(1) من احتقار الأمين العام إلى احتقار الأممالمتحدة نفسها في إحاطته أمام مجلس الأمن بعد حوالي أسبوعين من الحرب على غزة عَبَّر الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش، عن" قلقه جراء الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي الإنساني في غزة" وأكد أن " أيَّ طرف في الصراع المسلح ليس فوق هذا القانون" وأوضح أيضا أن "الشعب الفلسطيني يخضع لاحتلال خانق على مدى 50 عاما" وأن " هجوم حماس لم يأت من فراغ" محذرا من "العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني". هذه التصريحات التي تبدو عاديةً جِدًّا، وأقَلَّ من الواجب المفروض على أمين عام أكبر منظمة عالمية تمثل ما يسمى ب ( الشرعية الدولية) أمام بشاعة الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني على أطفال، ونساء، وشيوخ قطاع غزة، وأمام بشاعة التدمير الممنهج للمدارس، والجامعات، والكنائس، والمساجد، والمخابز، والمطاحن، وأمام سياسة العقاب الجماعية من قطع للماء، والكهرباء، والوقود، والغذاء، كان رد فعل الكيان الصهيوني عليها سريعا، وعنيفا، ولا أخلاقيا في آن واحد. ذلك أن وزير خارجية اسرائيل ندد بقوة بتلك التصريحات، وسفيره لدى الأممالمتحدة، جلعان اردان، تجرَّأ فدعا الأمينَ العام للأمم المتحدة بكل صفاقة إلى الاستقالة الفورية، متهما إياه بأنه " أبْدى تَفهُّماً للإرهاب، والقتل، ولا يصلح لقيادة الأممالمتحدة". وفي خطوة موالية استهدفت الهيئة الدولية نفسها وليس فقط رئيسَها تفاجأ المتتبعون/المغفلون لموقف المندوب الاسرائيلي الذي أقدم على تمزيق قرار هذه الهيئة الأممية أمام أنظار العالم معتبرا أن مكان هذا القرار "في مزبلة التاريخ"، ماذا يقول القرار "الأممي" الذي احتقره مندوب اسرائيل بكل هذه الوقاحة؟ القرار صدر عن الجمعية العامة في اطار الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة لها بأغلبية 120 دولة عضو، في حين رفضته 14 دولة، وامتنعت عن التصويت عليه 45 دولة، ويطالب فقط بهدنة إنسانية في غزة، وبتوفير الاحتياجات الأساسية للمدنيين كالماء، والغذاء، والكهرباء، والوقود، ويرفض بشدة "أية محاولات للترحيل القسري للسكان المدنيين الفلسطينيين". وهنا نقف لنتساءل: هل تحرك الغربُ المهيمن على صناعة القرار الدولي لحماية واحترام قرارات أهم مؤسسة دولية تنبني عليها ما يسمى ب (الشرعية الدولية)، نظريا في الأقل؟. لو أَقْدم ممثلُ أيِّ دولة أخرى غير اسرائيل على مِثْل هذا التصرف، هل كان الجميع سيلوذ بهذا الصمت القبوري؟ هل "علا " الصهاينةُ علوَّهُم الكبير حتى لم يَعُد أحدٌ يستطيع أن يوجه إليهم أبسط انتقاد؟ . هل مات الضمير العالمي؟ . هي أسئلة محيرة للعقل. الذي لاشك فيه أن هذا السلوك الصهيوني سلوك أرعنٌ، يَنِمُّ عن الاحتقار، والعجرفة، والاستعلاء، ورِفضِ الامتثال لكل القواعد التي تحكم العلاقات بين الدول بما في ذلك القانون الدولي الإنساني، و أن الساكتين عنه لا يمثلون الضمير الإنساني في فطرته السليمة، بل هم أشد إجراما من المجرم الأصلي. