جاء القرن التاسع عشر، والإمبراطورية العثمانية في أشد حالات تفككها وانحلالها، فبدأت المخططات الاستعمارية الغربية تستهدف فلسطين وعروبتها، وقد تبلورت هذه المخططات عندما حاول علي الكبير خديوي مصر منذ أكثر من مئة عام توحيد المشرق العربي والقضاء على الإمبراطورية العثمانية المتداعية إذ ثار ذعر الأقطار الغربية ولا سيما بريطانيا الدولة الاستعمارية الأولى في ذلك الوقت فأصبحت سياسة الدول الغربية عموما وبريطانيا خصوصا تقوم على أساس سياسة ثابتة عمادها الحيلولة دون توحيد العالم العربي والتدخل مباشرة حينا ومداورة حينا آخر تحت ستار حماية الأقليات الدينية إلى أن أتاحت لها الظروف إقامة دولة «إسرائيل» لتتولى عنها هذه المهمة، وذلك عن طريق استغلال المسألة اليهودية التي هي في التحليل الأخير مشكلة أوروبية غربية بحتة وتشجيع الحركة الصهيونية العالمية التي تهدف إلى اقتلاع يهود العالم من مجتمعاتهم التي يقيمون فيها من مئات السنين وإحلالهم محل سكان فلسطين الأصليين الذين يقيمون فيها منذ آلاف السنين ، لأن اليهود أصبحوا يشكلون قوة اقتصادية و سياسية في الدول الغربية تهدد الهوية الأوروبية ، و لهذا خططوا لتهجيرهم إلى فلسطين للتخلص من شرورهم ومكائدهم . وهكذا بدأت الصهيونية تترعرع في أحضان الغرب الأوروبي المتواطئ ، فتمكنت سنة 1897 من عقد مؤتمرها الأول في مدينة بازل السويسرية بفضل جهود الصهيوني الأول تيودور هرتزل الذي تمكن فيما بعد من الحصول على تأييد بريطانيا الرسمي من خلال وعد بلفور المشؤوم سنة 1917 الذي يعتبر وثيقة رسمية، ومن أغرب الوثائق الدولية في التاريخ إذ منحت بموجبه دولة استعمارية أرضا لا تملكها وهي فلسطين إلى جماعة الصهاينة التي لا تستحقها على حساب من يملكها شرعا ويستحقها وهو الشعب العربي الفلسطيني مما أدى في النهاية إلى اغتصاب وطن وتشريد شعب بكامله على نحو لا سابقة له في التاريخ الإنساني. بعد ذلك تطورت الأحداث بسرعة وفرض على فلسطين الانتداب البريطاني وبدأ تنفيذ المخطط الاستعماري الصهيوني عن طريق تهجير اليهود التائهين في العالم إلى أرض فلسطين، ثم تخلت بريطانيا عن القضية الفلسطينية لتعرضها على الأممالمتحدة التي أصدرت قرارا بتقسيم فلسطين، ثم انسحبت بريطانيا فجأة في 15 مايو 1948، و من الأخطاء السياسية التاريخية أن الدول العربية و على رأسها دول المغرب العربي ، قامت في نفس السنة بمضياقة اليهود سكان هذه الدول ، و بذلك ساهمت هذه الدول في تهجيرهم إلى فلسطين و هي تجهل أن هذه العملية كانت في خدمة الصهاينة الذين كانوا يهدفون إلى تعمير فلسطين و في المقابل تمت الهجرة المعاكسة لسكان فلسطين العرب أصحاب الأرض الأصليين فتشتتوا في الوطن العربي و خارجه ، و تركت الدول الغربية المجال أمام العصابات الإسرائيلية لتعلن باسم زعيمها بن جوريون ولادة ما يسمى اليوم ب ( دولة إسرائيل ) و الذي كان أول من خطط لصنع القنبلة الذرية في إسرائيل سنة 1950 , و لو بدأنا بالبرنامج النووي الإسرائيلي فسنجد أنه في ذات العام أقامت وزارة الأمن الإسرائيلية فرعا للبحوث النووية في معهد وايزمان في تل أبيب و في عام 1552 تأسست لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية و في عام 1952 أصبح لإسرائيل القدرة على إنتاج الماء الثقيل و اليورانيوم المخصب و هنا جاء دور الدعم الخارجي حيث حصلت إسرائيل عام 1955 على مفاعل نووي للأبحاث من الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وكانت النتيجة خلق عدم التوازن في المنطقة و بالتالي احتلال اليهود لمعظم أراضي فلسطين، أما الفلسطينيون سكان الأرض الحقيقيين فقد لجأ القسم الأكبر منهم إلى الدول العربية المجاورة مثل الأردن و سوريا و لبنان تحت ضغط المذابح والمجازر الوحشية التي قام بها اليهود بمساندة بريطانيا التي أنشأت هذا الكيان في قلب الوطن العربي. ومنذ 1919 بدأت أمريكا تخطط من أجل تمكين إسرائيل من التوسع والسيطرة على فلسطين وفي