يقال عادة أن لكل مشكلة مداخل عدة لدراستها، تتفاوت فيما بينها، بحسب زاوية النظر إلى طبيعة مكوناتها المختلفة، وعلاقتها بما يريده الباحث من دراستها؛ وبما أن هدفنا في هذه المقالة الموجزة هو محاولة تملك وفهم ما يجري من تململ وحراك في المدرسة العمومية المغربية اليوم، بعيدا عن وجهات النظر الجاهزة والقبلية، والتي تميل، في معظمها للأسف الشديد، إلى التبسيط والاختزال، في هذا البعد أو ذاك من أبعاد المشكلة القائمة؛من دون النظر إلى هذه المشكلة نظرة متعددة، وبأكثر من عين واحدة، ومن زوايا متنوعة، عسى أن يخرج "القارئ" بفكرة تتوفر فيها الحدود الدنيا من الفهم المطلوب للمشكلة، الذي يعد شرطا ضروريا لاقتراح الحلول الممكنة والبدائل المتاحة. ولعل أقرب مدخل لقراءة المشكلة القائمة اليوم بالمدرسة العمومية هو تحرير القول فيما يخص أطرافها المباشرة، وهم الثلاثي المتشكل من المدرسين والأسر والحكومة. هذه الأخيرة أصدرت مرسوم النظام الأساسي لرجال ونساء التعليم، الذي سبب غضبا وسخطا في صفوف الشغيلة التعليمية، التي سلكت عدة أشكال نضالية، من إضرابات متتالية، مسترسلة ومتقطعة، لما يزيد عن شهر كامل، ووقفات احتجاجية شبه يومية، ومسيرات وطنية وجهوية ومحلية. وكما كان متوقعا فقد وجدت أسر تلاميذ القطاع العمومي أنفسهم في وضعية صعبة جدا، وهم يتجرعون آلام ما يكابدهم أولادهم وبناتهم من هدر لزمنهم المدرسي، بينما هم يصارعون نار غلاء الأسعار التي لا يؤمنون معها، إلا بصعوبة ومشقة كبيرتين، قوت يومهم، فكيف لهم بتأمين مصاريف نقلهم للتمدرس بالقطاع الخصوصي، أو على الأقل، مبالغ غضافية للدروس الليلية؟؟ والحقيقة أن الأطراف الثلاث المذكورة ليست إلا الأطراف الظاهرة للمشكلة المثارة، فهي تظهر على مسرح الأحداث كتعبيرات مختلفة لقوى متصارعة، متضاربة المصالح ومتناقضة الأهداف والتوجهات. فالمعلمون يمثلون الأغلبية الساحقة من أدنى الفئات الوسطى، التي تنجر يوما بعد يوما إلى حافة الفقر والحاجة الملحوظة على مستوى المسكن والمأكل والملبس وتمدرس أولادها. والحق يقال الاستمرار في تصنيف هؤلاء المدرسين ضمن الطبقة الوسطى يحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة. أما الأسر المعنية، فهي تمثل الفئات الاجتماعية الأكثر فاقة وبؤسا، مادمت الكثير من الفقر الفقيرة، تضحي بتقاسم مصاريف قوت يومها، وتطبيبها وصحتها، مع المدارس الخصوصية التي يتمدرس فيها أبناؤها، ولم يتبق من زبائن المدارس العومية إلا أبناء المواطنين الأكثر فقرا، من سكان الضواحي والمداشر والقرى. والتي وجدت نفسها مضطرة أن تضم صرختها إلى صرخة المدرسين المدرسين بالتعليم العمومي. بما يجعلنا في وضعية تحالف موضوعي بين الفئة الأكثر فقرا من الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا من الطبقة الفقيرة، بحكم وحدة المصير والأهداف. علما أن هؤلاء وأولئك ليسوا إلا جزءا، قد يكون الأكبر، من الفئتين المذكورتين، وقد تنضم إلى صرخاتهما صرخات فئات أخرى، إذا لم يتم احتواء مشكلة المدرسة العمومية بما يستجيب للحد الأدنى من مطالب المدرسين وبعث الطمأنينة في أوساء آباء وأمهات