الله حوله، وأنكِ كنتِ نهايةَ المرحلة الأرضية وبدايةَ المرحلة السماوية من تلك المرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودا بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطا. وإليكِ إليكِ ترامَتْ همِمُ الفاتحين، وترامت الأيْنُق ( جمع ناقة) الذُّللُ بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام، وشرائعَ الإسلام، وتنقل النبوة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمارَ الوحي الجديد إلى منابت الوحي القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله، ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويما من الإسلام عليكِ، وكانت الثالثةُ وِرْدا، وكانت النتيجةُ أنَّ الإسلام طهَّركِ من رِجْس الرومان، كما طهَّر أطرافَ الجزيرة من رجس الأوثان " (كتاب آثار الإمام محمد البشير الابراهيمي ص 435). و يؤكد الابراهيمي على أن التفريط في فلسطين والتخلف عن واجبات تحريرها، هو عين العقوق للوطن الأكبر، والخيانة للدين الجامع، و سبب الخسران في الدنيا والآخرة: " إن فلسطينَ وديعةُ محمد عندنا، وأمانةُ عمر في ذمتنا، وعهدُ الإسلام في أعناقنا، فَلَئِن أخَذَها اليهودُ مِنا ونحن عصبة إنَّا إذاً لخاسرون " ( نفسه ص 445) و " من لم يَقُم بالحق، ولم يَفِ بالعهد، وُسِم بالعقوق لوطنه الأكبر، ووُصِم بالخيانة لدينه الجامع" (نفسه ص 452). ثانيا- لا أعياد عند المسلمين حتى تتحرر فلسطين: موقفٌ بليغٌ يجسد أخلاق الشهامة، والمروءة، ذاك الذي سطَّره الإبراهيمي في مقالة مؤثرة بعنوان ( عيد الأضحى وفلسطين) كتبها عقب صدور قرار التقسيم المشؤوم عام 1948، ودعا فيها المسلمين إلى عدم الاحتفال بأكبر عيد ديني لديهم وهو عيد الأضحى المبارك حتى تتحرر فلسطين، ويُجْلَى الصهاينةُ منها، فكيف بالاحتفال بما دونه من الأعياد؟ وكيف بما ليس بِعِيدٍ أصلا ؟ وكيف بما هو من قبيل أعياد "الكلاب" ومهرجانات "الكلاب" ومسابقات "الكلاب" التي نُظِّمت بدولة إسلامية معروفة في عِزِّ الإبادة التي تتعرض لها غزة هذه الأيام؟ ! يقول رحمه الله: "النفوس حزينة، واليوم يوم الزينة فماذا نصنع؟ إخوانُنا مُشرَّدُون، فهل نحن من الرحمة والعطف مُجرَّدون؟ تتقاضانا العادةُ أن نفرح في العيد ونبتهج، وأَنْ نتبادل التهاني، وأن نطرح الهمومَ، وأن نتهادى البشائرَ. وتتقاضانا فلسطينُ أن نحزَنَ لمِحْنَتها ونَغْتَمَّ، ونُعْنَى بقضيتها ونَهْتمَّ. ويتقاضانا إخوانُنا المشردون في الفيافي، أبدانُهم للسَّوافي (أي الأمراض)، وأشلاؤهم للعوافي ( بمعنى تأكلها السباع والطيور)، أنْ لا نَنْعَم حتى ينعَمُوا، وأن لا نطعَم حتى يطعَمُوا. ليت شعري.. هل أتى عُبَّادَ الفلس والطين، ماحل ببني أبيهم في فلسطين؟ أيها العرب ! لا عيد حتى تُنفِّذوا في صهيون الوعيدَ، وتُنجزوا لفلسطين المواعيدَ، ولا نَحْر حتى تقذفوا بصهيون في البحر. أيها العرب ! حرامٌ أن تنعَموا وإخوانكم بؤساء، وحرامٌ أن تطعَموا وإخوانكم جياعٌ، وحرامٌ أن تطمئن بكم المضاجعُ وإخوانكم يفترشون الغبراء. أيها المسلمون ! افْهَمُوا ما في هذا العيد من رموز الفداء، والتضحية، والمعاناة، لا ما فيه من معاني الزينة، والدعة، والمطاعم، ذلك حق الله على الروح، وهذا حق الجسد عليكم".