كان المؤشر لغةَ نخبة النخبة. كان لغة الصالونات والبرلمانات، ومقار الحكومات. كان استعماله في الكلام محصورا على خبراء الإحصاء والاقتصاد والسياسة، والاعلام. كان لغة التقارير الخاصة، والدراسات العلمية. كان كلمة سر مشفرة بالنسبة لعموم الناس، يسمعونها ولا يفكون شفرتها. كان الناس يتوجسون خيفة من استعمال كلمة مؤشر حتى حين يتعلق الأمر بمعيشهم اليومي. يدركون أنها الكلمة المفتاح في السياسة كما في الاقتصاد وعالم الأعمال والمال. لكن رغم أنها العملة الأكثر رواجا وسط النخبة التي تتحكم في أرزاقهم وأحوالهم فهم ينظرون إليها بارتياب كبير. يعلمون أن مصائرهم وأحوالهم وحاضرهم ومستقبلهم يختبئ وسط غموض تلك الكلمة، ولا يعرفون هل يحبوها أم يكرهوها؟ يعرفون أنها تستعمل للحديث عن التقدم والتأخر، عن الصعود وعن الهبوط، عن الرخاء وعن الغلاء، عن الفقر وعن الغنى، ... لكنهم لا يعرفون ماذا يعني كل ذلك بالنسبة لهم، هل المؤشر في صالحهم أم ضدهم؟ هل يدبِّر لهم أم يتآمر عليهم؟ وحين ينشب الصراع السياسي والإعلامي حول المؤشرات، ترتفع حرارتهم، فهم لا يعرفون أشرا أرادت بهم المؤشرات أم تريد بهم خيرا؟ اليوم هبط المؤشر من قمته، ونزل من برجه العاجي، ولا ندري هل هبط تواضعا أم مرغما لا بطلا. فأينما وجهت سمعَك بين الناس تجده حاضرا في حديثهم، في البوادي والقرى وفي أعالي الجبال... الجميع اليوم يعرف "المؤشر". لقد أصبح لكل واحد منا مؤشره. لكن تلك المعرفة لا ترى جميعا في المؤشر "وجه الخير". هناك من فرح لأن مؤشره هبط، وهناك من يشكو من كون مؤشره "طالع". وهناك من يتساءل لماذا ارتفع مؤشره؟ اكتشف الناس أن تجاوز مؤشرهم قيمة 9.32 تعني أنهم مصنفون في خانة "لي لاباسعليهوم"، وأن من كان مؤشره يساوي أو يقل عن 9.32، فهو يصنف من "المزاليط". أغلبهم لا يعرف الدلالة الرياضياتية للرقم 9.32، ولا كيف يتم احتسابه بناء على معطياتهم السوسيو اقتصادية، لكنهم يدركون أنه يمثل فاصلا بين "الفقراء" وغير الفقراء. يدركون أنه يمثل عنوان تصنيف اجتماعي جديد قد يحكم يوما سلوك تقديم الصدقات. لكن رقم 9.32، الذي تحول إلى نجم في رياضة الدعم الاجتماعي،يتابعه "الجميع"، ويتقاتل كثيرون ليصبح عنوانهم الاجتماعي. فقد اكتشفوا في البداية أن من كان مؤشره الاجتماعي يتجاوز ذلك الرقم فلن يستفيد من التأمين الإجباري عن المرض، والذي أصبح مشهورا شعبيا ب"لامو"، وأنه للاستفادة من مجانية "لامو" ينبغي أن يكون المؤشر الاجتماعي يساوي 9.32 أو أقل. بعد ذلك ولما أطلق الدعم الاجتماعي المباشر، اكتشف الناس سرا جديدا للمؤشر 9.32، فمن كان مؤشره الاجتماعي يساوي ذلك الرقم أو أقل فهو من المحظوظين الذي سيتوصلون شهريا بمبلغ مالي لا يقل عن 500 درهم. ومن كان مؤشره فوق ذلك فهو من المحرومين من ذلك الدعم. وبهذا الاكتشاف اندلعت