المتعلمين. قلنا سابقا، أن الثلاثي المذكور (المدرس والأسرة والحكومة) يمثل الطرف الظاهر من المشكلة الحقيقية، لأننا نعتقد أن السبب الحقيقي لما يجري من مشاكل واضطرابات اجتماعية هو تغول الرأسمال العالمي، الباحث على مراكمة الثروة الفاحشة بنهم وبلا مبدأ، ومن دون أدنى اكثرات بالحس الإنساني الاجتماعي، وما يرتبط بها من ويلات وآفات واضطرابات تهدد السلم الاجتماعي للبلدان والدول. هكذا تمثل الحكومة، مثل كل الحكومات في عالمنا اليوم، الجهة المنفذة، اضطرارا لا اختيارا، للسياسات الجشعة للرأسمال العالمي، التي ترعاها المؤسسات المالية الدولية والشركات العالمية الكبرى، بينما يمثل المدرسون وأسر المتمدرسين نماذج من الفئات المتضررة من هذه السياسات. قد يقول قائل أننا بهذا المنهج التحليلي نقوم بتعويم المشكل فيما هو عالمي، بما قد يوحي برفع القلم عن مسؤولية الحكومات الوطنية، ومن بينها الحكومة المغربية الحالية، من مسؤوليتها، سواء على مستوى المشكل أو على مستوى الحل المطلوب لهذا المشكل. خاصة أن الأمر يتطلب حلولا مستعجلة، نعي جيدا ضرورتها الملحة لعودة الخدمة العمومية بمدارسنا الابتدائية والثانوية. لكن، وبقدر هذا الوعي ندرك أيضا أن طبيعة هذا الحل ستبقى جزئية ومؤقتة، مادام جوهر المشكلة هو السياسات الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، التي تعرف حركتها مدا هائلا، يكاد يجهز على كل مكتسبات الأمن والسلم الاجتماعيين في عدد من بلدان العالم. إن ما يجري من حراك اليوم مرتبط بالمدرسة العمومية صرخة غضب ونداء في الوقت ذاته. الصرخة من الألم الوجودي من أزمة مدمرة للغلاء الفاحش تجتاح الحياة اليومية للفئات الأكثر هشاشة من الطبقيتين الوسطى والفقيرة ، والنداء من أجل حياة اجتماعية بديلة، تتوفر فيها الحلول الدنيا للعيش والكرامة والعدالة الاجتماعية. وجدير بالذكر أن هذا الحراك الاجتماعي، لا يقتصر على المغرب، بل تعرفه عدد من بلدان العالم، وقد لا تقوم به بالضرورة فئة المعلمين، أو أسر المتعلمين، وإنما قد يتجلى في حراكات لفئات أخرى، لا تسلم منها، حتى البلدان الغنية، مثل حركة أصحاب البدلات الصفراء في فرنسا، أو احتجاجات ساكنة الضواحي في عدد من العواصم الغربية، أو حراكات السود في أمريكا وغيرها من الفئات المتضررة التي هي نتاج الصراع بين القوى النيولويبرالية المتوحشة وما يمكنننا تسميته بالقوى الديمقراطية المختلفة في هذا العالم. وهو الصراع الذي أفرز ما يسميه الباحث دفيد هارفي ب""المواطنة المتمردة" (متمردة على الراسمالية العالمية النيوليبرالية وامتداداتها المحلية). هذه الحراكات، وهي حضرية في معظمها، تدافع عن الحق في العدالة الاجتماعية، انبثقت من احتجاجات الشوارع والأحياء والمدن المتهالكة. إنها حسب قول هارفي: "(...) لا تنبع بالأساس من البدع والإلهامات الفكرية المختلفة، بل تنبع أساسا من الشوارع، من الأحياء، كصرخة استنجاد يطلقها المقموعون في أزمنة اليأس". السؤال الذي يطرحه هارفي سؤال مركزي : "كيف يمكن للأكاديميين والمفكرين (..) الاستجابة لهذه الصرخة وهذا المطلب"؟ هنا يعود هارفي إلى فكر هنري لوفيفر ويعتقد أنه مفيد في كيفية استجابته للصرخة والمطلب المشار إليه أعلاه. لاتكمن فائدة لوفيفر فيما طرحه من حلول لأن الوضع الحالي والراهن مختلف عن الوضعية الاجتماعية في ستينيات القرن الماضي. إنه مفيد لأن "أسلوبه الجدلي في التحقيق النقدي الجوهري يمكن أن يقدم نموذجا ملهما عن كيف يمكننا الاستجابة لهذه الصرخة وهذا المطلب". إذ لم تعد الطبقة العاملة اليوم هي المحرك المفترض لأي فعل اجتماعي تغييري، لأن الفئات العظمى المتضررة اليوم من التغول الرأسمالي هي عبارة عن فئات سائلة وليست صلبة، لأن أهدافها واحتياجاتها مختلفة ومتعددة ومتحولة. الفكرة ذاتها أوضحتها أعمال عالم الاجتماع الحضري مانويل كاستيل أحد تلاميذ هنري لوفيفر. هكذا لاحظ هارفي أن اليسار التقليدي ما يزال في غالبيته لا يتعامل مع الإمكانات التغييرية للحركات الاجتماعية الحضرية المختلفة ، ويعتبرها "مجرد محاولات إصلاحية للتعامل مع قضايا محددة (وليست نظامية)، لذلك فهي ليست حركات ثورية ولا حركات طبقية أصيلة"، ومن دون الانتباه إلى تفكك الطبقة العاملة التقليدية، وشبه اختفاء الطبقة العاملة الصناعية الكلاسيكية: عمال غير آمنين، أعمال غير مستقرة، وغير منظمة أجور زهيدة، ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل. وهو ما يفرض، حسب هارفي، : "المشكلة السياسية الكبيرةالمتمثلة في " كيف يمكن لمثل هذه المجموعات البائسة أن تنظم نفسها في قوة " اجتماعية تغييرية؟ إن الجواب المطلوب هو فهم جذور مطالب وصرخات هذه الفئات الهشة المختلفة، وبالتالي معرفة كيف نتعاطى مع هذا التطور؟ وما هي مهمتنا الفكرية والسياسية بخصوصه؟ لا شك أن الرد الفكري والسياسي المطلوب أكثر تعقيدا، لكنه ليس مهمة مستحيلة، مادامت بوادر التمرد في كل مكان: أوربا وأمريكا وأفريقيا وآسيا، ومعظم مواطني عالم اليوم يصرخون قائلين: كفى للمظالم، وأي واحدة من هذه التمردات يمكن أن تصبح معدية، حتى ولو كانت ليست مترابطة فيما بينها ، ولا تربطها أي صلة ببعضها البعض ، على خلاف النظام الرأسمالي العالمي، المتحالف بشبكة علاقات متينة ومصالح قوية، لذلك من الصعب مواجهة هذه التحالفات والمربعات العالمية المصلحية وامتداداتها المحلية، لأن الأمر يتطلب عملا ممنهجا بدرجة أكبر. لكن إذا تجمعت هذه الحركات حول شعار: الحق في العيش الكريم والعدالة الاجتماعية فعليها أن تطالب ب: ديمقراطية أكبر في التحكم في الانتاج واستخدام الفوائض، وهذا يتطلب إصلاح الدولة نفسها وازدياد دور الرقابة الشعبية على حكوماتها. والتصدي لسيطرة رؤوس الأموال والشركات على تدبير سياساتها الاستراتيجية. الحد إلى أقصى حد ممكن من بقاء السلطة في يد نخبة قليلة اقتصادية تسمح للرأسماليين وحدهم، في تدبير سياسات الدول وفق مصالحهم وأهوائهم. لابد من مواجهة القواعد الإيديولوجية للنيوليبرالية التي تفيد أنه في حال وقوع تعارض بين رفاهة المؤسسات المالية ورفاهة الناس يتعين ترك رفاهة الناس جانبا. ضرورة تركيز هذه الحركات على التغيير الاجتماعي الخلاق الذي يؤسس لحق جمعي تجد فيه كل الفئات المجتمعية نصيبها من الثروة الوطنية، وحقها في العدالة الاجتماعية.