حين تغادر مراكش متجهاً إلى تارودانت عبر طريق «تيزي نْتاسْت»، فإنك تُقْبِل على رحلة عبر فضاء إيكولوجي – ثقافي لا نظير له. تبدأ سلسلة جبال الأطلس الكبير من البحر على الجنوب الغربي وتمتد إلى الشمال الشرقي عبر مئات من الكيلومترات. وقد تكوَّنت هذه النُّتوءات «عبر عمليات جيولوجية دامت الملايين من السنوات» (النازا، «سلسلة جبال الأطلس الكبير»، 2016). في العصر الجوراسيكي (أي قبل 201 إلى 174 مليون سنة قبل الفترة الحالية)، حين افترقت الصفائح القارية التي كانت ملتصقة بعضها ببعض وتكوّن المحيط الأطلسي «صار المغرب جزءاً من الصفيحة التكتونية الأفريقية». حينها «صارت قشرة الأرض رقيقة» جراء انفتاح الصدع الذي يقع فيه البحر «فتكوَّنت أودية دفعت بالجوانب إلى النتوء»، وهي التي أعطتنا جبال الأطلس الكبير (المصدر نفسه). يحييك جبل توبقال الشامخ الشاهد على هذا التاريخ الجيولوجي الجوراسيكي منذ أول وهلة عند صعودك إلى بلدات مولاي إبراهيم وآسني وويرغان، ولا يفارقك حتى تقترب من الهبوط إلى «أولاد برحيل» ومنها إلى تارودانت (جنوب). طريق «تيزي نتاست» ملتوية ووعِرة، وتبدو كأنها لا تنتهي لساعات وتمر عبر أودية وتضاريس معقدة الشكل، ولكنها خلابة في مناظرها وألوانها وطبيعتها الرطبة أحياناً والصخرية الجافة أحياناً أخرى. فوق الجبال وعلى الأعالي كانت الساكنة تحتمي عبر العصور، خصوصاً من بطش الغزاة وهجمات القبائل ومرور قوافل القياد وجيوش السلاطين والمستعمرين. العزلة وغياب الطرق المؤدية إلى «المداشر» المتربعة على عروش الصخور صمام أمان في وجه الخطر المحدق بالعشائر عبر العصور. في العقود الأخيرة تم فك العزلة عن البعض، ولكن العيش فوق الجبال تحوَّل عبر الزمن إلى ثقافة، إلى تداخل حميمي بين الإيكولوجيا والفعل الإنساني. يقول علي أمهان في كتابه «التحولات الاجتماعية في الأطلس الكبير» (1998) إن التقسيم الإيكولوجي السوسيو-اقتصادي في الأطلس الكبير يعتمد على تراتبية جغرافية عمودية تمتد من السهول على سفح الجبل (أزغار بالأمازيغية) مروراً ب«الدِّير» (أي بداية الجبل عند أعالي السفح والمتميزة بأشجارها وفواكهها)، وتأتي في الطابق الثالث الغابة (تاكانت) وهي مصدر للكلأ والأواني وآليات الحرث وغيرها، ثم «المراعي» (إيكودلان جمع أكْدال)، وهي مساحات على القمم تكون مكسوة بالثلج والجليد طوال فصلي الشتاء والربيع، غير أن ذوبان الثلج في الصيف يُرْديها مراعي خصبة يقصدها الرعاة حتى نهاية فصل الخريف. مع الأمن والاستقرار اللذين توفرا في فترة الحماية، خصوصاً في عهد الاستقلال، انتقل كثير من السكان إلى الطابق الثاني فوق سفح الجبل (الدير) الغنية بالمياه والأشجار والقريبة من مراكش، فتكونت أو كَبُرت بلدات مثل تَحَنَّاوت وآيت أورير وأمزميز وآسني ومولاي إبراهيم وغيرها. لكنّ عدداً من القبائل اختار المكوث في قراها ومداشرها حول أودية تقع على الشريط الممتد ما بين «الدير» و«تكانت»، مستغلة «الإيكودلان» للقيام بالانتجاع (التنقل الرعوي الذي بدأ يقل في السنوات الأخيرة) بين القمم والغابات (أو ما تبقى منها). جل السكان يعيشون على الرعي والتجارة ويُعوِّلون على هجرة الأبناء والآباء إلى مدن أخرى أو إلى الخارج للعمل والتجارة وتحويل جزء من المداخيل للعائلة فوق الجبل. يسكنون بيوتاً من طين، سقوفها من عود أو قصب وطين، رغم أن البعض التجأ أخيراً لاستعمال الإسمنت والآجور حين يتم الترخيص بإصلاح البيوت أو توسيعها. حين ضرب الزلزال ليلة 9 سبتمبر (أيلول)، حدثت أضرار على مستوى الدير والأودية ولكن بقوة أكثر على مستوى المداشر