يأتي الهجوم الإرهابي الغادر على بلجيكا بتاريخ 23 مارس 2016، وفي القلب من عاصمتها بروكسيل، في سياق موسوم بعولمة الإرهاب، وفي محيط تتسم فيه السياسة الدولية باختلال الموازين، حيث يحتل العنف علامة مميزة للعلاقات بين الدول والشعوب، وتبرز فيه قوى فوق دولتية لها من التأثير في العلاقات الدولية ما يمكنها من قلب المعادلات وإرباك السلم والأمن الدوليين، وفي هذا الإطار تندرج الظاهرة الإرهابية –بشبكاتها ومنظماتها وارتباطاتها- لتحتل الصدارة في قائمة القضايا التي تؤرق الإنسانية جمعاء. والمفارقة، أن أشد مراحل عنفوان وتمدد المنظمات الإرهابية، تعتبر هي بالذات من أشد مراحل الانحطاط الفكري والديني والاختناق السياسي لتلك التنظيمات المتطرفة، على الرغم من اشتداد الفعل التخريبي للشبكات الإرهابية بكل أشكالها ومسمياتها، ذلك النشاط العابر للقارات والحدود. وهي نفسها ذات الشبكات التي سبق لها أن ضربت بعنف في عدد من عواصم العالم الأخرى، على اختلاف الأجناس والأسقاع والانتماءات الحضارية، كتونس وتركيا وغرها من دول كثيرة من المعمورة. هذا الهجوم المتوحش والأعمى، يحمل مؤشرا بارزا من مؤشرات المؤامرة الواضحة والتخطيط الماكر، الذي يقف خلف نشأة هذه التنظيمات، ويعمل على تغذيتها وتمويلها وتسليحها وتمكينها وتمددها، وتوجيهها نحو أهداف منتقاة بعناية، لتحدث أفدح الأضرار وأوسعها أثرا، حيث شملت-الأضرار- جميع المسلمين في الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي أوروبا وفي كل أنحاء العالم. فما حدث في بروكسل يقرع أجراس الإنذار مجددا أمام خطر الإرهاب الداهم الذي يهدد أمن واستقرار الإنسانية جمعاء، وهو-الخطر الإرهابي- ينمو ويتمدد ديموغرافيا ليشمل كل مكان، في سياق عولمي مجنون طافح باختلال الموازين. فالهجوم الإرهابي الذي وقع على المدنيين في مطار العاصمة البلجيكية، يعد عملاً همجيا يتنافى مع منطق الدين والمروءة والأعراف الإنسانية، فضلاً عن منافاته لقواعد الإسلام القاطعة ونصوصه الواضحة، وهو علامة إفلاس وعمى وتيه. لذلك فهؤلاء الذين يحملون فهما دمويا أبتر، يجيز لهم قتل أي مدني في العالم تحت علة الكفر، فهم أجهل ما يكونون بالدين وأبعد عن رحمانيته للعالمين وأنأى عن رسالته التحريرية للبشرية جمعاء، وليس لديهم أي درجة من درجات العلم الذي يؤهلهم للنطق باسم الدين. شيء من التاريخ للفهم لنرجع إلى التاريخ القريب لنستهدي ببعض مفاصله ونسترشد ببعض وقائعه، محاولة منا لفهم بعض الخيوط ولوعي مجريات الأمور، ولربطها ببعض. فمنذ الهجمات التي تعرضت لها أمريكا في سبتمبر 2001، لم تغب بلجيكا عن سجل العمليات الإرهابية التي ضربت القارة الأوروبية في السنوات الماضية -فقبل يومين من تلك الهجمات تمكن شخصان من الحصول على جواز سفر بلجيكي، بحجة السعي لاستكمال دراسة الصحافة، وغادرا تونس في اتجاه أفغانستان، وهنالك التقيا بأحمد شاه مسعود-القائد الأفغاني المعروف، وفجرا الكاميرا التي استخدماها في المقابلة الصحفية معه، وأردياه قتيلا. -في