حرب اجتماعية باردة، حرب أعصاب وسط الفئات الاجتماعية التي تتطلع إلى "الاستفادة". تطلُّعٌ يجد له مكانا محترما أيضا وسط ما تبقى من "الطبقة المتوسطة". عدد كبير ممن أعطاهم "السيستيم" (systeme) تصنيف 9.32 فما فوق يحسون ب"الظلم" ويسعون إلى "تحسين" مؤشرهم بدحرجته. ولبلوغ تلك الغاية فعليهم إعادة التسجيلوتعديل المعطيات التي سبق وأعطوها ل"السيستيم". هنا يعلب أصحاب "التليبوتيك" و"السيبير" و"المكتبات" دور "كهنة السيستيم". لا يبخل "كهنة السيستيم" على "المظلومين" بالتفسيرات لارتفاع مؤشرهم الاجتماعي، فقد أصبحوا خبراء في هذا المجال. فالذين صرحوا ل"السيستيم" بأنهم "صفر" من الناحية الاجتماعية ولم يفهموا لماذا ظلمهم "السيستيم"، فهؤلاء "الكهنة" يجدون لهم التفسير المناسب: لقد صرحت بأنك تملك هاتفا محمولا! في إحدى الإدارات كان أحد "المظلومين" يحتج، ويتساءل كيف أحرم من حقي في الاستفادة فقط لأن لدي هاتفا اشتريته بعشرين درهم! وتجيبه الموظفة: سير ل"التليبوتيك" إقاد ليك الملف! بعض "المظلومين" ممن صرحوا بشكل فردي يقول لهم "الكهنة" أن الحل هو في البحث عن شخص ثاني و"إدخاله" معك في "السيستيم". وهذا الحل يعتبر الضربة القاضية للمؤشر المشؤوم، حيث يضطر إلى "الانقسام" على شخصين. وبعض "المظلومين" يتساءل مستنكرا: وما ذنبي إن كنت فقيرا يعيش وحده؟ وأين سأجد من أشكل معه "أسرة" في "السيستيم"؟ ويبرز وسط هذا "الحراك الاجتماعي" نوع جديد من "الأسر"، يمكن تسميتها "أسر السيستيم"، وهم الأشخاص الذين اضطرتهم إكراهات "المؤشر" إلى أن يجتمعوا تحت "سقف واحد" في "السيستيم". هنا لا نعطي معلومات دقيقة ورسمية، بل ننقل فقط ما يروج بين الناس، لكنه من الناحية العملية أقرب إلى نهج رسمي في تدبير المؤشر الاجتماعي. في الأوساط الشعبية تحول "المؤشر" إلى أسطورة تنسج حوله القصص، فلكل شخص قصته الفريدة مع المؤشر 9.32، لكن أكثر القصص إثارة هي التي تحكي قصة إرغامه على الهبوط. كما أصبح "المؤشر" موضوع النكت، و"التقشاب" و"الشدان" و ... بل أصبح لغة للتعبير عن المزاج، فمن كان في مزاج سيء يقال عنه "طلع ليه المؤشر". والخلاصة أن "المؤشر 9.32" أنتج ثقافة شعبية استثنائية تصلح أن تكون عنوان التأريخ لوضع اجتماعي واقتصادي استثنائي عنوانه الكبير "الأزمة". أزمة غير مسبوقة في مختلف المجالات، أزمة غلاء، أزمة جفاف، أزمة ماء، أزمة احتقان في القطاعات الاجتماعية، أزمة فساد مخدرات تتوسع دائرته لتشمل سياسيين، ... هذه الثقافة تبصم فترة تمتد على سنتي 2023-2024، وتحيل على عرف المغاربة قديما في التأريخ بالأمراض والأزمات الاجتماعية مثل المجاعة والجفاف وغيرهما. و "عام المؤشر 9.32" يصلح للتأريخ لتلك الفترة. التأريخ ليس فقط لأزمات تلك الفترة، بل أيضا لتنزيل أكبر مشروع للحماية الاجتماعية بالمغرب.