كانت "الهدنة الإنسانية" خلال العدوان الإسرائيلي على غزة مثل فاصل إشهاري /إعلاني في أخطر فيلم من أفلام الرعب الأمريكية، ويستحق هذا الفيلم عنوان "الوحش يدخل غزة". فبعد أن تابع العالم فصول تطهير عرقي وحشي غير مسبوق، استعملت فيه آلة الحرب الصهيونية كل أنواع الاستئصال، من تقتيل وتجويع وترحيل جماعي، وتدمير شامل للعمران، ... جاءت أيام الهدنة كومضة إشهار قصيرة فتحت كوة صغيرة على الحياة، تابع العالم من خلالها بإيقاع سريع صور الحياة المختلفة، صور رهائن يعانقون الحرية يبتسمون ويشكرون ويرفعون شارة النصر، وهم على الأكتاف. وصور حركية اجتماعية تتلمس طريقها بين الأنقاض، أطفال يلعبون ببقايا القصف الوحشي، وتجمعات حول مواد غذائية تشبه الأسواق العشوائية، وأسر يجتمع أفرادها من جديد حول أنقاض منزلهم وقد أحصوا شهداءهم وجرحاهم... ورغم أن صور الموت والخراب هي المهيمنة على خلفية "الومضة الإنسانية" في فيلم الرعب الإسرائيلي الأمريكي، إلا أن صور الحياة البسيطة ومظاهر الفرحة المخلوطة بالحزن والألم، استطاعت أن تفرض نفسها في الواجهة، مما أعطى ل"الفاصل" لمسة إنسانية استثنائية. في فيلم "الوحش يدخل غزة"، دام "الجزء الأول" قرابة 50 يوما، ودامت "الومضة الإنسانية" 7 أيام سريعة، تسللت أشعة شمسها من بين غيوم سوداء كثيفة، سرعان ما خنقها من جديد غبار الدمار الشامل، وأصوات الطائرات الحربية ودوي القصف والتفجير، ومشاهد الدمار الوحشي، وصور الموتى والجرحى، ... ويبدأ جزء جديد من الفيلم، الله وحده يعلم كم سيدوم، وكم من "ومضة إنسانية" ستتخلله قبل أن يصل إلى "النهاية". قبل "الومضة الإنسانية" في فيلم "الوحش يدخل غزة"، اكتشفت شعوب العالم وجها استثنائيا لوحشية التطهير العرقي الصهيوني، كما انكشفت الوجوه الحقيقية لقادة الغرب وزعمائها الذين شاركوا في ذلك التطهير بأشكال مختلفة. ووثق الفيلم كيف صب هؤلاء القادة الزيت على نيران الوحش، وأمدوه بخارطة الطريق، وبالزاد والعتاد، بل وبالمقاتلين. وكيف نشطوا في حملات الدعاية لحسن سيرته، وكيف حاولوا تقديمه في صورة المظلوم الذي يدافع عن نفسه. وثق ذلك الجزء من "فيلم الوحش" أيضا كيف وكزت شعوب العالم قادة الغرب، ليتحولوا إلى مسخ سياسي لا بوصلة له، تتجاذبه الاستجابة لإرادة الشعوب الرافضة لهمجية الوحش، والابتزاز الصهيوني الأمريكي الفاقد للآدمية. وسجل "الفيلم" كيف استيقظت ضمائرهم الانتخابية ليقرروا اللعب على حبلين، حبل الاعلام المنافق، حيث يظهرون التعاطف الإنساني، ويدعون إلى السلام، وحبل سري يراهن على أن يحقق "الوحش" انتصاره. خلال الومضة الإنسانية، كانت العروض السياسية الاعلانية كثيفة، وتابع العالم كيف رق قلب الرئيس الأمريكي فجأة تجاه الأطفال والنساء المفرج عنهم بعد أن عميت عيناه عن آلاف أطفال غزة ونساءها الذين قتلوا، وعشرات الآلاف الذين جوعوا ورحلوا وأرهبوا. لم يرى "جو إبادة" كما أسماه شعبه كمساعد مخرج فيلم "الوحش"، قرابة خمسين ألف امرأة حامل وضع أغلبهن موالدهن وسط الأنقاض، ولم ير الوحش وهو يدمر المستشفيات والمدارس على من فيها. لكنه في "الفاصل