( نفسه ص 462/463) وهنا لابد من الإشادة بموقف الكنيسة المسيحية بفلسطين التي ألغت احتفالات عيد ميلاد السيد المسيح لهذا العام تضامنا مع أهلنا في غزة الذين يتعرضون لإبادة جماعية، وتطهير عرقي، لامثيل لهما في التاريخ الحديث. ثالثا – الصهيونية استعمار من طراز جديد: ما كتبه الإمام الابراهيمي عن قضية فلسطين دليل على وعيه العميق بالموضوع، وإحاطته الشاملة بجوانبه، وإدراكه المبكر لأهداف الصهيونية ولعلاقاتها المتشابكة مع قوى الاستعمار الغربي، ولأساليبها الخبيثة في التأثير على قراراتها لجهة خدمة مخططاتها للاستيلاء ليس على أرض فلسطين التاريخية وحسب ولكن على المنطقة العربية برمتها. أ-الصهيونية استعمار لكنه من طراز جديد: يقول رحمه الله في بيان خصائص الاستعمار الصهيوني: " إنَّ الصهيونية فيما بَلوْنا من ظاهرِ أمرها وباطنه نظامٌ يقوم على الحاخام، والصيرفي، والتاجر، ويتسلَّح بالتوراة، والبنك، والمصنع، وغايتها جمع طائفة قُدِّر لها أن تعيش أوزاعا بلا وازع، وقُدِّر لها أن تعيش بلا وطن – ولكن جميع الأوطان لها – فجاءت الصهيونية تحاول جمعها في وطن تسميه قولا فلسطين، ثم تفسره فعلا بجزيرة العرب كلها، فهو في حقيقته استعمار من طراز جديد في أسلوبه، ودواعيه، وحججه، وغاياته ، يجتمع مع الاستعمار المعروف في أشياء، وتُفرِّق بينهما فوارق، منها أن الصهيونية تعتمد قبل كل شيء على الذهب، تشتري به الضمائر، والأرض، والسلاح ، وتشتري به السكوت والنطق، وتشتري به الحكومات والشعوب، تعتمد عليه وعلى الحيلة، والمكر، والتباكي، والتصاغر في حينه، وعلى التنمر والإرهاب في فرصته" (نفسه ص 437). ب- الحلم الصهيوني يتجاوز فلسطين بكثير: التوسع والحلول محل السكان الأصليين هو نهج الصهاينة لتحقيق حلمهم الكبير بإنشاء "دولتهم" الممتدة بزعمهم على أراضي فلسطين، والشام، والعراق، والجزيرة العربية، ومصر. يقول الشيخ: "إن أحلام صهيون قد عرفها الناس وعَرفوا أنها تمتد إلى جزيرة العرب كلها وإلى جزيرة سيناء، وقطعة من أرض مصر، ومن عاش آلاف السنين في أضغاث، ولم تتحقق له واحدةٌ منها في شِبر، حقيق بأن يعيش آلافا أخرى من السنين في حواشي الأضغاث بعد أن تحققت له في مئات الأميال" ( نفسه ص 448) ج-التحكم الصهيوني في مراكز صنع القرار بالدول الغربية: وقد مثل لذلك بفرنسا التي كانت وقتها تستعمر الجزائر، بلد الابراهيمي. يقول رحمه الله: " نحن لانجهل تغلغل الصهيونية في فرنسا، ولا نجهل تحكم اليهودية في مرافقها الحيوية، وفي جهازها الحكومي، بل في كيانها الذي هي به أمة، بل نَعُدُّ فرنسا ومستعمراتها كلها مستعمرة واحدة يهودية، بل نستغرب مطالبة اليهود بوطن قومي مع أن فرنسا كلها وطن قومي لهم، لم يفقدوا فيه إلا الاسم وما أهونه... " (نفسه ص 461). وهذه ما يفسر دعم فرنسا الكامل لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة في هذه الأيام حتى إن هناك محاولات لاستصدار تشريع يمنع أي انتقاد للصهيونية وليس فقد لليهودية. وقد سبق للأديب الكبير عباس محمود العقاد أن وضح أن من ضمن أهداف الصهيونية: "إغراء الدول العظمى التي بيدها الحل والعقد بربط مصالحها بمصالح اليهود في إقامة دولتهم في فلسطين والتحدث على كل دولة بما يتماشى مع هواها بأهدافها القريبة والبعيدة، وقد استغل الصهاينة القوى الكبرى للعالم للوصول لمآربهم" ( ص 12 من كتابه – الصهيونية العالمية-) ح- لا حل سوى استئصال الصهيونية: بحسه الإسلامي المرهف، وبفقهه العميق للواقع، ومن قراءته المبصرة لتاريخ الصهيونية الأسود، أدرك الابراهيمي أنه لا حل لأزَمَات العالم عموما ولِأَزمات العالمين العربي والإسلامي خصوصا إلا بالقضاء المبرم على الصهيونية التي شبهها بمرض السرطان الذي لا دواء له إلا البتر والاستئصال. يقول موضحا ذلك: " وما أجهل العربَ إذا لم يعالجوا هذه الجرثومة الصهيونية الخبيثة بالاستئصال ! إنهم –والله- إِنْ لا يفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (نفسه ص447). وها نحن، بعد مرور 75 عاما على إنشاء الكيان الصهيوني نشاهد بأم أعيننا أن أزمات أمتنا كالتخلف الحضاري، والتجزئة القطرية، والحروب المدمرة، والعصبيات الطائفية، إنما سببها الرئيس هو الأخطبوط الصهيوني المزروع في خاصرتها. وها نحن نرى أن اغلب أزمات العالم المعاصر سببها الرئيس هو اسرائيل. ثالثا- فلسطين ضاعت بكثرة الكلام وقلة العمل: يرى الشيخ الابراهيمي -بحق- أن عملَ الصهاينة للاستيلاء على فلسطين يقوم على التخطيط الدقيق المبني على إعداد المال (السيطرة على الاقتصاد العالمي عبر الشركات التجارية الضخمة)، والرجال ( تهجير عشرات الآلاف من يهود الشتات إلى فلسطين) والحلفاء (تسهيل الانتداب البريطاني على فلسطين)، مع استغلال الوهن العربي، والسعي لمنع اجتماع العرب ووحدتهم ( سياسة التجزئة القطرية). في ذلك كتب كلاما مؤثرا يقول فيه: " يا قومُ ! ما ظُلِمت فلسطين يوم قُسِّمت، ولكنها ظُلِمت يوم بَذَل بلفورُ وعده للصهيونيين باسم حكومته، وما مِنَّا -أهلَ هذا الجيل– إلاَّ من شهد يوم الوعد، وشهد يوم التقسيم، وشهد ما بينهما، ومن عرف مصادر الأمور عرف مواردَها، فانظروا – ويحكم – ما ذا فعل الصهيونيون من يوم الوعد إلى يوم التقسيم وانظروا ما ذا فعلنا. عَلِم الصهيونيون أن الوعد لا يعدو كوْنَه وعدا، وأنَّ نصه الطري اللين هو: " أن انكلترا تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين"، فأعَدُّوا لتحقيقه المال، وأعدوا الرجال، وأعدوا الأعمال، واتخذوا من الوقت سلاحا فلم يُضيِّعوا منه دقيقة، واستعانوا بنا علينا ... فاكتسبوا من ضعفنا قوة، ومن جهلنا قوة، ومن تخاذلنا قوة، ومن غفلتنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، وأصبحت هذه القوات كلُّها ظهيرا لهم علينا. وعلمنا نحن أن ذلك الوعدَ وعدٌ انجليزي وَعَد بلفورُ به اليهود عند حاجته إلى ذهبهم، كما وعد الشريف حسينا بخلافة شاملة ووحدة كاملة عند حاجته إلى تخذيل الأتراك، وأن الوعود الانجليزية شيء عرفناه-زعمنا- بعضه من بعض، يُخلف مع اليهود كما أخلف مع الشريف حسين. وتعامينا عن الفوارق العظيمة بيننا وبين اليهود، وبين وعود الانكليز لنا ووعودهم علينا. كان الواجب علينا أن نعمل من يوم الوعد لما يَنقُض الوعدَ، فنجمع الشمل المشتت، والهوى المتفرق، ونقضي على الصنائع التي اصطنعوها منا، ونحارب الواعد والموعود بالسلاح الذي يحاربوننا به، ونعلم أن اليهود لا يكاثروننا بالرجال فرجالنا أكثر، ولا يكاثروننا بالشجاعة فشجاعتنا أوفر، وإنما يكاثروننا بالمال والعلم والصناعة، فلو كنا ممن يفكر، ويُقدِّر، ويأخذ بالأحوط الأحزم، لبدأنا من أول يوم بالإعداد والاستعداد، فأعددنا المال، وأعددنا العلم، واستعددنا بالصناعة. وإن في ثلاثين سنة ( يقصد من عام 1917 الى عام 1947) ما يكفي لِأنْ نستعِدَّ كما استعدُّوا، وأكثر مما استعدُّوا. لا بالأقوال والاحتجاجات التي هي سلاح الضعفاء، ولكن بمصانع العقول التي هي مدارس العلم، وبمعامل الأسلحة والعتاد، وبمصايد المال وهي الشركات التجارية، ولو فعلنا لانجحر صهيون في وَجاره، وانكمش من يؤازره اليوم من أنصاره، ولو فعلنا لما كانت مماطلة الأمس ولا تقسيم اليوم". (نفسه ص 441). و الشيخ الابراهيمي لا ينتقص من قيمة الاحتجاجات الشعبية، والفعاليات الجماهيرية التي تعبر عن نبض الشعوب، إنما يدعو أن يعضُدها العملُ في الميدان، والإعدادُ المتواصل للمعركة، والاستعدادُ للموت من أجل أن يحيا الحق، يقول: " إن الإسلام لفي حاجة إلى ذلك النوع السامي من الموت في سبيل الحق، ليحيا الحق" ( نفسه ص442). ويزيد فكرته هذه وضوحا بقوله: "أيها العرب إن قضية فلسطين محنةٌ امتحن الله بها ضمائرَكم، وهممَكم، وأموالَكم، ووجاهتَكم. وليست فلسطينُ لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تُنال بأنها حق في نفسها، وليست تُنال بالهُوَيْنا والضعف، وليست تُنال بالشعريات والخطابيات، وإنما تُنال بالتصميم، والحزم، والاتحاد، والقوة. إن الصهيونيةَ وأنصارَها مُصمِّمون فقابِلوا التصميم بتصميم أقوى منه، وقابِلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه. وكُونوا حائطا لا صَدْع فيه وصَفًّا لا يُرقَّعُ بالكسالى. (نفسه ص 438).