تفجيرات مدريد عام 2004 تمكنت السلطات البلجيكية من إلقاء القبض على يوسف بلحاج الملقب بأبو دجانة والمتحدث باسم القاعدة، بعد عام تقريبا من الحادث، باعتباره المشتبه به الرئيسي في تلك العملية التي تعرض لها مترو العاصمة مدريد، وراح ضحيتها نحو 170 شخصا. -بعد تفجيرات لندن لعام 2005 تمكن مختار إبراهيم، المتهم الأول، من الهروب إلى بلجيكا، وبعد عمليات تفتيش ألقت السلطات القبض عليه. -أيضا كانت بروكسل حاضرة بقوة في الهجمات التي تعرضت لها باريس في عام 2015، حيث تبين أن عبد الحميد أبا عوض، العقل المدبر، كان يعيش في مولانبيك أحد أحياء بروكسيل، مع خلية إرهابية تضم صلاح عبد السلام، الذي هرب بعد الهجمات إلى بروكسل مرة أخرى، وتم اعتقاله قبل أربعة أيام من تفجيرات المطار والمترو في بلجيكا. تعمدنا أن نعيد للذاكرة هذا السجل التاريخي الذي يتضمن اسم بلجيكا كطرف في العمليات الإرهابية وكمقر للإرهابيين الذين قاموا بتنفيذها، لنربط بين الأسباب والتطورات والسياقات. وهنا يثور سؤال مثير للغرابة والحيرة، لماذا بروكسل؟ ما الذي جعل بلدا أوروبيا كبلجيكا المسالمة، والتي لا تخوض حربا ضد العرب والمسلمين، ولا تحتل أرضهم ولا تدنس مقدساتهم، ولم تدمر مؤسساتهم ولم تشرد شعوبهم، بل بالعكس من ذلك آوتهم من ضيق واندمج المسلمون هنالك ومكنتهم من المواطنة، لماذا تكون-بلجيكا هذه- هدفا سائغا للغزوة البربرية، مما يجعلها في دائرة الاستهداف والتفجير من قبل قوى التطرف والإرهاب الداعشي.. إن استهداف بلد مسالم، هو ضرب من الجنون، وفعل متوحش يستعصي على الفهم، وهو خارج حدود الإنسانية ويستغلق على معايير الادراك والتفسير والفهم بكل درجاته ومستوياته. لكن لنتمهل قليلا، نحن نعلم أن بلجيكا كانت بمثابة ملجأ للمحسوبين على التنظيمات الإرهابية التي نفذت عملياتها في عدد من العواصم الأوروبية، وما أدل على ذلك من وجود نحو 500 مقاتل يحملون الجنسية البلجيكية مع داعش في سوريا والعراق. فبمقدورنا أن نتصور-بالنظر لذلك- أن العملية الإرهابية التي صدمت البلجيكيين والأوروبيين والعالم أيضا لم تكن مفاجئة ومحض صدفة. فكل التقديرات الأمنية - خاصة بعد هجمات باريس -ناهيك عن عدد من التصريحات الرسمية كانت تؤكد أن بروكسل ستكون هدفا للإرهاب الأهوج. صحيح أن خبرة البلجيكيين تبدو فقيرة في التعامل مع مثل هذه العمليات النادرة، وصحيح أن ثنائية الأمن والحرية لم تكن حسمت بشكل حازم لمصلحة الأمن. لكن الصحيح أيضا أن بلجيكا كانت ضمن بنك الأهداف المعلنة لدى داعش. وأن العملية التي جرى تنفيذها بعد اعتقال صلاح عبد السلام، كانت مقصودة في توقيتها أولا، وفي الرسائل التي تحملها من مركز صناعة القرار السياسي في أوروبا إلى أطرافها، سواء تعلقت بالناتو والحلفاء العسكريين أو بملف اللاجئين أو بملف التدخل في الصراعات والحلول السياسية في المناطق التي تتمدد فيها داعش (سوريا وليبيا والعراق تحديدا)، أو حتى بملف الجاليات الإسلامية التي تحاول داعش أن توظفها في صراعها الإرهابي