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. لكن الذي ينبغي أن يَعْرِفَهُ الجميع أن هذا التصرف ليس الأوَّل من نوعه حتى نستغربه. لا. إنه تصرف دأَبَت عليه اسرائيل منذ احتلالها لفلسطين سنة 1948 ، وما زالت متمادية فيه إلى يومنا هذا. وحسب منظمة "رقابة الاممالمتحدة" غير الحكومية فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت بين عامي 2015 و عام 2022 ( خلال سبع سنوات فقط) حوالي 140 قرارا ينتقد ممارسات إسرائيل في فلسطين و الأراضي العربية المحتلة، وفي نفس الفترة لم تُصْدر سوى 68 قرارا يَخُصُّ كلَّ مناطق العالم الأخرى. القرارات الصادرة بشأن اسرائيل بين عامي 2015 و عام 2022، أي "دولة" واحدة: 140 قرارا القرارات الصادرة بشأن بقية دول العالم في نفس الفترة، أي 194 دولة: 68 قرارا القراءة الأولية لهذا الجدول تظهر أن اسرائيل هي مشكلة المشاكل في العالم المعاصر، وأن العالم لن ينعم بالهدوء، والأمن، والسلام، إلا بعد حل معضلة اسرائيل، أي إنهاء احتلالها لكل الأراضي الفلسطينية من البحر إلى النهر. والمعضلة يتحمل تداعياتها من أنشأها من الأصل وهي بريطانيا. فمع هذا العدد الهائل من القرارات الصادرة ضدها، وبالرغم بأن عددها يفوق بنسبة 200 % عدد القرارات الصادرة بشأن نزاعات بقية دول المعمور قاطبة، فإن اسرائيل مازالت متمادية في سلوكها المتعجرف، والمحتقر لكل ما يصدر عن الهيئات الأممية التي يفترض أنها تمثل "الشرعية الدولية"، و الضمير الجمعي للمنتظم الدولي، وما زالت الولاياتالمتحدةالأمريكية للأسف الشديد تقدم لها الحماية، والدعم في كل المحافل. (2) هيئات "الشرعية الدولية" والكيل بمكيالين بعد الحرب العالمية الثانية تشكلت هيئة الأممالمتحدة ومختلف المنظمات التابعة لها لتنظيم العلاقات فيما بين الدول. وقد صدرت عنها مواثيق، وإعلانات، أُرِيد لها أن تَتَّسم بسمة (العالمية) كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثلا. ولذلك فالحديث عن "الشرعية الدولية" هو حديث عن هذه الهيئة، والمنظمات التابعة لها، والقرارات الصادرة عنها، وخاصة مجلس الأمن الدولي الذي أُعطيت له الهيمنةُ على الجمعية العامة وبالضبط في الجانب التنفيذي للقرارات حيث نجد أن خمس دول كبرى تمتلك حق (الفيتو) أي صلاحية تعطيل أي قرار يصدر عن المجلس ولو صوَّتَ لصالحه بقيةُ أعضاء المجلس. ليس لذلك من معنى سوى أن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية منحت لنفسها حق الهيمنة المطلقة على شؤون العالم ! وتكفي مقارنة بسيطة بين شكل تعامل الأممالمتحدة ومجلس الأمن مع العراق بعد غزوه الظالم للكويت في بداية تسعينيات القرن الماضي، وبين تعامل هاتين الهيئتين اللتين تمثلان زيفا وادعاء "الشرعية الدولية " مع مئات القرارات الصادرة عنهما ضد الكيان الصهيوني. العراق يومها – أي سنة 1991 – لم يرفض تنفيذ القرارات الصادرة ضده إنما اشترط للقيام بذلك أن تُبادر اسرائيل إلى تنفيذ ما صدر ضدها قبل ذلك من عشرات القرارات دون أن تُنفِّذ أيَّ واحد منها. وقيل حينها للدول العربية، كذبا واحتيالا، بأن هذه القرارات سيُفرَض تنفيذها على اسرائيل بعد الانتهاء من تحرير الكويت من قبضة صدام حسين. وهو كذب صُراح لم يتحقق منه شيء حتى يومنا هذا. وقصة تدمير العراق، وتقسيمه، ونهب