هذا الصدد جاء في تقرير لجنة الخبراء الأمريكيين إلى الرئيس ويلسون في 12/01/1919 حول فلسطين واستيطان اليهود فيها ما يلي : « توصي اللجنة بإنشاء دولة منفصلة في فلسطين تحت الانتداب البريطاني ويتم توجيه الدعوة لليهود في العالم للعودة إلى فلسطين والاستيطان فيها وتقديم جميع المساعدات اللازمة لهم...» ولم تتخلى أمريكا في يوم من الأيام عن دعم وتأييد المشروع الصهيوني تحت ضغط جماعات اللوبي الصهيونية التي أسسها رجل دين بروتستاني يدعى «بلاكستون» لصالح إقامة دولة يهودية في فلسطين. ويمكن القول أن جميع رؤساء أمريكا من فرانكلين روزفلت وترمان وبيل كلينتون إلى الرئيس بوش جميعهم ساعدوا وأيدوا وآزروا اليهود لإقامة «دولة إسرائيل»، ومن كلمة كلينتون أمام الكنيست الإسرائيلي عندما زار إسرائيل في 27/10/1994 قال : « رحلتكم هي رحلتنا وأمريكا إلى جانبكم الآن وعلى الدوام...» وهكذا اعترفت الدول الغربية باليهود الصهاينة الذين اغتصبوا أرض فلسطين وأخرجوا السكان العرب الأصليين من ديارهم وهم الآن يرفضون عودتهم إلى وطنهم بعد مرورأكثرمن 60 سنة على تهجيرهم من أرضهم وينكرون حقوقهم ويرفضون إعلان دولة فلسطين صاحبة الحق، وكل ذلك تحت ضغط القوى الكبرى الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا التي تزعم أنها تدافع عن «الشرعية الدولية» التي تعني في مفهوم القاموس الأمريكي : « الغلبة للقوي»، لكن الأمر المخجل هو تهافت بعض الدول العربية لتطبيع علاقتها مع العدو الصهيوني المعتدي في الوقت الذي لا زال الجرح الفلسطيني داميا، فإذا كان من مصلحة أمريكا وحلفائها قيام دولة (إسرائيل ) في قلب الأمة العربية، فما هي مصلحة بعض الدول العربية في الهرولة إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ?إذ وصلنا إلى زمان أصبح فيه بعض العرب يدافعون عن إسرائيل أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، ويعترفون بالكيان الصهيوني المعتدي ويترددون ويتحفظون على إعلان الدولة الفلسطينية إلى حين معرفة الموقف الأمريكي من هذه المسألة منذ عام 1948 و هو عام النكبة و اليوم نراهم يكتفون بطلب عضوية فلسطين صاحبة الحق كمراقب في الأممالمتحدة في حين أن إسرائيل المعتدية على الحق هي عضو كامل في الأممالمتحدة منذ أكثر من 60 سنة . إن الفجيعة الحقيقية التي خصت بها « الشرعية الدولية» الأمة العربية دون سائر الأمم هي النكبة الفلسطينية سنة 1948 التي كانت نتيجة إنشاء الكيان الإسرائيلي حيث اقتلعت شعبا بكامله من أرضه ليحل محله شعبا غريبا عن المنطقة باللغة والتاريخ والحضارة والدين والثقافة ، فساعدت الدول الغربية على تهجير اليهود إلى فلسطين الذين كانوا يعيشون في روسياوأمريكا وأوربا وإفريقيا والمغرب العربي وغيرها من الأقطار بهدف انشاء مستوطنات على الأراضي الفلسطينية بقوة السلاح مما شجع إسرائيل على رفض تطبيق قرارات الأممالمتحدة علانية والتوسع في المنطقة في حين ظل العرب متمسكين بمبدأ « الشرعية الدولية» طوال أزيد من ستين سنة دون تحقيق أية نتيجة، فهل الشرعية الدولية تعني رفض عودة اللاجئين أصحاب الأرض الأصليين إلى وطنهم وتشجيع الاستيطان اليهودي؟ وهل الشرعية الدولية تعني ضم القدس إلى الاحتلال الإسرائيلي واعتبارها عاصمة أبدية له؟ وهل الشرعية الدولية تعني الاعتراف بالعدو المحتل فور الإعلان عن (دولة إسرائيل) بعد خمسة عشرة دقيقة على إعلان هذا الكيان ؟ وإنكار حق الشعب الفلسطيني صاحب الأرض في إقامة دولته ، وهل الشرعية الدولية تعني احتلال أراضي عربية مجاورة مثل الجولان بقوة السلاح ؟ وهل الشرعية الدولية تعني السماح لإسرائيل بامتلاك أسلحة مدمرة محرمة دوليا دون غيرها من دول المنطقة والإطاحة بأنظمة عربية بتهمة امتلاك سلاح نووي مثل ما وقع في العراق ، وشنق الرئيس صدام حسين في يوم عيد الأضحى المبارك أمام أعين مليار و 450 مليون مسلم و هم يتفرجون على إعدام رئيس دولة عربية بطريقة كاوبوية و على مذابح فلسطين و هل الشرعية الدولية تعني السماح لإسرائيل بتدمير قطاع غزة و قتل الشيوخ و النساء و الأطفال أمام أنظار الأممالمتحدة و مجلس الأمن الساهر على حماية الأمن الدولي ؟ هذه هي سياسة الكيل بمكيالين التي تتعامل بها الدول الغربية مع القضية الفلسطينية منذ بداينها . إن مفهوم «الشرعية الدولية «يعني في مفهوم قاموس الدول الغربية الغلبة للقوي ، ولها كامل السلطة في أن تطبق قرارات الأممالمتحدة على من تشاء ، و في أن تتدخل عسكريا في أي دولة كما تشاء وفي أن تعتبر هذه الدولة أو تلك خارجة عن القانون وعن (الشرعية الدولية ) ، وكل ذلك حسب مصالحها السياسية و الاقتصادية والإستراتيجية، منظمة حماس و المنظمات الفلسطينية الأخرى يعتبرون في نظر أمريكا منظمات إرهابية ، يستحقون أشد العقوبات ، في حين أن المنظمات الصهيونية والمستوطنين المعتدين على أرض فلسطين هم المظلومين في نظر أمريكا و من يسير في فلكها . فهل هذه هي «الشرعية الدولية» التي تتحدث عنها أمريكا متزعمة حقوق الإنسان في العالم ؟ إن التوجه الاستعماري الأوربي ارتأى أن الحل الوحيد الممكن لضمان مصالحه الإستراتيجية و الاقتصادية و السياسية هو العمل على تصدير اليهود المشتتين في العالم إلى فلسطين تحت مبررات خرافية على أساس أنها أرض الميعاد و على هذا الأساس يمكن القول أن الاستعمار الصهيوني هو إفراز التشكيل الاستعماري الغربي ، و أن إفرازات هذا التشكيل متنوعة، فهو استعماري احتلالي و له ارتباط بالعمالة الصهيونية ولعل شعار : ( شعب بلا أرض و أرض بلا شعب ) هو إفصاح صريح على هذه النزعة الاستعمارية . و لقد عمل زعماء الصهاينة على تشجيع تهجير السكان العرب من فلسطين و توطينهم في دول عربية مجاورة حتى يتسنى تحويل فلسطين إلى (وطن قومي يهودي ) في الوقت الذي عرف فيه الوطن العربي مؤامرات تسعى إلى تفكيك وحدته و تقسيمه إلى دويلات بهدف إضعاف قدراته العسكرية و الاقتصادية و السياسية ، ولا زالت هذه النزعة الانقسامية مستمرة إلى يومنا هذا في المشرق و المغرب ، والدليل على ذلك ما نشاهده من تآمر مفضوح ضد الوحدة الوطنية في بلادنا هذا مع العلم أن المغرب كان و ظل دائما عبر مراحل التاريخ يرفض تقسيم الدول العربية من طرف الاستعمار الغربي إلى دويلات ، و المثال على ذلك أن المغرب رفض فصل صحراء الجزائر عن الوطن الأم . في مقال للأستاذ الدكتور عبد الفتاح الفاتحي ، الخبير في قضايا الصحراء والشؤون المغاربية ، يقول في أحد المواقع حول الدعاة الجزائريين أنهم يفترون على الدين الإسلامي الحنيف، وينشرون باسمه سموم الحقد والكراهية والدعاية الرخيصة لجماعة الانفصاليين بمخيمات تندوف الذين يهددون الأمن والاستقرار في المنطقة المغاربية ، وذلك عوض إبراز جوهر مبادئ الدين الإسلامي المتمثلة : في قيم التسامح والسلم والدعوة للوحدة والتآخي وجمع الشمل ، وقد تعمَّدوا نشر تلك السموم الكريهة في قلب مخيمات تندوف لإطالة أمد تعذيب المحتجزين فيها ، ومن أجل سواد عيون الحكام الفاسدين المفسدين الجاثمين على صدر الشعب الجزائري ... في ظل ما يشهده العالم العربي من موجات عنف و صراعات دموية من جهة، وحروب طائفية قائمة على أسس دينية و عرقية من جهة أخرى . و مع تردد أصوات كثيرة في الآونة الأخيرة لخبراء حول وجود مخططات استعمارية جديدة تحاك خلف الستار تستهدف المنطقة العربية و التي ستتضح بصورتها الكاملة في العام 2018، أي بعد مائة عام من اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت الدول العربية بحدودها الحالية. حسب هذه المخططات فإن المشروع المستهدف يرمي إلى تقسيم و تفتيت الدول العربية بتحويلها إلى دويلات صغيرة وممزقة على أساس طائفي و مذهبي ، بالمقابل ستظهر فدرالية تقودها إسرائيل باعتبارها الدولة المركزية الوحيدة التي ستحكم المنطقة سعيا منها لتحقيق حلم ? إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ? بعدما تضعف دول الجوار. المحامي بهيئة وجدة