مع أوروبا. نحن-إذن- أمام تطور مذهل لحالة التطرف البشعة التي تلحق الضرر بنا جميعا، وأعتقد أن الضرر الذي يصيب المسلمين ويصيب الإسلام، أشد من ذلك الضرر الذي يصيب بعض شعوب العالم الأخرى، ويبدو أن المعالجة لن تكون مجدية، إذا كانت مقتصرة على محاولة القول إن الدين منها براء، لأن العالم لن يكترث كثيراً تجاه هذا المنطق الدفاعي الهزيل، وسوف ينظر الأوروبيون وكل شعوب العالم إلى المسلمين والعرب نظرة احتقار وازدراء دون تمييز، ودون توقف على ما يحمله من فكر معتدل أو غير معتدل، وسوف تصبح السحنة الشرق أوسطية محل تهمة في كل مطارات العالم وفي كل المحلات التي يحاول المسلم العادي أن يصلها، وهو بعض مما يفسر نمو نزعة الاسلامفوبيا في الغرب، التي تغذيها نزعات التطرف العنصري المدعومة بمراكز الدعاية الإعلامية في الغرب ضد الإسلام والمسلمين. الخلاصة نريد أن نشير- في النهاية -إلى مسألتين: الأولى تعنينا نحن، كمسلمين وعرب ومغاربة، حيث كشفت عملية تفكيك بعض الخلايا الإرهابية التي كان يمكن أن يتم تنفيذها لولا يقظة الأجهزة الأمنية، عن تحولات في استراتيجية المنظمات الإرهابية. ربما تبدو ثمة مشتركات بين بلجيكا وبين عديد من الدول كمقر أو كممر للإرهابيين المفترضين، لا نريد هنا الدخول في تفاصيل هذه المشتركات، وهي متعددة، لكن ما جرى في بروكسل يمكن أن يتكرر في عواصم أخرى، كما حدث في منطقتنا كما في أوروبا وغيرهما، ما يدعو فعلا إلى الانتباه والحذر، وتحصين الوحدة الوطنية واللحمة الجامعة الموصولة بالثوابت الوطنية وفي القلب منها الإسلام الوسطي المعتدل، والاعتصام بالخيار الديمقراطي وتمنيع تجربة الإصلاح في إطار الوفاق الوطني المفضي إلى الاستقرار. أما المسألة الثانية فهي أن الإرهاب أصبح اليوم معولما، وقادرا على التمدد ولديه ما يكفي من الأدوات ووسائل التمويه والتسرب والمباغثة، وبالتالي لا يمكن لأي دولة أن تكون في مأمن منه. فالإرهابي لا يتمتع باي صفات فارقة. كما أن الإجراءات الأمنية مهمة لكنها –لوحدها– لا تكفي للتحصين. وحتى لو حسمنا ثنائية الأمن والحرية لمصلحة الأمن، وصعدنا من وتيرة الحلول الأمنية والاستباقية، فإن الحاجة تبدو ملحة لمعالجات شمولية مندمجة، فكرية وسياسية واقتصادية وتربوية. ونحن هنا معنيون بهذا الجانب. كما أن الأوروبيين مدعوون إلى الأخذ بها. لذلك فإنه يتوجب على العالم العربي والإسلامي بشعوبه وأنظمته، ومؤسساته الرسمية والمدنية، وعلى العلماء والعقلاء أن يفكروا في كيفية مواجهة هذه الشجرة الخبيثة مواجهة شاملة على كل المسارات وفي كل المجالات، عبر منظومة متكاملة تربوياً وعلمياً وثقافياً وسياسياً وأمنياً، عبر رؤية طويلة الأمد، ويجب الحذر من الأطراف الدولية والإقليمية التي تعمل على تصنيع الإرهابيين، وكشف مؤامرة رعاية داعش بكل جرأة، وبكل صراحة وأمانة علمية، لأن المسألة تأتي في سياق التخطيط المجرم، الذي يجد ضالته في شبابنا الذي يكتنز الجهل والكبت والفقر والبطالة والإحساس بمشاعر الهزيمة والإحباط.