شغلت أحداث فرنسا الجميع، وستبقى حديث وسائل الإعلام والمنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي حتى بعد أن تخبو شرارتها، إن قدر لها ذلك. فمنذ اغتيال القاصر نائل مرزوقي ذي الأصول الجزائرية بالقرب من ساحة نيلسون في مدينة نانتير ضمن إقليم أعالي السين، من طرف شرطي أطلق عليه الرصاص فأرداه قتيلا، مدعيا في البداية أن استعمال الرصاص جاء دفاعا عن النفس، منذ تلك اللحظة لم تتوقف الاحتجاجات التي انطلقت من مدينة نانتير، مسقط رأس الشاب نائل، لتعم كامل التراب الفرنسي، وسرعان ما تحولت إلى أعمال شغب التهمت الأخضر واليابس. وعرفت في البداية مشاركة شباب الضواحي، قبل أن تتحول إلى سيل جارف. أرادت الشرطة في البداية أن يأخذ الملف منحى الدفاع عن النفس بدعوى محاولة الشاب دهس الشرطيين اللذين أوقفا السيارة، لكن ظهور شريط فيديو من اثنين وخمسين ثانية، فند تلك الادعاءات بكشفه عن عبارات عنصرية، وتهديد باستهداف رأس الشاب بالرصاص. ردود الأفعال الرسمية في البداية، اعتبرت أن القتل غير مبرر، مع وعد بفتح تحقيق قضائي في الموضوع اتجه منذ بدايته نحو إدانة الشرطي، إلا أن ذلك لم يخفف من تسارع وتيرة الأحداث، بل أصبحت منفلتة لدرجة يصعب التحكم فيها بتحول الاحتجاجات إلى أعمال شغب جارفة حولت شوارع فرنسا إلى ساحة حرب حقيقية، يتم فيها تبادل إطلاق النار، وتخريب المنشآت العمومية، والهجوم على المحلات التجارية والسطو على محتوياتها، ومع تزايد أعمال العنف التي قادها قصر، واحتدام المواجهة بين الشرطة والمحتجين، تبين أن المواجهة لن تكون سهلة، وأن المقاربة الأمنية للملف عجزت عن احتوائه. فظهرت تصريحات وتصريحات مضادة، الرئيس إيمانويل ماكرون الذي ألغى أنشطة رسمية منها زيارة الدولة التي كانت مبرمجة لألمانيا، خرج عن هدوئه الذي لزمه في بداية الأزمة، وأصبح ينزل المزيد من القوى بمختلف تلاوينها إلى الشارع، ودعا إلى أن تتحمل الأسر مسؤولياتها في توجيه الأبناء في تناقض تام مع القيم التي روج لها الغرب من الإعلاء من قيمة الحرية الفردية، والتخلص من سيطرة القيم التقليدية على الحياة. في خطاب يتقاطع بشكل تام مع كلمة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في مناسبة مشابهة لما يحدث الآن بفرنسا، الفرق الوحيد بين الكلمتين، وقوف ماكرون عند دور مواقع التواصل الاجتماعي فيما يقع، وهو ما لم يتحقق في عهد شيراك. وأخيرا هناك تلويح بإعلان حالة الطوارئ، إذا خرج الأمر عن السيطرة، وهو خيار لجأت إليه السلطات الفرنسية على مدار الخمسين سنة الماضية، خمس مرات. ما يحدث الآن بفرنسا، ليس بالأمر الغريب، فقد عرفت فرنسا وغيرها من الدول، الولاياتالمتحدة، وبريطانيا وغيرهما، أحداثا مشابهة احتجاجات هنا وهناك، أطلقت شرارتها اغتيالات نشم منها رائحة العنصرية، وتنضح رفضا للحكرة وتعبيرا عن فشل ذريع في إدماج شريحة واسعة من المواطنين، يتعلق الأمر بفرنسا بسكان الضواحي المشكلين في الغالب من ذوي الأصول المغاربية. لكن الغريب فيما تعرضه أمامنا وسائل الإعلام وتنشره الصحافة في كل بقاع العالم، برودة دم الحكومات والمنظمات الحقوقية التي بلعت لسانها، لتعبر صراحة أن الأمر شأن داخلي لفرنسا، وإن كانت بعض وسائل الإعلام خرجت عن هذا الحياد، وعبرت جرائد في إيطاليا وبريطانيا، وحتى الولاياتالمتحدة، عن مواقف لا تتقاطع مع مواقف حكوماتها، فنجد جريدة أمريكية واسعة الانتشار تتحدث عن ثورة شاملة ضد العنصرية وعنف الشرطة. ماذا لو كانت هذه الأحداث لا تجري بعاصمة الأضواء، وماذا لو كان مسرح الأحداث في دولة عربية، أو حتى بلد من بلدان العالم الثالث. وقتها سيكون الأمر مختلفا. سيتم تلقين هذه الدول دروسا في حقوق الإنسان، وتسجيل اللجوء المفرط للقوة، ولاستقوى المحتجون بدول تعلن أنها راعية لحقوق الإنسان عبر العالم، ولاستقبلت قنواتها كل معارض مزعوم، يكشف تحت الطلب، ما خفي من تجاوزات بلده في مجال حقوق الإنسان، وهو يعلم علم اليقين، أنه ما كان له ليظهر على شاشات تلك القنوات، لو لم ينهش لحم بلده. وما أزمات الربيع العربي ببعيدة عن الأذهان، حين كانت الدول العظمى تحذر البلدان التي تعرضت لشرارة الأحداث من مغبة اللجوء المفرط للقوة، داعية إياها إلى التعقل في مواجهة الأحداث، في وقت كانت أنظمتها تتعرض للاجتثاث.