ثروته، وصولا إلى احتلاله بالكامل قصة معروفة للجميع لا داعي لسردها هنا، إنما العبرة أن كلَّ ذلك تم تحت غطاء (الشرعية الدولية) ممثلة في الأممالمتحدة، ومجلس الأمن. في المقابل نجد أن كل القرارات (سطر على لفظة كل) الصادرة ضد اسرائيل بقيت حبرا على ورق، لا قيمة عملية لها، وإن بقيت له قيمة سياسية ومعنوية في أنها سجل أسود لممارسات الكيان الصهيوني، ولتواطؤ مجلس الأمن معها، وللحماية غير المبررة من أمريكا لكل ما تقترفه من عدوان على مدى ثمانية عقود من الزمان. كَمْ كان البروفيسور كميل حبيب، عميد كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية ، محقا ( وإن كان متأخرا جدا) في القول بأن منطق القوة هو الذي يحكم العالم المعاصر وليس منطق القانون "أعتذر- يقول البروفيسور- من طلابي في الجامعة اللبنانية لأنني كنت متشددا في تدريس مقررات القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، ومنظمة الأممالمتحدة، فبعد الجرائم الصهيونية في غزة لم يعد هناك حاجة لتدريس هذه المقررات. حقا منطق القوة هو سيد العالم". وهذه الخلاصة مهمة جدا لجهة أن القانون الدولي لا يستمد قوته من صفته الدولية إنما يستمدها من قوة الطرف الذي يسعى لتطبيقه، فإذا كان هذا الطرف قويا فَرَض على الجميع تطبيق القانون، وإذا كان ضعيفا لا يَسْمَعُ لصُراخِه أحد. إنها تناقضات هذا العالم المتحضر من بين أخرى كشفت عنها عملية طوفان الأقصى. غير أن الذي لفت نظري هو أن علماء مسلمين كبار لم يتخصصوا في العلوم السياسية أو العلاقات الدولية أو في القانون الدولي لكنهم أدركوا بفطرتهم السليمة، وتكوينهم القرآني، هذه النتيجة وكتبوا محذرين منها قبل أزيد من ثلث قرن. لنستمع إلى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وهو يبسط رأيه في هذا الموضوع بالغ الأهمية حيث كتب قائلا: " هل كلمة الشرعية الدولية صادقةُ الدلالةِ، نزيهةُ الغرَضِ، يهِشُّ لها المظلومُ، ويقلق منها الجائرُ؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك. لقد شعرت بذلك مرارا، ولكن رَبَا شُعُوري أو زاد ضيقي عندما سمعتُ أمين عام الأممالمتحدة يقول للإسرائيليين: أعيدوا هؤلاء العرب الذين طردتموهم إلى فلسطين ولو إلى سجن أو معتقل !! قلت: لماذا لم يقل الرجل المسؤول أعيدوهم إلى أرضهم وأهليهم؟ هل الحرية مُحرَّمةٌ عليهم وهم لم يقْتَرِفوا ذنبا؟ هل تُخْلَى منهُم دُورُهُم لنستقدم بدَلَهم مُستوطنين من بولندا أو من روسيا؟ هل هذه هي الشرعية الدولية؟. لكن دولة إسرائيل كما يعرف أهل الأرض مولود غير شرعي وضعته هيئة الأممالمتحدة من عشرات السنين، وفَّرَت له ضماناتِ البقاء ووفَّرَت لغيره ضماناتِ الفناء، وذلك كله في إطار الشرعية الدولية... ويبدو أن ضمير الشرعية الدولية لايزال يحابي الدولة اللقيطة ويسارع في هواها على حساب العرب أجمعين" ( جرعات جديدة من الحق المر ج 4/ص 134) (3) خلاصات واستنتاجات مما سبق نستنتج ما يلي: – دولة العدو الصهيوني هي الدولة الوحيدة التي صدر بشأنها هذا الكم الهائل من القرارات الدولية بحسب منظمة "رقابة الاممالمتحدة" غير الحكومية. وهي بذلك "دولة" مارقة، تستحق الطرد من المنتظم الأممي عقابا لها على مروقها. – من أسف أن دولة إسرائيل مولود غير شرعي وضعته هيئة الأممالمتحدة نفسها من عام 1948. فلا يمكن والحالة هذه إلا أن تحمي مولودها. فهل يعي العرب والمسلمون هذه الحقيقة المُرَّة؟ – رغم مئات القرارات الصادرة ضد اسرائيل، بعضها في قضية واحدة، فإن "الشرعية الدولية " لم تَفْرِض عليها أيَّ عقوبة كالمقاطعة أو الحصار أو غير ذلك من الوسائل الزجرية المتاحة أمام مجلس الأمن، عكس تعاملها في ملفات أخرى لها صلة بالعالمين العربي والإسلامي أساسا. -ليس ذلك فحسب بل إن هيئة الأممالمتحدة بدل المعاقبة كافأت الكيان الصهيوني المجرم بعدة قرارات كبرى منها: إلغاء قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية، ومنها الضغط على الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع اسرائيل وآخرها اتفاقيات ابراهام المشؤمة. (4) حول سؤال: ما العمل؟ الخطوة المستعجلة جدا، جدا، في نظري، هي نجدة سكان قطاع غزة بالغذاء، والماء، والكهرباء، والوقود. وهي مهمة تعلو غيرها من المهام في هذه اللحظة الحاسمة. والمسؤولية هنا لا يجب تعليقها على المرحومة (الشرعية الدولية) بل هي مسؤولية تاريخية تقع على عاتق الدول العربية والإسلامية قاطبة. والخطوة الثانية هي فتح جبهات مواجهة حقيقية مع الكيان الصهيوني في جنوبلبنان، جبهة صراع تُسَاوي أو تفوق ما يجري حاليا في قطاع غزة. والمسؤولية هنا تقع على (حزب الله اللبناني) لأنه باعتباره حركة تحرر لا يخضع، كما أتصور أو هذا هو المفروض، لما تخضع له الأنظمة العميلة للولايات المتحدةالأمريكية من خوف، وهواجس، وضغوط. فإذا كانت حماس وفصائل المقاومة بعتادها القليل مقارنة بترسانة حزب الله استطاعت أن تُهجِّر عشرات الآلاف من الاسرائيليين إلى وسط اسرائيل وحتى خارجها، وأن تزرع الخوف، والهلع، حتى داخل تل ابيب، فكيف سيكون الوضع لو تدخل (حزب الله اللبناني) في مواجهة مصيرية حقيقية مع الكيان الغاصب؟ لا شك أن مصير المعركة سيكون مختلفا، وأن اسرائيل لن يكون أمامها إلا الاستسلام، وإعلان الهزيمة، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. والخطوة الموازية للخطوتين السابقتين هي مواصلة ممارسة الضغط الشعبي السلمي على المصالح الامريكية والغربية في كل أنحاء العالم كما هو مشاهد اليوم في المظاهرات العارمة في لندن، وباريس، وواشنطن، وبرلين، ودبلن وغيرها. أما على المدى المتوسط فإن قواعد القانون الدولي الحالي في حاجة إلى تعديلات جوهرية لجهة بناء نظام قانوني منبثق من أجهزة أممية ديموقراطية، تهدف حقيقة لا خطابا إلى حفظ السلم والأمن العالميين، وذلك يقتضي: – إلغاء مؤسسة مجلس الأمن الدولي. -إلغاء حق الفيتو. – توسيع صلاحيات الجمعية العامة لتكون التعبير الحقيقي عن إرادة غالبية دول العالم التي تنبثق عنها الشرعية الدولية. و أختم هذا المقال بمقتطف من كلمة مندوب فلسطين أمام الجمعية العامة: تَبًّا لواقع تُقتل فيه غزة من جديد أمام كاميرات العالم ! تَبًّا لكل مَنْ يبرر للقاتل أفعاله! تَبًّا لكل من لا يقف مع شعبنا في غزة ويوقف المجزرة ! تَبًّا لمنبر الأممالمتحدة إن لم تُقَلْ منه كلمةُ الحق ! وتنفذ !