الإعلاني" يصادر فضل الاتفاق على "الهدنة الإنسانية"، ويتحدث عن وقف إطلاق النار، وعن إدخال المساعدات، وعن ... وكذلك كان شأن الرئيس الفرنسي ماكرون الذي تحول إلى معارض لمشروع التطهير العرقي بعد أن ساهم بفعالية في التمكين له في أرض غزة، وكذلك كان شأن باقي قادة الغرب. كان "الفاصل الإعلاني" إذن فرصة للدعاية السياسية بامتياز، استغل قادة الغرب ومضته الإنسانية للظهور بالزي الرسمي لدعاة السلام والإنسانية، في محاولة لإعادة ترقيع ما مزقته مخالب جرائم الوحش في غزة. انتهى "الفاصل الإعلاني" بسرعة البرق، وانطلق جيش الاحتلال يعربد من جديد بأسلحته الممنوعة دوليا دون حسيب ولا رقيب. فالوحش يواصل الحرب، ويكتشف العالم من جديد إصرار دولة العدوان على استكمال مشروع التطهير العرقي بأقصى وحشية ممكنة، وبمباركة إدارة جون بيدن دائما رغم شطحات النفاق السياسي التي يسعى من ورائها إلى إيهام الرأي العام بأنه ملَك السلام والإنسانية. وفي "مخبأ" غير بعيد عن غزة، يسلط "الفيلم" أضواءه على قادة الدول العربية والإسلامية وهم مجتمعون، يشيرون إلى غزة في خوف، ترتفع أصوات بعضهم لتخفت أخرى، يدورون حول بعضهم مثل المجانين، يبكي بعضهم، يصرخ بعضهم، يلوذ بعضهم بالصمت الأبدي، يختبئ بعضهم خلف مكاتبهم الوتيرة وأيديهم على رؤوسهم من أن تنهار عليهم تلك المكاتب، يتبادلون الحديث، يصوتون، يكتبون، ثم يتلون بيانا ختاميا. إنهم يواصلون الكلام فيما دولة الاحتلال تواصل الحرب ! كم سيدوم الجزء الثاني من فيلم "الوحش يدخل غزة"؟ وكم "فاصل إنساني" قد يتخلله؟ يعلن رئيس العدوان أنه لن يتوقف حتى يحقق النصر بتحقيق أهداف الحرب. ويذكره الرئيس الفرنسي ماكرون أن ذلك سوف يتطلب عشر سنوات من الحرب. وتوالت تنبيهات قادة الغرب إلى شيء اسمه "المدنيون" والخوف من شيء اسمه "الرأي العام في المنطقة". يشكل "المدنيون" تيمة حساسة في فيلم الرعب الإسرائيلي الأمريكي. فالوحش أعلن مند بداية عدوانه على غزة أن كل من في غزة مجرد حيوانات، لذلك فقتلهم وتعذيبهم وتهجيرهم القسري، وتجويعهم و ... مجرد لعبة للتلذذ السادي. وملف المدنيين الذين هم موضوع التطهير العرقي والتقتيل الوحشي، تظهر في "الفيلم" كروح ملائكية طافت على شعوب العالم ولامست آدميتهم، وأيقظت فيهم جذوة الدفاع عن قيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، وقادتهم إلى الشوارع ليطالبوا بوقف العدوان، ولجم الوحش، وشكلوا بذلك ضغطا قويا على قادتها اضطرهم إلى تعديل مواقفهم لصالح الشعب الفلسطيني وسكان غزة. لمواجهة تلك "الروح" جمع الوحش ومستشاره الأمريكي كل كهنة العالم في التواصل والإعلام لقتلها أو وقفها أو إضعافها، أو التشويش على نشاطها. لكنهم فشلوا، وأعطى ذلك كله لتلك "الروح" زادا وقوة ونشاطا. نقطة ضعف استراتيجية التطهير الإسرائيلية الأمريكية في غزة تكمن في "المدنيين" لكن فقط في علاقتهم بالرأي العام. وهذه العلاقة في مختلف مستوياتها، وما تمثله من خطورة قد تقلب كل شيء على رؤوس مهندسي العدوان على غزة، دفعت الإدارة الأمريكية إلى ابتكار خطاب إعلامي سياسي لتأطير الآلة الإعلامية