القريبة من القمم (من إيكودلان) التي هي بؤرة الزلزال. الكثافة السكانية قليلة ولكن هناك قرى دُمِّرت عن آخرها ولم يتم الوصول إليها بسرعة نظراً لانجراف التربة والصخور على الطرقات وصعوبة إخلائها لتسهيل مرور الشاحنات والآليات والوقاية المدنية وسيارات الإسعاف... ما إن تقع هزة ارتدادية جديدة حتى تنجرف التربة والصخور من جديد، ويتم التدخل لجعل الطرقات صالحة للاستعمال مجدداً. كانت الطائرات المروحية العسكرية تنقل الغذاء والمواد الأساسية وتنقل المرضى إلى المستشفيات، ولكن إغاثة من هم تحت الأنقاض كانت تتطلب وصول الفرق المتخصصة بَرّاً. من لم يفهموا هذا، ظنوا بأن هناك تلكؤاً من السلطات لحسابات معينة، ولكنهم يعرفون طبيعة تضاريس الأطلس الكبير وثقافة أهله وسكانه. الملك محمد السادس أعطى التوجيهات لمباشرة إعادة الإعمار بسرعة على أن يتخذ الأمر شهوراً فقط، وليس سنوات. ما ستعمل عليه الحكومة المغربية، تبعاً لتوجيهات العاهل المغربي، هو تثبيت السكان في مخيمات وإقامات مؤقتة تتوفر على شروط العيش الكريم والتدفئة والولوج إلى الصحة وولوج الأبناء إلى المدرسة، مع التتبع الاجتماعي والسيكولوجي لتدبير وقع الفاجعة على الأفراد والمجموعات. وفي الوقت ذاته إعداد مخططات لإعادة الإعمار. تتطلب عملية إعادة الإعمار أولاً، جرداً دقيقاً للحاجيات من بنية تحتية وسكن وإعادة بناء القرى والمداشر والمراكز القروية والمستوصفات والمدارس وغيرها من التجهيزات الاجتماعية والثقافية، وكذا تنمية اقتصادية خالقة للشغل والثروة. وحسب بيان الديوان الملكي الصادر في 14 سبتمبر 2023 والذي جاء على خلفية اجتماع ترأسه العاهل المغربي، فإن عدد المساكن التي تضررت جزئياً أو كلياً من الزلزال بلغ خمسين ألفاً. هكذا تقرر إعطاء ثمانية آلاف دولار لإعادة ترميم الدور المتضررة جزئياً وأربعة عشر ألف دولار بالنسبة للدور التي سقطت كلياً. وفي الإطار نفسه سيتم دعم السكان المتضررين بتحويلات مباشرة تصل إلى 250 دولاراً شهرياً لمدة سنة. الإنجاز حلقة مهمة في تدبير إعادة الإعمار. وما زالت الحكومة لم تحدد هل ستقوم هي بالإنجاز لصالح السكان، أم أن السكان سيتولون الأمر، وستسهر الحكومة على إنجاز البنية التحتية والمرافق الاجتماعية والثقافية والمنشآت المشتركة داخل القرى، وكذا السهر على الحفاظ على الموروث المعماري التقليدي والثقافة المحلية. أكيد أن الحكومة ستلجأ إلى استعمال الطرق التقنية الحديثة في جعل السكن ذي مناعة ضد الزلازل في منطقة لم تكن تُعد حتى الآن ذات نشاط تكتوني مستمر. قد تشترط الحكومة استخدام اليد العاملة المحلية من أبناء المنطقة لخلق فرص التشغيل لدى السكان، وتَبَنِّي طرق مبتكرة لإشراكهم، بمن فيهم النساء والشباب، في اتخاذ القرارات والتشاور معهم. إن هذه المقاربات تبقى محمودة إن تم العمل بها بموازاة مع تتبع التنفيذ وتحديد الأدوار والمسؤوليات بشكلٍ واضح وإعطاء تشجيعات للاستثمار في المنطقة ودعم المبادرة الخاصة، وبالتالي سيتم خلق نموذج متجدد للتنمية المحلية يضمن استدامة المشروعات وتأثيرها الإيجابي وتبنيها من طرف السكان. وتبقى مسألة التمويل هنا أساسية. ويبدو أن الحكومة المغربية لديها من الهوامش المالية ما يمكنها من تعبئة الموارد التي تحتاج إليها، مع العلم أن الشراكات مع الجهات المانحة سواء الدول أو المنظمات متعددة الأطراف، أمر لا محيد عنه من أجل وضع محفظة تُموِّل ليس فقط إعادة الإعمار، ولكن أيضاً عملية تنموية شاملة تعطي نقلة نوعية للمنطقة تكون مثالاً للتنمية القروية في المغرب برمته. *نقلا عن الشرق الأوسط