الغربية، لذر الرماد في العيون والتلاعب بالعقول، وتوفير "الغطاء اللازم" للوحش كي يحقق أهدافه. يظهر "البيت الأبيض" في "مشهد" في "الفيلم" ملطخا بدماء أطفال غزة ونسائها، وبسواد دخان محرقة بيوتها وغبار دمارها. ومن مكتب من مكاتب إدارة الرئيس "جو إبادة" يعلن "البيت الأبيض" اليوم الأحد 4 دجنبر أن (إسرائيل "تبذل جهودا" للحد من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة منذ استئناف القتال). ودون حياء قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي لقناة "أي بي سي" التلفزيونية (حسب "ا ف ب")، "نعتقد أنهم تقبلوا رسائلنا المتعلقة بمحاولة تقليل الخسائر في صفوف المدنيين إلى الحد الأدنى". مضيفا أن الجيش الإسرائيلي استأنف هجومه في شمال غزة "على نطاق أضيق وأكثر دقة"، مشيرا إلى أن إسرائيل نشرت في اليومين الماضيين على الإنترنت خريطة للأماكن حيث يمكن للمدنيين أن يجدوا فيها ملجأ والفرار من القتال. ورأى كيربي أنه "لا يوجد الكثير من الجيوش الحديثة التي يمكنها فعل ذلك" مضيفا "إنهم يبذلون جهودا" ! "المدنيون" في المنطق الأمريكي، كائنات ليس لها حقوق تربطها بأرضها، ويمكن نقلها من مكان إلى آخر لفسح الطريق كي يمر الوحش. فبعد فشل مؤامرة ترحيل سكان غزة إلى خارجها في بلدان الجوار، يطرح الوحش خريطة تنقل السكان عبارة عن "ممرات وسط الأنقاض والألغام" وتباركها الإدارة الأمريكية وتسوقها سياسيا وإعلاميا. لكن الوحش لا يهمه المدنيون، فهو يريد نصرا بطوليا يدخل به مزبلة التاريخ، يريد في "مشهد النهاية" أن يقف على قمة جبل من جماجم الغزاويين، فيبقر بطن آخر امرأة غزاوية حامل، ويستخرج جنينها، فيمزقه بيديه ويستخرج قلبه النابض، فيقضمه بأسنانه، ويسيل الدم على كامل وجهه وجسده، وهو يرفع شارة النصر تحت تصفيقات مصاصي الدماء المحيطين به، من جنرالاته ومنافقي الغرب و"العُرب"، معلنا نهاية نسل شعب أذاقه مرارة الهزيمة النفسية والأخلاقية، كما أذاقه المذلة والهوان. في فيلم "الوحش يدخل غزة" يتصارع بطلان، بطل التحالف الإسرائيلي الغربي، الذي يمثل الوحش. وبطل الشعوب وأنصار العدل والحرية عبر العالم، وتمثله المقاومة التي تقاتل الوحش، وشعب غزة الذي يصمد في وجه الوحش ولا يفر ولا يرحل ولا يتدمر من المقاومة، ويظل رافعا شارة النصر وراية الصمود وهو ينزف دما. يوثق "الفيلم" كيف أن شعب غزة يتألم أكثر حين ينظر جهة "المخبأ" الذي فيه من ينتظر نصرتهم. إنه يسمع صراخهم، ويسمع أيضا أنينهم، وقد قرأ بيان تأسفهم وتسويفهم. هل يطلب جنودهم أو أسلحتهم؟ لا، لا سمح الله! كل ما يطلبه هو يقظة ضمائرهم، وشيئا من الشجاعة في الوفاء لشعوبهم وقضاياهم. في كثيرا من الأعمال الدرامية التي تتصارع فيها قوى الخير والشر، لا يهم من سيهزم الآخر ميدانيا أو حتى يقتله، بل كيف تدار المعركة على مستوى القيم، قيم العدل والحرية والكرامة والإنسانية. وفي فيلم "الوحش يدخل غزة"، دمَّر الوحش وقتَّل ورحَّل وهجَّر وجوَّع وأرهب وعربد، ... لكنه سيضل، هو وكل من يناصره، عند شعوب العالم ودوي الضمائر الحية فيه رمزا للظلم والطغيان. سيضل وحشا!